يمكن فهم الجهود المبذولة للثورات المضادة في العالم العربي، جنباً الى جنب مع القوى المصطفة بقوة خلف أنظمة الاستبداد العربي وعسكرها وأمنها، من أجل توفير أوسع دعم ممكن لهزيمة الثورات العربية، واستجابة لرغبة عربية مستبدة موحدة في شروط الدفاع عن بعضها البعض، بُذلت أقصى جهود القمع والدموية والتآمر ضد أبسط الآمال في طلب الحرية والمواطنة والكرامة الانسانية، بحيث بات الموقف من هذه الآمال، صنو الموقف من القضية القضية الفلسطينية، والموقفين معاً حددا تصنيف القوى والأحزاب والنخب العربية من مدى مصداقية طروحاتهم التاريخية بهذا الشأن، وقد فعلوا وقدموا بجديةٍ كاملة مواقف أكثر وضوحاً في مساندة الإنقلابات و التهليل لحكم العسكروالاستبداد الأشد عدوانية في وجه الثورات.
والشعوب العربية التي تعرضت لجبروت الطغاة، وزعزعت رغباتهم المتزايدة في أبدية القهر والظلم، تتعرض اليوم لمحاولة إعادتها لحظيرة الاستبداد، كما كان شأنها في عهد من خُلع عن الحكم أو على وشك السقوط، بعد توجيه ضربات قاضية للثورات في سوريا واليمن ومصر وليبيا وتونس والسودان، كان من الواضح حجم المجابهة الحادة التي وضعت فيها المجتمعات العربية الثائرة، وحجم الضغوط والقوى التي تجندت للدفاع عن قمع وقهر الأنظمة للإنسان العربي، منذ اللحظة التي ظفر فيها التونسيون والمصريون بالثورة، انتظم حلف الثورة المضادة واستخدم امكانياته الهائلة بالسلاح والمال وتجنيد بروباغندا محاربة "الإرهاب" التي كانت واحدة من الأسباب التي حمل ذرائعها نظام الأسد في سوريا والنظام المصري، مع قوى إقليمية ودولية كثفت جهودها لمنع حدوث أي تغيير جوهري، رغم فداحة الجرائم والشواهد الضخمة عليها.
لذلك بُذلت وتُبذل أعظم الجهود لتصفية جيوب الثورات العربية ليضمن الاستبداد والطغاة صلابة الجبهة الداخلية، ولحرمان المجتمعات العربية من فرصة التغيير المنشود، تشكلت جبهة عربية موحدة التقى فيها "ثوريون" سابقون ومثقفون ونخب وساسة يجمعهم الحذر والخوف الحقيقي من حرية الانسان، اعتُمد دستورشيطنة الثورات وضخ فوبيا "أسلمة" المجتمعات وتبني ذرائع القمع والسحق للإنسان العربي، وبأن من ينشد التغيير ليس سوى إرهابي مُغرر به من قوى خارجية متآمرة، وبأن كل هذا القمع والدمار يستحقه كل من يرفع رأسه في وجه الطاغية العربي، و يبرر في سياقه الطبيعي لحماية الأوطان.
في ظل انتكاسة عربية وهزيمة للثورات العربية، وتآمر وتصهين ضد القضية الفلسطينية واستعادة التلاحم بين المستبدين بتعويم بعضهم البعض، وفي ظل تفشي قمع المحتل وتغوله وتسجيله انتصارات وسيطرة أمنية مشابهة لانتصارات الطغاة في المنطقة العربية، ستبقى الخلافات المفتعلة بينهم ليس من شأنها أن تعطل واجب الوفاء العربي بمستلزمات الطاغية للمحتل.
الحرص الرسمي العربي على الأوطان، هو حرص على وظيفة الحاكم العربي وسلطته الأمنية التي اختزل فيها الوطن، وتفاقمت بسببه الكوارث بإعدام الحياة السياسية وقمع الحريات وزيادة وتيرة القهر والقمع والفساد وتبديد الثروات، وهو ما فسر المنحى العام لإندلاع الثورات، فكيف ستكون الأوضاع في ترتيبها الجديد المبني على قديم ركيزته إرهاب المجتمع، مضافٌ إليها جرائم حرب وضد الإنسانية؟
نعم هناك إعاة نظر شاملة وجذرية لتمتين الإستبداد وتمكينه، بتنشئة أمنية قائمة على التطرف والحقد والعنصرية، ضد مجتمعات تجرأت بالسؤال عن كرامتها وانسانيتها، نجد في هذا الوقت أن الاستبداد يقوم بواجب الوفاء للطغاة، و بمزيد من الشراسة التي حصدت ملايين الضحايا والمهجرين والمشوهين، يجري الكلام الصريح عن التطبيع فيما بينهم من جهة، وبين جزء منه وبين إسرائيل من جهة ثانية والذي يلقى رواجاً كبيراً عند الأنظمة التي أكملت العثور على أسباب تحالفها مع المحتل الإسرائيلي بعد هزيمة الثورات، وهذا ليس بالمستغرب ما دام ثمة أنظمة حولت شعاراتها بمحاربة الإرهاب للحصول على براءة من المحتل بأن الخطر المشترك الذي يجمعها في خندق معه لمحاربة إرهاب يشكل خطراً على كليهما في الوجود.
وما يهمنا هنا هو التأثير السياسي والأمني للتحالف البيني العربي المستبد وعلاقته بالمشروع الاستعماري الصهيوني في المنطقة، و خصوصاً أن القوة العربية والنفوذ والسيطرة العسكرية والهيمنة هي للتأثير والتحكم بمجريات الأمور على الشارع والمجتمع العربي الذي يتطلب تعاونا وتحالفا بينهم يضمن هدوءاً وأمناً للمحتل، ويُسقط كل المشتركات العربية وتحدياته عن الأمن الإقتصاد والسياسة والمجتمع والمستقبل.
أخيراً، في ظل انتكاسة عربية وهزيمة للثورات العربية، وتآمر وتصهين ضد القضية الفلسطينية واستعادة التلاحم بين المستبدين بتعويم بعضهم البعض، وفي ظل تفشي قمع المحتل وتغوله وتسجيله انتصارات وسيطرة أمنية مشابهة لانتصارات الطغاة في المنطقة العربية، ستبقى الخلافات المفتعلة بينهم ليس من شأنها أن تعطل واجب الوفاء العربي بمستلزمات الطاغية للمحتل. لكنها أبداً ستبقى مفاعيل يتحسسها العقل العربي، لتبقى وديعة أجيال تحفظ أسماء وأحداث تتناقلها الأجيال كموسوعة للشبق الذي تلطخت فيه وعليه قيم العدل والكرامة والحرية، وستبقى عناصر الوفاء العربي للكرامة والمواطنة والتحرر في معركة قادمة تقود لنتيجة مؤداها، أن لا قوة تستطيع أن تكبح الروح الإنسانية، وأن تلغي حقها في عناصر الوفاء الطبيعي للحرية.
خريف الجنرال ودور القوى الوطنية
تونس.. نُذُرُ انهيار الداخل وعُزْلة الخارج
"دولة الجكليتة" و"كرة الفشل" ومستقبل العراق!