أعاد الرئيس السابق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين العالم المقاصدي المغربي الدكتور أحمد الريسوني طرح السؤال القديم المتجدد: هل الشورى ملزمة للإمام وعليه الانقياد للغالبية أم لا؟ وهو سؤال يتصدر المشهد السياسي العربي والإسلامي في السنوات الأخيرة لا سيما مع ثورات الربيع العربي التي فتحت الباب لمشاركة الإسلاميين في الحكم لأول مرة في تاريخهم المعاصر قبل أن يعودوا لذات مربع المحنة الذي عايشوه على مدى نصف قرن من الزمان..
أهمية سؤال إلزامية الشورى من عدمها للحاكم، لا يخص الإسلاميين ولا يرتبط بهم فحسب، وإنما هو سؤال ملزم للتجارب العربية والإسلامية التي لا تزال تطمح إلى إمكانية نحت كيانها الديمقراطي من مدخل التداول السلمي على المناصب القيادية، وقبل ذلك التوصل إلى صيغ تؤسس للشراكة الحقيقية في تقرير المصير..
"عربي21"، تنشر ورقة الريسوني عن الشورى الملزمة والشورى المعلمة في ثلاثة أجزاء، بالتزامن مع نشرها على صفحة الدكتور الريسوني، تعميقا للحوار..
2 ـ مراعاة الأغلبية في السيرة النبوية
مثلما تقدم عن القرآن الكريم، فإن السنة والسيرة النبوية، ليس فيها شيء صريح بمراعاة الأكثرية واتباع قولها والأخذ برأيها، كما ليس فيها تصريح بضد ذلك. ولكن التطبيقات الشورية النبوية قوية في ثبوتها وفي دلالتها على أن الشورى تنتهي إلى اعتماد رأي الأكثرية من المستشارين والعمل بمقتضاه. وفيما يلي أمثلة ذلك:
2 ـ 1 ـ غزوة بدر
لما علم النبي صلى الله عليه وسلم بأن قريشا قد تجهزت لقتال المسلمين، استشار الصحابة في شأن الاستعداد لملاقاة قريش ومناجزتها. فتكلم أبو بكر وعمر والمقداد بن عمرو، وكلهم أيدوا الرأي النبوي لمواجهة قريش، ولكن هؤلاء الثلاثة كانوا كلهم من المهاجرين، وكان عليه السلام يريد أيضا معرفة رأي الأنصار، فاستمر يقول: "أشيروا علي أيها الناس". قال ابن إسحاق: "وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس".( ) أي أكثريتهم.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يدخل المعركة حتى يضمن التأييد والاستعداد من جمهور أصحابه، من المهاجرين والأنصار، ولكن من الأنصار بالدرجة الأولى، لأنهم هم “عدد الناس” كما عبر ابن إسحاق.
فلما ضمن ذلك وتأكد منه، بتصريح سادتهم وزعمائهم أمر بالانطلاق قائلاً: "سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم".( )
وفي نهاية المعركة وجد المسلمون بأيديهم عدداً من الأسرى المشركين، ولم يكن قد نزل في حكم المسألة شيء، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة مرة أخرى.
جاء في صحيح مسلم، من رواية عمر بن الخطاب قال: "فقال أبو بكر: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قلت لا والله يا رسول، ما أرى الذي رأى أبو بكر. ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم… فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله أبو بكر ولم يهو ما قلت. فلما كان من الغد، جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء. لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة (شجرة قريبة من النبي صلى الله عليه وسلم). وأنزل الله عز وجل: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) إلى قوله: "فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا، فأحل الله الغنيمة لهم." ( )
وإذا كانت الرواية تفيد في أولها أن القول الذي أخذ به رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو الفدية ـ كان رأي أبي بكر رضي الله عنه، فإن آخر الرواية واضح في أن أكثر الصحابة كانوا عليه "أبكي للذي عرض علي أصحابك… لقد عرض علي عذابهم…".
فالرسول عليه السلام قد أخذ في هذه النازلة برأي الأغلبية من أصحابه، ولذلك جاء اللوم عاما من الله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69).
