تمر
سوريا اليوم بمرحلة جد عصيبة، تتطلب
معها بناء دولتها الجديدة، عبر إقرار الدستور الجديد، الذي يعبر عن توافقات مختلف
الطيف السوري، ثم بناء المؤسسات السياسية، وفقا لمرتبات العملية السياسية التي
يفترض أن تهيئ لها الحكومة المؤقتة.
لقد أكدت تعثرات تجارب الانتقال الديمقراطي
عقب الثورات العربية، أن الحسم في الدستور، يعتبر المحطة المركزية لصوغ القواعد
الكبرى للاجتماع السياسي، ورسم قواعد التعايش بين مختلف أطيافه، وهذا يعني أن
مواجهة هذا التحدي الصعب، يتطلب الانفتاح على مختلف التجارب الإنسانية، خاصة منها
التي تقدم دروسا ناجحة، بما في ذلك، بل وفي مقدمة ذلك، سيرة النبي الكريم،
وممارسته السياسية، فضلا عن باقي التجارب السياسية التي أثبت صمودها واستمرارها
نجاح الصيغة التي تأسست عليها.
هذا البحث، وإن كان ذا طبيعة فكرية ومعرفية،
إلا أنه يضع هدي النبي الكريم، وخبرة الشعوب بين يدي الشعب السوري، في تأسيس
الاجتماع السياسي السوري، وتحقيق
المصالحة الشاملة، واستشراف أفضل الطرق وأيسرها
وأجدها للخروج من سوريا من النوسطالجيا الأليمة لعذابات النظام السابق، إلى رحابة
سوريا الجديدة، الموحدة، التي يتعايش فيها كل أبنائها، وتمضي في اتجاه بناء دولتها
وتحصين وحدة أراضيها والعودة إلى حضنها العربي الإسلامي.
بناء الاجتماع السياسي في التجارب التاريخية
تقدم التجارب الإنسانية العديد من الوقائع
التاريخية التي تسلط الضوء على مسيرة الكسب البشري في بناء الاجتماع السياسي، غير
أننا سنقتصر على بعض الوقائع الدالة في التاريخ الإسلامي والإنساني، على أساس أن
نفرد من التاريخ الإسلامي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأسلوب النبوة في بناء
المجتمع السياسي على أساس من مقتضيات الصحيفة، كما سنفرد من التاريخ الإنساني،
تجربتين: تجربة بناء الاجتماع الفرنسي بعد الثورة، وتجربة بناء الاجتماع السياسي
الأمريكي بعد الاستقلال عن الامبراطورية البريطانية.
1 ـ الاجتماع السياسي في هدي الممارسة النبوية
ساهمت عقيدة التوحيد في تحقيق بناء مجتمعي
جديد في المدينة بعد حصول التمازج بين المهاجرين والأنصار في المدينة المنورة بعد
الهجرة النبوية. وقد تأسس هذا الاجتماع الجديد-بالإضافة إلى الأصل الاعتقادي الذي
ترسخ في الفترة المكية-إلى المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين، وإلى منظومة الأخلاق
والقيم التي القرآن يقررها في السور المدنية. يختصر الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي
رحمه الله في الأصل الذي تأسس عليه مجتمع المدنية – أي المؤاخاة-في الجوانب الآتية:
ـ أن الإخاء ضمن وحدة الأمة وتساندها.
ـ أن التآخي ما كان ليثمر نتائجه المبهرة من
غير التقاء على عقيدة توحد المتآخيين، وتسدد وجهتما.
ـ أن الإخاء حرك دوافع التعاون والتناصر
القائمين على الحق والعدل والمساواة، مما سهل نشوء المجتمع الإسلامي العادل
والسليم.
