الحَرفُ خاصة والإبداعُ عامة يمكن أن يكون على الإنسان نعمة أو نقمة، وأن يكون مُحرِّراً أو مُقَيِّداً، مُحَرِّضاً أو مُثَبِّطاً، هادياً أو مُضَلِّلاً، سيفاً في اليد أو خنجراً في الخَصْر.. حسب الحامل والمحمول، المرسل والمتلقي، وحسب مناخ الكتابة والإبداع وتحررهما من التبعية والعوائق والموانع، أو تبعيتهما للمعوِّقين والمانعين والمستثمرين في المعرفة والإبداع سلباً أو إيجاباً، وقدرتهما على الصمود وامتلاك القدرة والرغبة والإرادة.
فالحرف مغموساً في الدِّفء، وينز ماء الورد، ويحمل وجيب القلب وحرارته، وأغنى بالألوان من قوس قزح، وعامراً بالإيحاءات، ويلمع بالتلميح إلى المشاعر والعواطف، ويثير شتى الانفعالات.. عند المحبين والعاطفيين والحالمين والمستثمرين في هذا المجال.. وهو والنغم والفرشاة عندهم نفث أشعة ترتسم لوحات، وتسطِّر على أديم الماء والفضاء قصص شوق وترنُّحات توق، وأشكال تمرد وتخبط.. ويتحول عندهم إلى ثورات غضب، ومرارت ألم، وغصص عيش، ومعاناة مرة حين يغيم الأفق، وينقطع الوصل، ويستنزفهم الحنين، وتبتلع " الحوتَة" قمرَ الحب.
والحرف مغموساً بالدم والدمع، ينصب علقماً في الحلق وينتشب فيه شوكَ صَبَّار، ويصبح سيفاً صقيل الحد مُصلتاً فوق هامات واقفين في رمضاء الوقت على مفارق الأحداث والأزمات والصراعات الدامية.. عند ضحايا الأزمات والصراعات والحروب من الأدوات والفقراء والمساكين والمظلومين والمحرومين، والمستهدفين بالعدوان والاحتلال والاستبداد والاستعباد، وعند الأسرى في المعتقلات والسجون، والنازحين في أوطانهم والمهجرين منها والملاحقين فيها بالقهر والموت.. ووعاء معاناة ولسانها وبيانها.
وفيضَ وعيٍ وصَحوةً وإرادةً وعزماً يكون الإبداع بأشكاله وألوانه في متاريس المدافعين عن أنفسهم وأوطانهم ومقدساتهم وحقوقهم ومبادئهم وعقائدهم، ومعرفيةً وانتماءً تاريخياً وحضارياً، وراويةً صحيحة لحقائق التاريخ. وسطوع غضب يكون وصوت ضمير وأجنحة نضال تحلق في فضاء العالم، ودفق أمل في جسد المحاصرين والمقهورين والمتعبين. وانطلاقة أقوى من الرصاص تحفر في الذاكرة والوجدان وفي صفحات التاريخ ووجه الزمان وقائع سجلتها مواقف الإنسان المنذور لقيمه وحريته ووطنه وعقيدته.. تثبِّت تغيُّرات أملتها إرادتُه الواعية، وتحدو مسيرته سيرورة وصيرورة نحو بلوغ أهدافه المرتجاة.. وحاملَ رفيف أمل بحرية وأمن وعدل، وقوةً تحمي الإنسان وحقوقه وكرامته.. وحامي معايير أخلاقية بحساسية موازين الذهب، يقيمها الإيمان ويضعها حداً بين الحق والباطل، وصحوات ضمائر تحكُم السلوك والنزوات والنيَّات ما ظَهرَ منها وما بطَن، وتنسكب صلاحاً وإصلاحاً وبلسماً يشفي الأنفس مما تجد.