قال ابن عاشور: "والخطاب في قوله (تريدون) للفريق الذين أشاروا بأخذ الفداء. وفيه إشارة إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير معاتب، لأنه أخذ برأي الجمهور" ( ) "وروي أن ذلك كان رغبة أكثرهم." ( )
واللوم الذي وجهه الله تعالى للصحابة، لم يكن بسبب الرأي الذي أشاروا به في حد ذاته، ولكن بسبب الدافع الذي وراءه، وهو الكسب الدنيوي الذاتي (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا)، ولذلك لا يدخل فيه منهم إلا من تحكمت هذه الرغبة في الرأي الذي أشار به.
2.2 ـ غزوة أحد
بعد هزيمة قريش في معركة بدر، قام زعماؤها بتعبئة بشرية ومالية واسعة للانتقام ورد الاعتبار. واستشار النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة، وعرض عليهم رأيه، وهو البقاء بالمدينة ومواجهة هجوم قريش داخلها. غير أن عددا كبيرا من الصحابة لم يحبذوا هذا الرأي، وارتأوا الخروج لملاقاة جيش قريش ومقاتلته خارج المدينة، لأن ذلك هو الأليق بشجاعتهم وحماستهم، ولكي لا تظن قريش ـ أو غيرها ـ أن عدم خروجهم من المدينة ناجم عن ضعف وخوف. قال ابن العربي: "وقال حمزة، وسعد بن عبادة، والنعمان بن مالك بن ثعلبة، وغيرهم من الأوس والخزرج: أما تخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبنا، فيكون هذا جرأة لهم علينا؟ وتكلم الأنصار بمثل ذلك… وتكلم بعض بني الأشهل بمثله، وقال أبو سعد بن خيثمة نحوه في كلام حسن، وغيره مثله…". ( )
فما زالوا يتكاثرون ويلحون على فكرة الخروج، حتى قرر النبي صلى الله عليه وسلم الاستجابة لهم. فلما تأهبوا للخروج، خشي بعض الصحابة أن يكونوا استكرهوا نبيهم على هذا الخروج، فقالوا له: اسْتنكْرَهْناكَ ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلى الله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته، أن يضعها حتى يقاتل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه". ( )
هذه المشاورة وما نتج عنها وما تبعها، أثارت ـ في زمننا هذا ـ نقاشات كثيرة حول دلالتها في مسألتنا، وهل يستفاد منها إلزامية الشورى وإلزامية اعتبار الأغلبية، أم يستفاد منها عكس ذلك؟
لقد قرئت "مشاورة أحد" وفهمت على الوجهين معاً، من خلال قراءتين مختلفتين:
ـ قراءة ظاهرة ـ وليست ظاهرية ـ وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم تنازل عن رأيه لرأي الأكثرية من أصحابه، ومضى الأمر على ذلك بلا نقض ولا نسخ ولا مؤاخذة، بل نزل بعدها مباشرة قوله تعالى: (وشاورهم في الأمر).
ـ قراءة تأويلية، مفادها أن اتباع الأغلبية المخالفة لرأي الإمام مسلك غير صحيح وغير سليم، وأن الهزيمة التي لقيها المسلمون في هذه الغزوة جاءت درسا وعبرة و”موعظة باقية للمسلمين حتى لا يخالفوا إمامهم في رأي يصر عليه ويرتضيه، متوهمين بإلزامية الشورى، أو متعللين برأي الأغلبية".
وإنما اعتبرتُ هذه القراءة تأويلية، لأنها تركت الدلالة الظاهرة الواضحة للواقعة، وذهبت تفترض الافتراضات وتحملها ما يقتضي إبطال الدلالة الظاهرة.
فقد افترضوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مصرا على البقاء بالمدينة، وليس هناك ما يدل على هذا "الإصرار". وكل ما في الأمر أنه أبدى رأيه، فلما كثر القائلون بالرأي الآخر، وتحمسوا له، صار إليه وأخذ به.