ـ أن التآخي ساهم ـ إلى جانب القانون والسلطة ـ في إقرار
مبدأ العدالة والمساواة الذي تقم عليه المجتمعات، إذ "مهما أرادت السلطة أن
تحقق مبادئ العدالة بين الأفراد، فإنها لا تتحقق ما لم تقم على أساس من التآخي
والمحبة فيما بينهم" ويرى البوطي رحمه الله أنه لهذا السبب، اتخذ رسول الله
صلّى الله عليه وسلم من حقيقة التآخي الذي أقامه بين المهاجرين والأنصار أساسا
لمبادئ العدالة الاجتماعية التي قام على تطبيقها أعظم وأروع نظام اجتماعي في
العالم. ولقد تدرجت مبادئ هذه العدالة فيما بعد بشكل أحكام وقوانين شرعية ملزمة،
ولكنها كلها إنما تأسست وقامت على تلك (الأرضية) الأولى، ألا وهي الأخوة الإسلامية".
المتأمل في وقائع المؤاخاة التي حصلت مع الهجرة النبوية بين الأنصار والمهاجرين، وفي مضمونها، وما رافقها من مواقف الطرفين، يلحظ عبقرية البناء في مجتمع المدنية، والذي ترسخ أكثر بمنظومة القيم والأخلاق التي شرعتها السور المدنية، كما زاد ترسخا بإقرار الصحيفة، التي مثلت الأساس الدستوري والقانوني لبناء الاجتماع السياسي المتعدد في المدنية.
ويلفت منير الغضبان إلى ملحظ دال في وقائع
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في السيرة النبوية، ويرى أن هذا الحدث الباهر
الذي لم تشهد له البشرية نظيرا، لم يتم "من خلال القمع والإرهاب، ولا من خلال
الاستيلاء على السلطة، والتأميم للأموال المنقولة وغير المنقولة كما يعبر عن ذلك
المعاصرون اليوم. لقد كان تشريع المؤاخاة الذي تم بإشراف الرسول صلى الله عليه
وسلم، وبأقصى ما يملك المتآخون من رغبة واندفاع للتنفيذ، النموذج الحي للحكم على
مستوى الدعاة في الأرض اليوم، ومدى قدرتهم على أن تتمثل فيهم هذه الروح الأخوية"
والمتأمل في وقائع المؤاخاة التي حصلت مع
الهجرة النبوية بين الأنصار والمهاجرين، وفي مضمونها، وما رافقها من مواقف
الطرفين، يلحظ عبقرية البناء في مجتمع المدنية، والذي ترسخ أكثر بمنظومة القيم
والأخلاق التي شرعتها السور المدنية، كما زاد ترسخا بإقرار الصحيفة، التي مثلت
الأساس الدستوري والقانوني لبناء الاجتماع السياسي المتعدد في المدنية.
تحتفظ كتب السيرة والتاريخ بوثيقة دستورية
مهمة، كتبها الرسول صلى الله عليه وسلم لتنظيم الحياة السياسية والمؤسساتية في
مجتمع المدنية، تعكس أهم المبادئ
والتوجهات التي قام عليها الاجتماع السياسي في المدينة، إذ لم يقتصر هذا الدستور
على تنظيم العلاقة بين المسلمين، وإنما امتدت بنود الوثيقة إلى تأطير الحياة
السياسية والقانونية لمختلف الطوائف حتى يضمن الصورة المثلى من التعايش والمواطنة
داخل دولة المدنية المنورة. يقول رمضان البوطي في توصيف هذه الوثيقة:" إن
كلمة (الدستور) هي أقرب إطلاق مناسب في اصطلاح العصر الحديث على هذه الوثيقة. وهي
إذا كانت بمثابة إعلان دستور، فإنه شمل جميع ما يمكن أن يعالجه أي دستور حديث يعنى
بوضع الخطوط الكلية الواضحة لنظام الدولة في الداخل والخارج؛ أي فيما يتعلق بعلاقة
أفراد الدولة بعضهم مع بعض، وفيما يتعلق بعلاقة الدولة مع الآخرين".
والمتأمل في بنود هذه الوثيقة/ الدستور،
يلاحظ أنها حسمت في أربع قضايا أساسية:
أ ـ قضية الهوية الجامعة، والتي خصتها
الوثيقة في الإسلام.
ب ـ ضمان العدالة في الأحكام.
