(1)
المعركة ليست "هنا" وفقط، لكنها بالأساس "هناك".
كلمة "هُنا" قد تعني الحاضر، وكلمة "هُناك" قد تعني المستقبل
النصر ليس "هنا" وفقط، لكنه بالأساس "هناك"
"هنا" قد تعني "الدنيا"، و"هناك" بالتأكيد هي يوم الحساب.. يوم الفوز العظيم
هكذا أخوض معركتي مع الظالمين الفاسدين المتبجحين، لهم معاييرهم للنصر ولي معاييري، وكلي ثقة أننا الفائزون وأنهم الخاسرون مهما توهموا أنهم يحسنون صنعا
(2)
كنت في شبابي أقرأ لافتات الشوارع في مصر واتعجب: هذا ميدان لاظ أوغلي، وهذا شارع قره بن شريك، وذلك سليمان الفرنساوي، ودارا وقمبيز ووينجت وكيتشنر وطوسون وخوشقدم وعبد الخالق ثروت، و..."الشيخ العبيط"..
كنت صبيا شغلته قصة "الشيخ العبيط" وكيف أصبح اسمه على شارع مهم ملاصق لميدان التحرير ويتضمن مقر وزارة الخارجية المصرية المواجه لجامعة الدول العربية وجامع وتمثال عمر مكرم؟
لكنني عندما كبرت وصدمني التاريخ المسكوت عنه لبلادي، شعرت أنني مدين باعتذار للشيخ العبيط، فالأسماء الفخمة التي ذكرتها معه كانت من أعداء الشعب وأعداء الدولة المصرية نفسها، لكن الفارق أن الشيخ العبيط (لسبب ما) وجد طريقه إلى لافتات الشوارع فتندرنا عليه، بينما وينجت المندوب الانجليزي خليفة لورد كرومر وكيتشنر وسليمان الفرنساوي كانوا من أعداء البلاد، حتى وان تولوا مناصب رسمية كبيرة واجتهد أحدهم في تحديث جيش الخديو على الطريقة الأوروبية، كما أن جباة وسلاطين ومحتلين فرس وأوروبيين صاروا أعلاما نطلق اسماءهم على شوارعنا، لأن التاريخ الرسمي يمجدهم، ومن هؤلاء الطغاة كان عبد الخالق ثروت، الذي تصدر اسمه شارع مهيب في وسط القاهرة تقع فيه نقابة الصحفيين ونادي القضاة ونقابة المحامين، وكنا في الثمانينات نطلق على هذه المنطقة "مثلث الرأي المرعب" لأن المعارضة كانت تحتمي في هذه المنطقة حيث تعقد المؤتمرات والمظاهرات في حماية نقابتي المحامين والصحفيين وهيبة نادي القضاة، حتى طغت الدولة البوليسية وشطرت النقابات ووضعت معظمها تحت الحراسة ونكلت بالقضاة ورئيس النادي "التاريخي" المستشار زكريا عبد العزيز قائد ثورة استقلال القضاة في عصر مبارك، وتم اقتحام نقابة الصحفيين والتنكيل بنقيبها يحيى قلاش وسيطرة الأمن على كل صوت في مصر، بحيث صار الشارع العريق يليق باسم جلاد الحرية عبد الخالق باشا ثروت!
(3)
كنت أرى التماثيل المصفوفة على جدار قاعة النقابة القديمة، وأسأل من هؤلاء، فيرد الكبار بذكر أسماء لا أعرف معظمه في ذلك الوقت، لكنني اكتشفت مع الزمن أن التاريخ لا يسجل إلا اسماء المسؤولين وصور النقباء، ولما وجدت احتفاء الصحف الرسمية بصحفي "أمنجي" اسمه مكرم محمد أحمد، وتدشن قاعة باسمه، وحفلة وجائزة وتاشيرة حج وعلبة بسكويت، قلت: آآآآآآه هي كده بقى.. يعني بكره الأولاد الصغار يتلقون في مدارسهم، دروسا في التربية الوطنية، تخبرهم بأن توفيق عكاشة قائد ثورة وأحمد موسى إعلامي عظيم، ومصطفى بكري نقيب الأشراف، وعمرو أديب هو إديسون مخترع مصباح علاء الدين، ومصطفى كامل نقيب الموسيقيين هو صاحب نشيد بلادي بلادي، وأن عبد الفتاح السيسي هو محرر مصر من الهكسوس وقاهر الإثيوبيين، حامي النيل وباني الأهرامات، ومنشيء العاصمة الاكتوراية الجديدة، وصاحب أكبر مسلة لخوزقة أهل الشر في بر مصر والأقاليم المجاورة.