وتغوص خناجر في قلب الظلم والطغيان، وتنهي سطوة الجبابرة الطغاة، وتحكم الجهل والجاهلين بحاكمية المعرفة والعلم، وتحكم الطالحين بالصالحين.. وتكون قوة وعيٍ كشَّاف يُري مَن يَرى طرقَ الخير ويقدر على النهوض والتقدم بكفاءة وإخلاص، وتلغي سطوة الإنسان على أخيه الإنسان.
والإبداع في الأدب والفكر والفن تألقُ وعيٍ وخُلُقٍ وإرادة، تألقٌ روحي ومعرفي يبني بالتربية والثقافة والإيمان أفرادً وشعوباً وأوطاناً، ويقيم صروح حضارة وحصوناً تصونها، ويصنع قوة شاملة بعلومها وعديدها وعددها وعتادها بأصولها وفروعها، وعزيمة القائمين بها وعليها.. ويكون.. ويكون.. ويكون.. وتتعدد روافده بتعدد الأرواح والرؤى والأفكار، والاهتمامات والمهام والهمم والهموم. والابداع بتجلياته ومنتجاته كافة مدعو في زماننا ووطننا العربي اليوم إلى أن ينهل من قلوب المحبين، وجراح المُصابين، وصبر الفقراء والمشردين، وعزم المقاومين والقادرين والأَكْفَاء ما يصنع توق الجماهير إلى الانعتاق والتحرر والتحرير والاستقلال، وصَبْوَها إلى التطور والتطوير والاكتفاء والارتقاء، ويدفع باتجاه تحقيق الأهداف الحيوية للأمة في الوجودي الكريم الحي الفاعل في مجالات الرقي والحضارة.
ففي وطننا العربي الكبير اليوم بؤس وواقع بائس، وانغماس ضار في تناقضات عميقة، وتنافر وتدابر وتقاتل فاجع، وانخراط في أزمات وصراعات دامية وحروب مهلكة.. وكل ذلك متداخل مع مشكلات اقتصادية وسياسية واجتماعية وفساد وإفساد، وفقر وإفقار، وجوع وتجويع، ومتداخل عضوياً أيضاً مع التَّفلُّت من المسؤوليات الوطنية والقومية عن القضايا المصيرية وعلى رأسها قضية فلسطين، ومِن الانتماء وواجباته، ومن التطلع إلى وحدة المسار والمصير للتخلص من الرَّاهن المؤلم والمستقبل المظلم.
وهذا الواقع يفرض على كل منا أن يتعامل معه تعاملاً نوعياً مختلفاً عن كل ما سبق من تعامل.. ويشكل دعوة لكل من يعنيهم شأن الوطن والأمة، الوجود والمصير، الحرية والإنسان، ولكل مَن تعنيهم الحقيقة ولا يعنيهم الظهور الشخصي باسمها وعلى جثتها، والمنذورين لأمتهم وحريتها واستقلالها ووحدتها.. باستنبات الكلمات والمواقف في تربة الواقع وأوجاع الأوضاع الراهنة، ومصداقية الوقائع الصادمة، ومرارة المعاناة وعمق الجراح وعياً قومياً منقذاً..