ت ـ إقرار حقوق المواطنة، وتأصيل أسس
التعايش بين المسلمين واليهود داخل الدولة الإسلامية.
ث ـ تقرير مرجعية الإسلام في تشريع الأحكام.
يقول البوطي رحمه الله تعليقا على هذه
الوثيقة، والأثر الذي خلفه تطبيقها: "ومن تطبيق هذه الوثيقة، والاهتداء بما
فيها، والتمسك بأحكامها، قامت تلك الدولة على أمتن ركن وأقوى أساس، ثم انتشرت قوية
راسخة في شرق العالم وغربه تقدم للناس أروع ما عرفته الإنسانية من مظاهر الحضارة
والمدنية الصحيحة".
2 ـ بناء الاجتماع السياسي في التجربة
الفرنسية:
يقدم غوستاف لوبون قراءة نقدية عميقة لتجربة
الثورة الفرنسية. ويسلط الضوء على النموذج التفسيري لهذا الحدث التاريخي، الذي أدى
إلى بناء الاجتماع الفرنسي الحديث. فيرى في كتابه "روح الثورات والثورة
الفرنسية" خلافا لما ترسخ في الأذهان من الدور الطلائعي للفلاسفة في التمهيد
للثورة وإشعال فتيلها، أن القيم والمبادئ التي قامت عليها الثورة الفرنسية لم تكن
جديدة، ولم تكن هي الدافع لتحقيق الحلم، وإنما الذي جعلها تقوم بهذا الدور، هو
أنها صادفت واقعا مضطربا، جعلت المزاج النفسي الفرنسي يستعين بهذه القيم ويمنحها
أبعادا ثورية، وأن دور الفلاسفة لم يتجاوز تنمية روح الانتقاد التي لا تستطيع
المعتقدات السائدة مناهضتها.
وتبعا لهذا التفسير يرى غوستاف لوبون، أن
التحول من الدفاع عن الحكم المطلق المستند إلى مقولة أن الملك مفوض من الله، إلى
الدفاع عن الحكم الديمقراطي المستند إلى مقولة أن الأمة هي مصدر السيادة، إنما تم
بعد ظروف القهر التي عرفتها فرنسا في عهد لويس الخامس عشر ولويس السادس عشر، كما
أن التحول من الدفاع عن التعاليم الدينية إلى الاحتفاء بنتائج العلم الحديث، إنما
تم بعد تقدم العلم، فقادت الثورة الناس إلى التحرر من "اللاهوت" إلى
الاعتقاد في العقل والعلم. لكن، مع اليقين بضرورة تغيير الأوضاع القديمة، بمختلف تجلياتها،
كان السؤال المطروح هو كيفية بناء البنيان الاجتماعي الجديد.
وفي تفسيره لأسباب الثورة الفرنسية التي
أسست للبنيان الاجتماعي الجديد، يذهب غوستاف لوبون إلى أن الثورة على القديم
والعوائد والتقاليد البالية، والاستعاضة عنها ببركة العقل والعلم، شكل المزاج
النفسي العام الذي جعل الجيوش (الضباط والجنود معا) تتحالف مع طبقات المجتمع، هذا
في الوقت الذي كانت الطبقات الوسطى تميل إلى إصلاح النظام الملكي من الداخل عوض
هدمه.
وباستقراء المبادئ التي قامت عليها الثورة
الفرنسية، وتمكنت من خلالها من تكوين الاجتماع الفرنسي الجديد، نجدها لا تخرج عن
الأسس الآتية:
أ ـ مبدأ الرجوع إلى أوضاع الفطرة: وملخص
مقولة جون جاك روسو هذه، أن الله خلق الإنسان كاملًا، وأن المجتمعات كانت لها
مُثُل عالية، وأن الحضارة أفسدتها، وأنه يجب العود إلى هذه المثل، وأن الإنسان طيب
بفطرته، محب للعدل والنظام.