(4)
لا أستطيع أن أصنع تمثالا لنفسي وأقيمه في أي شارع في مصر، ولا أستطيع أن أضع إسمي على لافتة باسم شارع أو ميدان أو نفق أو محور، كما حدث مع صفاء وياسر والضابط "هاك ستيب" الذي جاء من أمريكا محاربا في شمال أفريقيا فوجدنا إسمه على أشهر معسكر حربي للجيش الوطني المصري، لكن هذا لا يعني أن المعركة انتهت بانتصار الأوغاد وأعداء البلاد، فالشيخ العبيط يمنحنا الأمل في يوم نزيح فيه أسماء الطغاة والخونة من ذاكرة التاريخ لتفسح أماكنها للشعب وأبطاله العاديين، لذلك اقسم بالله العظيم أنني لن أتركهم يمروا، ما دمت قادرا على فضح الخونة المستترين تحت رداء الوطنية، فالقصة محزنة حقا على مر تاريخنا، هناك اسماء عملاء وعسس وجباة تسللوا من الماضي إلى المستقبل، وتم تلميع اسماءهم في كتب التاريخ وعلى جدران الشوارع وتماثيل الميادين، ولأنهم "كلاب سلطة: فقد رعتهم الدولة وفرضتهم كأبطال على الشعب الذي تعذب بأيديهم: هذا جلاد دنشواي عميل الانجليز، وهذا "كرباج السراي"، وهذا "أقسى الجباة وجلاد الفلاحين"، وهؤلاء خونة عرابي في القتال وفي التنكيل معنويا وماديا بعد عودته المنفى..
بكل خجل من تاريخنا المبهم عرفت مأساة "بركة غيطاس" لأول مرة من ذلك الناشط الفرنسي، لأنه إطلع على مراسلات الضباط وتقارير الحملة التي وقعت قبل أكثر من مائتي عام، بينما نحن لم نعرف حتى الآن: من يكون "اللهو الخفي"؟، وما حقيقة "الطرف الثالث"؟، ومن حاول اغتيال عمر سليمان؟ ومن جاء بالبلاء على البلاد باعتباره حلا وإعجازا وانجازا؟..
إذن فلننظف الذاكرة حتى لا يتوسط ميدان الدقي في يوم ما تمثالا لعميد الحرية الدكتور عبد الرحيم علي (ببغاء الصندوق الأسود)
(5)
أتذكر أيام السادات بعد "كامب ديفيد"، كنا نلتقي شلة من الأصدقاء في كازينو على كورنيش النيل، وفوجئنا مرة بقوة من البلدية جاءت لتهدم الكازينو لأنه مقام على أرض "طرح النهر" غير المسموح بالبناء عليها، وكان صاحب الكازينو يعيد البناء بحوامل حديدية وجدران قليلة، ويتكرر مشهد الهدم، حتى فكر الرجل في حيلة تردع البلدية عن هدم الكازينو، فاتفق مع فنان مغمور على نحت تمثال نصفي للسادات ووضعه في مدخل الكازينو بعد دعوة عدد من الصحفيين، وانتشر الخبر ونال الرجل حصانة ولم تستطع البلدية أن تهدم المكان الذي يحميه تمثال الرئيس!
(6)
هكذا يقف القانون عاجزا أمام تماثيل الطغاة، لأن تاريخنا الشعبي يحتاج على أمثال "ويليام تل".. ذلك الرجل العادي الذي لم ينحن لتمثال ولم يخضع لمذلة، فصنع التاريخ وكتب اسمه مكان اسم الملك..