في وطننا العربي الكبير اليوم بؤس وواقع بائس، وانغماس ضار في تناقضات عميقة، وتنافر وتدابر وتقاتل فاجع، وانخراط في أزمات وصراعات دامية وحروب مهلكة.. وكل ذلك متداخل مع مشكلات اقتصادية وسياسية واجتماعية وفساد وإفساد، وفقر وإفقار، وجوع وتجويع، ومتداخل عضوياً أيضاً مع التَّفلُّت من المسؤوليات الوطنية والقومية عن القضايا المصيرية وعلى رأسها قضية فلسطين،
بعيداً عن الأبراج العاجية وفذلكاتها وأوهامها وتوهماتها، وعن الشطحات الكلامية وصَبواتها، وعن الارتباطات المشبوهة والتبعيات والموالاة لغير الأمة وتبعاتها وانعكاساتها، وعن كل شكل مِن أشكال التخريب التربوي والاجتماعي والإعلامي والثقافي.. دعوة إلى أن يُستنبت الحرفُ في الجراح المَلِحَة، في تربة الواقع المُر والمواجع الكثيرة، في مناخ التوتر المنذر بالشرور.. دعوة مفادها أن: "أيها الحامل ضوءً وتوهجاً وضوع وفاءٍ وأنواع رؤى، وقولاً يبذر تعقلاً ويستنبت عملاً، ويُشرِع في الأنفس ومدى الآفاق أملاً.. أيها الناشد حقيقة تشفي، ومصداقية معافاة تعطي للقول والفعل والوجود والحوار معنى، وإلى ما تقدمه من رؤى وآراء وجهود وجهاد ثمرة وغنى.. تعال افلح أرضاً تحتاج إلى من يحرثها، وارتبط أخذاً وعطاء بأناس يحتاجون إلى من يعطيهم بإخلاص، ويترجم عنهم بدقة وحيوية.. تعال خذ منهم واعطهم، تعال إلى حياة إبداع يستمد حيويته من حياة طفل يحميك في الوقت الذي تعرف فيه الدنيا كلها أن من واجبك أن تحميه بلحمك ودمك، تعال افلح تربة الواقع الراهن والظرف الراهن وأرض الدم والنضال التي يقدم لها المقاومون دماً، وتكاد لا تقدم لها أنت حبراً مضاءً بوهج الروح والانتماء الصادق والموضوعية والمنهجية والعلمية ـ العملية..
تعال عش ظرف من يموتون ليمنحوك وطناً حُراً سيداً عزيزاً، وحرفاً طيباً بسخونة رغيف الخبز، ودفئاً يقيك صقيع المكان والزمان والغربة.. تعال افلح أرضاً بكراً، وأنر عقلاً، وافتح نهج حق بروح الإيمان الحق.. تعال ابدع وادفع بالرأي الحر والحرف النيِّر ظلامَ الظلم عن الإنسان وزحف الأعداء على الأوطان.. تعال ابذر عطفاً، وامسح دمعاً، وآسِ جراحاً، وأشرِق أملاً.. في زمنٍ ضاعت فيه الأرض، والقيم، والأخلاق، وفسد مِعيارُ الحكم، وشَقي الناس بأهل الحكم.
تعال عزز سلامة المركب الذي يقل الجميع، ويواجه العواصف الهوجاء.. وإلا فإنك تسفح جهدك ولا تكون حاجة لكلماتك وغنائك وفنك وبكائك ومواساتك بعد فوات الأوان، لأنه لن يكون هناك من يسمعك ولا من تنقذه ولا من يحتاج إليك.. تعال استنبت حرفك في مناخ واقع مأساوي يختلف عن كل ما عرفت وما شكَّل مناخ عطائك السابق، فوطن الأمة يُستباح، والاحتلال يتمدد، والتبعية للأعداء وموالاتهم ورفع راياتهم تلغي السيادة وتحل محل الاستقلال..
إن فساد الآراء والرؤى والأحكام والحُكام يعرِّش ويزيد مدى المعاناة.. الناس في المأساة والبأساء، والخيام تنوح، ومخيمات البؤس البشري تكثر وتكبر، والناس فيها يموجون بين موت وموت.. هذا وقت الإنقاذ والاستنقاذ، ولا مجال لترف الحرف ولا لعزلته وانعزاله.. وهو لا يهتدي ولا يهدي ولا يحيا ولا يُحيي إذا ما استطاب التهويم وأوغل في التوهم ونشد الإغلاق والإبهام، أو اكتفى بنشدان جمال الأساليب والتراكيب والصور والاكتفاء بذلك.. فواقعنا ومقومات عيشنا وعوامل نهوضنا وتطورنا وقدرتنا على الدفاع عن أنفسنا تستدعي نهجاً آخر.. وعلينا اليوم أن ننغرس ونغرس حروفنا في ساحات نضالنا وتربة شهدائنا وتفاصيل أوضاعنا.. في مياديننا الوطنية، وبيئتنا المدماة، وإرثنا النضالي، وتراثنا الحي.. وأن نتأصل في تربة الأصيل، ونعمل على ما يشكل جوهر وجودنا وهويتنا وصمودنا ومقاومتنا ويفضي بنا إلى التحرير والحرية.