ب ـ مبدأ القطع مع الماضي، وإمكان إعادة
بناء المجتمع من جديد بالأنظمة والقوانين: وملخصه أنه لا يمكن بناء مجتمع جديد
بدون فصل الإنسان عن الماضي المشبع بالخرافات والأضاليل، وأنه بالإمكان تحقيق هذا
الهدف، أي بناء المجتمع الجديد، بقوة القوانين والمساطر والأنظمة.
ت ـ مبدأ الحرية والمساواة والإخاء: وهو
الذي أقرته في بيانات حقوق الإنسان الثلاثة التي نُشرت بالتتابع في سنة 1789، وسنة
1793، وسنة 1795، ويستند هذا المبدأ إلى المبدأ السابق الذي أصل له روسو، ويضاف
إليه أيضا مبدأ الإخاء، على اعتبار أن هذه المبادئ هي سمات للإنسان الفطري الذي
جاءت الثورة الفرنسية لتستدعيه من جديد.
ث ـ مبدأ السيادة للأمة: وهو المبدأ الذي
أنتج الصيغة الديمقراطية الفرنسية، التي جمعت بين القطع مع الماضي (العلمنة وفصل
الدين عن الدولة)، وبين اعتماد النظام النيابي الديمقراطي.
والذي يتأمل مسار الثورة الفرنسية، التي
أنتجت نموذجا ديمقراطيا يتأسس على صيغة علمانية متشددة، يخلص إلى أن هذه الثورة،
لم تؤسس البنيان الاجتماعي على غير أساس من الدين، بل جاءت بدين جديد سماه غوستاف
لوبون بالديانة اليعقوبية، وأن الأوضاع المأزومة التي كونت المزاج الثوري العام
لمختلف طبقات المجتمع الفرنسي المتطلع إلى تغيير النظام الملكي هي التي دفعت إلى
تكوين البنيان الاجتماعي الفرنسي على المزاوجة بين القطع مع الماضي، وبين اختيار
النموذج الديمقراطي.
3 ـ بناء الاجتماع السياسي في التجربة
الأمريكية:
تتميز تجربة بناء الاجتماع الأمريكي بخصائص
عدة، فقد كانت المستعمرات البريطانية متناثرة الأرجاء في ثلاث عشرة ولاية، ولم تكن
هذه الولايات في تمردها على حكم التاج البريطاني تنسق فيما بينها، ولا تحلم
بتـأسيس أمة واحدة ستعرف فيما بعد بالولايات المتحدة الأمريكية، وإنما سعت كل
ولاية على تحقيق استقلالها بنفسها، وتكوين دولة مستقلة بها بعدما لجأ الملك جورج
الثالث إلى استعمال القوة ضدها. وقد اتجه المؤتمر القيادي الثاني الذي أجري بتاريخ
1775 إلى التماس غصن الزيتون لإعلان النية في إجراء مصالحة مع بريطانيا، لكن أمام
رفض الملك لهذا الاقتراح، فسر هذا المؤتمر الأسباب الذي دفعت إلى حمل السلاح، كما
طالب بالرجوع إلى أوضاع ما قبل 1763. لكن تعنت الملك وإقدامه على إجراءات تصعيدية،
دفع لجنة الكونغرس بقيادة توماس جيفرسون إلى كتابة إعلان الاستقلال وإقراره في
الرابع من يوليوز 1776.
وبالنظر إلى المبادئ التأسيسية التي استند
إليها هذا الإعلان لبناء الأمة الأمريكية، نجد أنها لا تخرج عن ذات المبادئ التي
تأسس عليها البنيان الاجتماعي الفرنسي بعد الثورة، فمما جاء في الإعلان: "عندما يصبح من الضروري لشعب ما في مجرى الأحداث الإنسانية أن يفسخ روابطه السياسية
التي تصله بشعب آخر، ويتولى، بين سلطاته الدنيوية، المكانة المنفصلة المساوية التي
خولتها له قوانين الطبيعة والطبيعة الربّانية، فإن الاحترام اللائق بآراء البشر
يتطلب منهم أن يعلنوا الأسباب التي تجبرهم على الانفصال. نؤمن بأن هذه الحقائق بديهية،
وهي أن البشر خلقوا متساوين، وأن خالقهم حباهم بحقوق معينة لا يمكن نكرانها
والتصرف بها، وأن من بينها الحق في الحياة والحرية والسعي في سبيل نشدان السعادة.
