كتاب عربي 21

تشرين الفلسطيني.. بدايات لا نهاية لها

1300x600
إذا كان يمكن التأريخ لبدايات الانتفاضات والثورات العظيمة في تاريخ الشعب الفلسطيني، فإنّ التأريخ لنهاياتها دائماً ملتبس، ويتسع فيه الفرق إلى سنوات، كما يتأرجح سبب التأريخ للنهاية بين عدد من الحوادث. فالانتفاضة الفلسطينية الأولى لن يختلف الفلسطينيون على كونها بدأت في كانون الأول/ ديسمبر عام 1987، ولكن هل انتهت مع توقيع اتفاقية أوسلو في 1993، أم مع دخول السلطة الفلسطينية غزّة وأريحا في 1994، أم مع دخولها بقية مدن الضفة الغربية في 1995/ 1996؟ وقل الشيء نفسه عن الانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي لا خلاف أنّها بدأت آخر أيلول/ سبتمبر وبداية تشرين الأول/ أكتوبر 2000، لكن متى انتهت؟ وإذا كان الغالب على المؤرخين احتساب نهايتها في 2005، فلأي سبب بالضبط كان ذلك؟ ألأجل اتفاق الهدنة في شرم الشيخ بمصر بين الرئيس عباس ورئيس وزراء العدوّ الأسبق، شارون؟!

وهكذا تكون البدايات واضحة، جليّة، وإن كانت مدفوعة بمسار سابق يصعب التنبؤ بمآلاته، وإن لم تكن عادة بقرار من أحد. والنهايات ملتبسة، ولا تخلو من المفارقات، فكيف بالذي لم يكن مؤمناً بالانتفاضة أن يحكم عليها بالنهاية؟! بيد أن النهايات لا تقضي بها القرارات، وإلا كم من محاولة لإنهاء الانتفاضة الثانية بقرار قد فشلت؟! على الأرجح لا تنتهي هذه الانتفاضات، على الأقلّ بالنسبة للشعب الفلسطيني، وإنما تترك وعياً عميقاً في الفلسطينيين، لا يلبث أن يصعد حينما يكتفي الناس بالتقاط الأنفاس، أو حينما يستنفد الهدوء أغراضه. ثمّ إنّ الناس، وقد استعادوا شخصيتهم، يستعيدون معها أدواتهم القديمة، وخطاباتهم السابقة، بالرغم من أن ذلك كلّه يجري في جيل جديد لم يعايش ما سبق من أنماط كفاحية.
على الأرجح لا تنتهي هذه الانتفاضات، على الأقلّ بالنسبة للشعب الفلسطيني، وإنما تترك وعياً عميقاً في الفلسطينيين، لا يلبث أن يصعد حينما يكتفي الناس بالتقاط الأنفاس، أو حينما يستنفد الهدوء أغراضه. ثمّ إنّ الناس، وقد استعادوا شخصيتهم، يستعيدون معها أدواتهم القديمة، وخطاباتهم السابقة، بالرغم من أن ذلك كلّه يجري في جيل جديد لم يعايش ما سبق من أنماط كفاحية

لا يكاد يعرف أكثر الناس، أن إمكانية الاشتباك المباشر بأدوات الانتفاضة الفلسطينية الأولى مع الاحتلال، لم يعد ممكناً بالقدر نفسه، بسبب خطّة إعادة الانتشار التي اتُّفق عليها في أوسلو، وخلّصت الاحتلال من انغماس جنوده وشرطته في تجمعات الفلسطينيين السكانية، مع بقاء احتلاله للضفّة الغربية! ومع ذلك ظلّ النزوع الفلسطيني إلى تلك المشهدية متعاقباً، ففي هبّة النفق عام 1996، وانتفاضة الأقصى في مطالعها، والهبّات الجارية في القدس والضفة الغربية منذ بضع سنوات، يزحف الشبان إلى الحواجز ومداخل المدن، استدعاءً لاشتباك من هذا النوع مع الاحتلال، وهو الأمر الذي كان كفيلاً بتحوّل هذا الاستدعاء إلى انتفاضة مسلّحة في الانتفاضة الثانية، إذ لم يكن للناس أن يرجعوا إلى الوراء، ولا أن يبقوا ينزفون شهداءهم على الحواجز!