إن فساد الآراء والرؤى والأحكام والحُكام يعرِّش ويزيد مدى المعاناة.. الناس في المأساة والبأساء، والخيام تنوح، ومخيمات البؤس البشري تكثر وتكبر، والناس فيها يموجون بين موت وموت.. هذا وقت الإنقاذ والاستنقاذ، ولا مجال لترف الحرف ولا لعزلته وانعزاله.
من هذا كله تستمد الكتابة موضوعاتها ونسغ حياتها وتأخذ وتعطي وتتفاعل في مثل هذا المناخ، لأن ما يمكن أن يتم في هذا المناخ وفي هذه المجالات من تفاعل خلاق بين المبدع ومتلقي الإبداع ينتج إبداعاً منتمياً للإنسانية والحياة، ويجعله مؤثراً وفاعلاً وقادراً على التغيير. والأبداع الحق لا يريد ولا ينبغي له أن يكون بعيداً عن الحياة والناس إذا ما أراد لنفسه أن يحمل هوية وخصوصية وأن يبقى ويتسامى ويرتقي بالإنسان، وتنفتح أمامه فرص الانتشار والخلود..
إن أرضنا خصبة أيها العزيز الذي يفلح أرض الأنفس والضمائر والقلوب والأرواح، ويبذر فيها الأخلاق والقيم الخيِّرَة والرُّؤى السليمة والقوة المنقذة بالإبداع والكَلِم الطيب والفكر البناء والرُّؤى والقيم. إن مسؤوليتنا مكلفة يا حامل الحرف، وليس هناك ما يُسوِّغ أن نبقى في مجاهل أرض بعيدة أو غريبة مهما وجدنا فيها من صنوف الراحة والاستقرار والأمن و" نعمة" اجترار ما يريحنا ويسعدنا ويمتعنا.. فهناك دم أطفال ونساء ورجال يراق ظلماً وعدواناً، وهناك من يبذل دمه ويعاني في المعتقلات والسجون ويضحي بالكثير لمواجهة الظلم والقهر والعدوان والاحتلال والعنصرية البغيضة، وهناك مَن يضحون مِن أجل الحرية والعدالة والمبدأ والحق في الحياة، ومَن يموتون من أجلنا ومن أجل تأكيد الانتماء بكل معانيه، ونضال يومي يُخاض في وطننا ضد العدو الصهيوني والمحتل وداعموه وضد الطغيان والاستبداد والظالم، وضد من توطَّن في نفوسهم ورؤسهم الغزو الثقافي، والتبعية ومولاة أعداء الأمة والدونية والاستسلام للهوان، ومن سكنتهم أمراض الطائفية والتعصب والتطرف وفسدت رؤاهم ومعاييرهم الوطنية والقومية والأخلاقية، وغاصوا في الإثم والدم، وغدا القتل عملاً من أعمالهم اليومية، والسكوت عليهم مشاركة لهم في الجريمة ومضاعفة للإجرام، وخطراً على الوجود.. من دون أن يطالهم عقاب، أو يحكمهم قانون، أو يردعهم ضمير أو يلجمهم عقل ودين وخُلُقٌ.
وإنما الأممُ الأخلاق ما بقيَت فإن هُمُو ذهبَتْ أخلاقُهم ذَهبوا
مشروع الرئيس سعيّد لتوحيد النقابات الأمنية.. خطر داهم