وإنه لضمان هذه الحقوق، تنشأ الحكومات بين الناس، مستمدة سلطاتها العادلة من
موافقة المحكومين. وإنه عندما يصبح أي شكل من أشكال الحكم في أي وقت من الأوقات
هادما ومدمرا لهذه الغايات، يصبح من حق الشعب أن يغيّره أو يلغيه ويشكّل حكومة
جديدة مقيما أساسها على المبادئ، ومنظما سلطاتها وفق الكيفية التي تبدو له أفضل
ملاءمة لتحقيق سلامته ورفاهه".
تمثل المصالحة بين الجماعات داخل الشعب الواحد أو الدولة الواحدة شكلا من أشكال تأسيس أو إعادة تأسيس لما تتخلله عملية المصالحة من مبادئ وقواعد عامة جامعة تضمن انصهار مختلف الجماعات والطوائف وتعايشهم داخل بنية مجتمعية واحدة.
فواضح من هذا الإعلان، أن الأمة الأمريكية
في سعيها نحو تأسيس اجتماعها الجديد ارتكزت على ثلاث مبادئ أساسية:
ـ مبدأ المساواة.
ـ مبدأ الحقوق والحريات.
ـ ومبدأ سيادة الأمة، وحقها في اختيار
حاكميها بالكيفية التي تحقق لها سعادتها ورفاهها.
وهي عند التأمل المبادئ ذاتها التي قامت
عليها الثورة الفرنسية، غير أن التاريخ الأمريكي الحافل بجدل المساومة والتسامح من
جهة لتقوية البناء الفدرالي الأمريكي، والقوة والعنف والحرب الأهلية لإجبار بعض
الولايات على الدخول في الحكم الفدرالي، أبان عن أسلوب آخر في استكمال عملية بناء
البنيان الاجتماعي أملته من جهة طبيعة الرقعة الجغرافية الممتدة بالقياس إلى
محدودية السكان، ومن جهة أخرى المصالح الناشئة التي أبرزتها التطورات التي حدثت في البنية
الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الأمريكية، إذ توسع الحكم الفدرالي من 13 ولاية
إلى51 ولاية، وانتقل نظام الحكم من صيغته الكنفدرالية التي كانت الحكومة تحظى فيها
بسلطات جد ضعيفة، إلى الصيغة الفدرالية التي تتمتع فيها الحكومة المركزية جزءا
مهما من الصلاحيات التي كانت الولايات لا تفكر في التفريط فيها في البدايات التأسيسية، كما اعتمد هذا الأسلوب
منطق التسامح والتسوية في تشريع القوانين وبناء الهياكل والمؤسسات، وأيضا بناء
المؤسسات السياسية والنظام الانتخابي الأمريكي .
تجارب المصالحة في التجارب التاريخية
تمثل المصالحة بين الجماعات داخل الشعب
الواحد أو الدولة الواحدة شكلا من أشكال تأسيس أو إعادة تأسيس لما تتخلله عملية
المصالحة من مبادئ وقواعد عامة جامعة تضمن انصهار مختلف الجماعات والطوائف
وتعايشهم داخل بنية مجتمعية واحدة. وتوفر الوقائع التاريخية العديد من تجارب
المصالحة التي كان لها أثر كبير في إعادة تأسيس الاجتماع وتقوية أركانه. نركز فيها
على التجربة التاريخية الإسلامية المصالحة في فتح مكة، وتجارب كل من إسبانيا وجنوب
إفريقيا باعتبارهما تجربتين نموذجيتين استلهمتا السمة السلمية في المصالحة الوطنية
مع تسجيل الاختلاف في اعتماد مبدأ جبر الضرر.