وافترضوا أن هزيمة المسلمين في أحد كانت بسبب الخروج الذي نادت به الأغلبية، فجاءت الهزيمة لتلقنهم درساً قاسياً، وتكون تحذيرا لمن بعدهم…
والحقيقة أن هذا الافتراض هو أقرب شيء إلى الافتراء، إذ من المعلوم قطعا أن سبب الهزيمة لا علاقة له بالخروج، ولم يذكر ذلك أحد من الصحابة الذين عاشوا الأحداث، ولم يذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي لا يترك فرصة للتنبيه والتعليم والتربية إلا اغتنمها. بل القرآن الكريم نفسه قد تطرق بتفصيل إلى هذه الغزوة وتداعياتها، دون أن يذكر شيئا من هذا التأويل.
من جهة أخرى، فإن سبب الهزيمة معلوم مذكور في كافة كتب السيرة، وعدد من كتب الحديث، وهو المخالفة التي ارتكبها الرماة الذين أمرهم القائد صلى الله عليه وسلم أن يلزموا الجبل، ولا ينزلوا منه ـ مهما يكن سير المعركة ـ إلا بأمره. ولكنهم لما رأوا انتصار المسلمين في الجولة الأولى، ظنوا أن المعركة قد حسمت، ولاحت لهم الغنائم الوفيرة، فعصوا ونزلوا…
ومثل هذه المخالفة لا علاقة لها بالخروج، وكان يمكن أن تقع ـ أو يقع غيرها من المخالفات ـ في أي مكان وفي أي وضع.
ونستطيع أن نقول ـ بلا تأول ولا تعسف ـ: إن قرار الخروج قد أدى إلى نصر مبين وسريع. وهذا أيضا أمر مذكور ومسلم في كتب السيرة والحديث. ثم دارت الدائرة بعد ذلك بسبب الخطأ الجسيم الذي وقعت فيه فرقة الرماة الذين كانوا على موقع كبير من الأهمية والخطورة، فلما أخلوه انقلبت الأمور، وكل ذلك مفصل في مظانه فلا أطيل بسرده.
3.2ـ غزوة الخندق (غزوة الأحزاب)
في هذه الغزوة تحالف المشركون واليهود والمنافقون، لأجل استئصال المسلمين. وقد حاصروا المدينة حصارا شديدا، أصبح معه المسلمون في محنة بلغت منهم كل مبلغ، كما صورها القرآن الكريم: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11).
أمام هذا الوضع العسير والعصيب، فكر النبي صلى الله عليه وسلم في طريقة لكسر هذا الطوق وإحداث ثغرة فيه. فلجأ إلى أضعف حلقاته وأقلها حرصا عليه، وهي قبيلة غطفان. فساومهم وانتهى معهم إلى أن ينسحبوا ويهادنوا المسلمين مقابل ثلث ثمار المدينة لتلك السنة، ولكنه جعل تنفيذ الاتفاق معلقا على مشاورة أصحابه، وبالذات زعماء المدينة (أي الأنصار)، لأن الثمار التي ستدفع لغطفان إنما هي ثمارهم، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم "حتى استأمر السعود" ( )، يقصد سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن مسعود، وسعد بن خيثمة. فلما سمع هؤلاء مشروع الاتفاق ومضمونه، وعلموا أنه ليس وحيا من الله تعالى، ولا هو رغبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه إنما يريد بذلك تخفيف محنتهم وكسر طوق الحصار عنهم، لما علموا هذا وفهموه قالوا ـ على لسان سعد بن معاذ ـ: "يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا إليه، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟! والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأنت وذاك" فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال: ليجهدوا علينا" ( ).
ففي هذه النازلة نجد النبي صلى الله عليه وسلم قد فكر ودبر، وهيأ حلا يخفف به محنة المسلمين، وفاوض وانتهى إلى اتفاق أولي مع زعماء غطفان، لكنه ـ قبل إمضائه وتنفيذه ـ عرضه للشورى، وانتهى به الأمر إلى التخلي عن رأيه وتدبيره، والأخذ برأي مستشاريه الذين يمثلون جمهور المسلمين من أهل المدينة.
إقرأ أيضا: ماذا قال القرآن في الشورى المعلمة والملزمة؟ رأي الريسوني
ماذا قال القرآن في الشورى المعلمة والملزمة؟ رأي الريسوني
عن الإسلام والتسامح.. نقاش لمقولات فوكوياما وهنتنغتون
ماذا وراء موجة فتاوى العلاقات الزوجية والأسرية الأخيرة؟