ذلك فضلاً عن الاشتباك بنمط الانتفاضة الأولى، حتى اللحظة، كلّما دخلت دوريات العدوّ قرية فلسطينية. كيف بقي الفلسطينيون يتعاقبون هذا النمط من الاشتباك، يتعبأ به شبّانهم، قبل انتقالهم لطور جديد من النضال، بالرغم من كل المياه التي جرت أسفل جسرهم، منذ العام 1994 وحتى الآن؟ وبالرغم من أنّ الخطاب التعبوي، والبنية التحتية الاقتصادية وانعكاساتها الثقافية والاجتماعية، كثيراً ما كانت تتعارض مع واجب التعبئة ومع الأولويات الوطنية، وهو ما كان عليه الحال، على الأقل، من بعد ما يسمى بـ"الانقسام الفلسطيني"؟!

ذلك لأنّه لا توجد نهايات محدّدة، وأنّ ما يبدو نهاية هو في حقيقته معنى منساب في الفلسطينيين، يُجدّدهم حينما تتوفّر له شروط التجديد، ويتجسّد من جديد بما يتصل بذاكرتهم النضالية العميقة، وإن كان هذا التجسّد سيكون في أوساط جديدة لم تشهد ما تقوم باستعادته. وهو أمر مثير للتأمّل، ويرتدّ إلى عمق الوعي النضالي للفلسطينيين، ويمكن ملاحظة ذلك تماماً في ذكرى "هبة القدّس"، التي أُرّخ لها بتشرين الأول/ أكتوبر 2015، أي في مثل هذه الأيّام. فالشاب الذي نُسب له فتح الباب لهذه الهبّة، أي مهند الحلبي، كان قد كتب قبل أيام من استشهاده "حسب ما أرى فإنّ الانتفاضة الثالثة قد انطلقت"، وهو الذي كان عمره أقل من سبع سنوات، حينما كان شارون يجتاح المناطق "أ" في الضفة الغربية عام 2002. فمن أين لهذا الشاب هذا الوعي بهذا التاريخ؟ وكيف له أن يراقب المشهد حتى يتمكن بالفعل من الدفع نحو هبّة، لم تزل تحفر بعمق وبطء في الوقت نفسه، وصولاً للتحوّلات الجارية الآن في الضفّة الغربية؟!
يعيش الفلسطينيون ذكرى انتفاضاتهم العظيمة، الانتفاضة الثانية، وهبّة القدس، بل وحتى الانتفاضة الأولى، فقد سُبِقت في تشرين الأول/ أكتوبر بما كان يكسر القفل عن قيد الفلسطينيين لينطلقوا في تلك الانتفاضة العظيمة. ولكن الفلسطينيين اليوم يعيشون هذه الذكريات، بنمط غامض من المقاومة، لا يُدرى إن كان سيبقى سارياً طويلاً على هذا النحو، أم سيستحيل قريباً في بداية محدّدة المعالم، كشأن البدايات السابقة

بعد أن تمكّن الاحتلال من اقتحام مخيم جنين عام 2002، في ملحمة خاضها قليل من المقاتلين الفلسطينيين بعدّة لا يمكن أن توضع في ميزان واحد مع عدّة الجيش المدجّج المعتدي، ثم بعد العام 2007، بدا للعدوّ، وداعميه الإقليميين والدوليين، أنه يمكن الآن تحويل جنين إلى نموذج للفلسطيني الجديد. تجولت كونداليزا رايس في جنين عام 2008، وتوني بلير عام 2009، وفي تلك الفترة كذلك الجنرال الأمريكي كيث دايتون، وكلّهم أطبقوا على هذا الأمل (أملهم هُم)، بأن يحيلوا مدينة ملحمة "معركة مخيم جنين"، إلى نقيض لنموذجها الملحميّ الأوّل، وللفلسطيني المقاتل. بعد هذه السنوات ماذا تفعل جنين هي ومخيّمها؟! تعود إلى النموذج الأوّل، إلى شخصيتها الحقيقية، وما طرأ على وجهها لم يكن، حقّاً، أكثر من غبار!

اليوم يعيش الفلسطينيون ذكرى انتفاضاتهم العظيمة، الانتفاضة الثانية، وهبّة القدس، بل وحتى الانتفاضة الأولى، فقد سُبِقت في تشرين الأول/ أكتوبر بما كان يكسر القفل عن قيد الفلسطينيين لينطلقوا في تلك الانتفاضة العظيمة. ولكن الفلسطينيين اليوم يعيشون هذه الذكريات، بنمط غامض من المقاومة، لا يُدرى إن كان سيبقى سارياً طويلاً على هذا النحو، أم سيستحيل قريباً في بداية محدّدة المعالم، كشأن البدايات السابقة. لكن ما يمكن قوله إنّ هذا الشعب دائم التجدّد، وأن الوعي النضالي عميق فيه بما لا يمكن للعدوّ المغرور أن يلامسه!

twitter.com/sariorabi