1 ـ فتح مكة أو المصالحة التاريخية:
تقدم وقائع التاريخ من سيرة النبي صلى الله عليه
وسلم تجربة فريدة لا نظير لها في تاريخ المصالحات الداخلية بين الشعوب، إذ لم تعرف
هذه التجربة ما يصاحب عادة تجارب المصالحة من الاقتصاص وجبر الضرر أو اعتماد
قوانين العزل والتطهير بالنسبة للأفراد والمجموعات التي تورطت في الانتهاكات الجسمية التي ارتكبت في حق مجموعات
أخرى، بل تميزت هذه المرحلة كما تصفها وقائع السيرة النبوية بسمة العفو وسلاسة
الاندماج في المجتمع الجديد.
ومما جاء في السيرة: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ
اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَظُّمَهَا
بِالْآبَاءِ، النَّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ
الْآيَةَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى)
الْآيَة كلهَا، ثمَّ قَالَ: " يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تَرَوْنَ أَنِّي
فَاعِلٌ فِيكُمْ؟ " قَالُوا: خَيْرًا أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ.
قَالَ: اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ". وتذكر كتب السيرة أن الناس دعوا
إلى البيعة بعد هذه المصالحة، فتمت بيعة الرجال أولا، وتلتها بيعة النساء.
والذي تأمل حدث المصالحة، وما صاحبه من
إعلان مبدأ المساواة بين الناس وإسقاط الأعراف الجاهلية التي كانت تشكل المبادئ
المؤسسة للتمايز والطبقية والعبودية، يدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم، إذ
عفا عن الفئة التي اضطهدت المسلمين في مكة وأخرجتهم واعتدت عليهم وعلى أهاليهم
وأموالهم، ومنع الاقتصاص منهم، ولم يتجه نحو جبر الضرر اللاحق بالذين كانوا ضحايا
انتهاكات هذه الفئة، فإنما قصد إلحاق هذه
الفئة بالمجتمع الجديد، حتى يضمن انصهارها تعايشها معه، ولهذا السبب، أطلق عند الفتح "إعلان النبوة" بأن الله
أذهب عن قريش بهذا المجتمع الإسلامي الجديد "نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ
وَتَعَظُّمَهَا بِالْآبَاءِ: فصار المجتمع الجديد الذين دعوا للاندماج فيه يقوم
على مبدأ المساواة وأن" النَّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ " ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ:
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى"
كما ورد في نص السيرة النبوية.
2 ـ تجربة جنوب إفريقيا في المصالحة وإعادة
بناء الاجتماع:
تقدم هذه التجربة شكلا آخر من أشكال
المصالحة وإعادة تأسيس الاجتماع على أسس المساواة والعدل وتجريم الميز العنصري.
فقد استطاعت هذه التجربة التي قادها الزعيم التحرري نيلسون مانديلا من إنهاء عهود
من ممارسات نظام الميز العنصري الدموية وحروبه الإبادية ضد السكان الأصليين من
الأفارقة، أصحاب البلاد الشرعيين، والتي ذهب ضحيتها الملايين من البشر، ودفع في
اتجاه مصالحة وطنية سلمية تجنبت الانتقام والاقتصاص من مرتكبي الانتهاكات الجسيمة،
وذلك بإنشاء لجنة خاصة قاد أعمالها القس الجنوب أفريقي، والمناضل ضد العنصرية
"ديزموند توتو " اعتمدت ثلاث مبادئ أضحت فيما بعد تشكل عنوانا لما يسمى
بالعدالة الانتقالية، وهي:
تقدم وقائع التاريخ من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تجربة فريدة لا نظير لها في تاريخ المصالحات الداخلية بين الشعوب، إذ لم تعرف هذه التجربة ما يصاحب عادة تجارب المصالحة من الاقتصاص وجبر الضرر أو اعتماد قوانين العزل والتطهير بالنسبة للأفراد والمجموعات التي تورطت في الانتهاكات الجسمية التي ارتكبت في حق مجموعات أخرى، بل تميزت هذه المرحلة كما تصفها وقائع السيرة النبوية بسمة العفو وسلاسة الاندماج في المجتمع الجديد.