هذه هي المعركة التي تخوضها هذه المقالات (سلسلة أكفر بكم)، لابد من نسف الأصنام والتوبة عن عبادة الشياطين، مهما كانت قدرتهم ومهما كانت غوايتهم ومهما كان انتقامهم، علينا أن نتذكر انسانيتنا ونخوض معركتنا الأصيلة بشجاعة المستحقين، وهذا يعني أن الفضح ليس نهاية المطاف بل الخطوة الأولى في معركة طويلة لابد وأن تنتهي بتنظيف التاريخ من القاذورات، فالميكروفون والسجاجيد والأخبار في الصفحات الأولى صارت لمن يقدر ومن يملك وليس لمن يستحق، ولابد وان نصصح هذا الشذوذ الإعلامي والسياسي ونضع التبن في مكانه والتبر في مكانه، فالجاهل صار يخطب في الناس، والظالم صار يتصدر لإقامة العدل، والقامع صار يتحدث عن الحوار والديموقراطية، واللص صار يتحدث عن الأمانة، والمجرمون صاروا حراسا للأمن والاستقرار.. أي مهزلة هذه؟، وإلى متى نقبل باستمرارها كقانون لطغاة لا يحترمون القانون، ويستخدمونه كمطية لأغراضهم الخسيسة؟!
(7)
توسمت خيرا في السيدة ماكرون، فقد قرأت منذ فترة تقريرا عنها فهمت منه أنها انتقدت نوعية التماثيل المنصوبة في شوارع فرنسا، وأن مجرم حرب مثل كليبر لا يصح أن يقام له تمثال، لأن ذلك يعني تزوير التاريخ وتقديم جنرال دموي للأجيال اللاحقة في صورة بطل لفرنسا، وقبل أن أكت هذا المقال عدت لأوراقي وفتشت عن الحوار الأصلي الذي قالت فيه بريجيت ماكرون هذا الكلام، فوجدت العكس، كان السيدة بريجيت تتحدث عن ضرورة احترام الماضي، لأن الماضي هو "أصل المستقبل" الذي نعيشه، وكان السؤال عن تصورها لمستقبل علاقتها بالزوج ماركون ولم يكن سياسيا، لكن أحد النشطاء الفرنسيين اقتبس العبارة وعارضها وكتب مقالا يقول فيه: إن الماضي المزور يصنع مستقبلا زائفا، لذلك ينبغي تنظيف الماضي حتى لا نتورط في مستقبل ملوث، يحترم فيه الناس الطغاة واللصوص والقتلة، وتحدث الناشط عن جرائم كليبر في الحروب الأوروبية وفي قمع الثورة الثانية في مصر وحرق بولاق وإبادة قرية "بركة غيطاس" في البحيرة وحرق كل ما فيها من بشر وشجر وحجر..
لا أستطيع أن أصنع تمثالا لنفسي وأقيمه في أي شارع في مصر، ولا أستطيع أن أضع إسمي على لافتة باسم شارع أو ميدان أو نفق أو محور، كما حدث مع صفاء وياسر والضابط "هاك ستيب" الذي جاء من أمريكا محاربا في شمال أفريقيا فوجدنا إسمه على أشهر معسكر حربي للجيش الوطني المصري، لكن هذا لا يعني أن المعركة انتهت بانتصار الأوغاد وأعداء البلاد،
وبكل خجل من تاريخنا المبهم عرفت مأساة "بركة غيطاس" لأول مرة من ذلك الناشط الفرنسي، لأنه إطلع على مراسلات الضباط وتقارير الحملة التي وقعت قبل أكثر من مائتي عام، بينما نحن لم نعرف حتى الآن: من يكون "اللهو الخفي"؟ وما حقيقة "الطرف الثالث"؟، ومن حاول اغتيال عمر سليمان؟ ومن جاء بالبلاء على البلاد باعتباره حلا وإعجازا وانجازا؟..
هذا لأننا لم نطلع على نصوص المحاضر والتقارير المرتبطة بثورة يناير قب عقد واحد فقط، وهذا يعني أنهم يخبئون الماضي بينما يتحدثون عن أوهامهم باعتبارها الحاضر الزاهر وباعتبارها المستقبل العظيم، ولديهم تبريراتهم في كل الأحوال، لأن لديهم فرق الطبلخانة والمنادين وعوالم الزفة وبلطجية المواكب، وهذا ما لا يجب أن يستمر، حتى لا يظل حاميا حراميها كما يقول القول الشائع في مصر
المعركة مستمرة..
وفي المقال المقبل نواصل الحكايات..
tamahi@hotmail.com
مبادرات زائفة لـ"عودة المعارضين".. مفاهيم ملتبسة (20)