أ ـ الحقيقة، وتقتضي بأن تكشف الحقائق
والوقائع كاملة عن الجرائم التي ارتكبت في حق الأبرياء.
ب ـ العفو، بحيث تم اشتراط تقديم مرتكبي
الانتهاكات الجسيمة، من المسؤولين سواء كانوا في الجيش أو الأجهزة الأمنية أن
الأجهزة الحكومية، اعتذارا عن الجرائم التي ارتكبوها، بحيث يكون هذا الاعتذار
بمثابة سبب موجب لإصدار العفو من قبل هذه اللجنة.
ت ـ جبر الضرر، وذلك بتقديم تعويض مادي
لضحايا الانتهاكات.
وبعد نجاح هذه التجربة، طويت صفحة الماضي،
وتم بناء قواعد الاجتماع السياسي من جديد، بحيث تعايش البيض مع السود في ظل نظام
اجتماعي وسياسي ديمقراطي واحد.
3 ـ تجربة المصالحة في إسبانيا:
وتكمن أهمية هذه التجربة في كونها تنهل من
نفس النموذج السلمي في تدبير المصالحة وبناء الاجتماع الإسباني الحديث، بعدما سادت
فترة من الظلم والاستبداد في عهد الجنرال فرانكو. وقد تمكنت المجموعات المعتدلة في
التجمعين المتناقضين من بناء توافقات سرعت من وتيرة الانتقال، وأسست لمبادئ جديدة
تضمنها الدستور الإسباني، وهي التي شكلت أساس الاجتماع الجديد في إسبانيا، بعدما
قامت منظمات جذرية بمراجعات، غلبت فيها المصلحة العليا للبلاد على حساب الاصطفافات
الإيديولوجية، فسمحت بالتقاء مكونات مجتمعية لم يكن متصورا في السابق التقاؤها على
أرضية واحدة، فالتقى اليساريون مع الكارليين إلى جانب الليبراليين فكونوا قوة
ضاغطة دفعت المعتدلين في المعسكر الحاكم إلى إجراء مصالحة كاملة، اعتمدت مبدأ طي صفحة الماضي، وإقرار الحريات العامة،
واعتماد مبدأ التعددية السياسية والترخيص للأحزاب السياسية ومكونات المجتمع المدني
لتعمل في إطار القانون، والاتفاق على إجراء انتخابات تفرز حكومة ديمقراطية. فكان
من ثمار هذه المصالحة وهذا التوافق، إرساء النظام الدستوري الإسباني سنة 1978،
الذي يعتمد مبدأ الجهوية، وفصل السلط واستقلال القضاء، وإنشاء المحكمة الدستورية
العليا باعتبارها الهيئة الوحيدة المؤهلة لتقرير تطابق القوانين مع الوثيقة
الدستورية، كما أنيطت بها مهمة فض النزاعات المحتملة بين الحكومة المركزية
والحكومات الجهوية.
وتذكر كتب التاريخ المعاصر أن اختيار الملك
خوان كارلوس لكارلوس أدولفو سواريث وتعيينه رئاسة الحكومة سنة 1976، كان يسير في
اتجاه هندسة المصالحة وبناء قواعد الاجتماع السياسي الإسباني الجديد، إذ كان هذا
الرجل ينتمي إلى رجال النظام القديم، ولكنه كان معتدلا ويتمتع بالقبول من داخل
النخب السياسية المعارضة، مما مكنه من إحداث قطيعة متدرجة نقلت إسبانيا من الدولة
الديكتاتورية إلى دولة ديمقراطية.
فاعتمد في أسلوبه على إطلاق العفو عن
النشطاء السياسيين بمن فيهم الباسكيين غير المتورطين في عمليات القتل، وفتح حوارات
سياسية مع زعماء المعارضة، بمن فيهم زعيم الشيوعيين الذي كان حزبه محظورا، فشكلت
هذه الحوارات أرضية لإصلاحات عميقة كان من ثمارها دستور سنة 1978 الذي أرسى أسس
الاجتماع السياسي الإسباني الحديث.