يعكف عدد من المهنيين والفنيين منذ 3 سنوات على ترميم مخطوطات مكتبة الجامع العمري "الكبير" في مدينة غزة، في واحد من أكبر المشاريع التي من شأنها أن تحافظ على التراث والهوية الفلسطينية لحماية هذه المخطوطات من التلف.
وفي الوقت الذي تعتبر فيه المخطوطات الورقية واحدة من أهم الوثائق التي تؤكد على حق الشعب الفلسطيني في أرضه وتمسكه بهويته؛ فإن تركها على مدار سنوات طويلة يعرضها للتلف والفقدان، لذلك كان هذا المشروع الكبير والمستمر.
وتعتبر مكتبة الجامع العمري "الكبیر" في غزة من أهم دور الكتب والمخطوطات في فلسطين، وهي تضاهي مكتبة المسجد الأقصى المبارك، ومكتبة أحمد باشا الجزار، وهي من أهم دور الكتب والمكتبات التي احتوت على ذخائر ونفائس التراث العربي الإسلامي في فلسطين.
وقال المؤرخ الدكتور عبد اللطيف أبو هاشم مدير دائرة التوثيق والمخطوطات في وزارة الأوقاف الفلسطينية أنه شرع منذ أكثر من 5 سنوات على إعداد كتاب (فهرس مخطوطات مكتبة الجامع العمري الكبير بمدينة غزة)، ليصبح مرجعًا هامًا ودليلاً يحفظ المخطوطات، ليُظهر الأهمية التاريخية والعلمية التي تحملها مخطوطات المسجد العمري (الكبير) ليحافظ على نفائس هذه المكتبة هذا التراث العزير".
وأوضح أبو هاشم في حديثه لـ "عربي21" أن هذا الفهرس قد أظهر الأهمية التاريخية والعلمية التي تحملها مخطوطات المسجد العمري وكان سببًا في نشر هذه المخطوطات عالميًا، مما أسفر عن حصول دائرة التوثيق والمخطوطات بالتعاون مع الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية على مشروع الحفاظ على مخطوطات الجامع العمري الذي بدأ العمل فيه منذ عام 2019.
وشدد على أهمية الكتب والمخطوطات التي تحتويها مكتبة الجامع العمري وهي مخطوطة أصلية، ما بين كتاب كبير، ورسالة صغيرة، موزعة على معظم العلوم الإسلامية والإنسانية، ومعظمها كان في علوم الفقه والحديث.
وقال: "احتوت المكتبة على عدة مخطوطات مهمة ونادرة منها مصاحف، ومنها مخطوطات أدبية، لها قيمة كبيرة، مثل ديوان الشاعر ابن زقاعة الغزي، إضافة إلى مخطوطات أخرى مثل فتاوى العلامة التمرتاشي الغزي، وفتاوى شيخ الإسلام حسن بن عبد اللطيف الحسيني".
وأضاف: "تتميز المكتبة باحتوائها على مخطوطات كتبت بخط مؤلفيها من علماء مدينة غزة، مثل الشيخ عثمان بن مصطفى الطباع، والشيخ محمد سكيك الغزي، والشيخ محيي الدين الملاح، وغيرهم من علماء مدينة غزة.
ويعود مصدر هذه المخطوطات بحسب أبو هاشم بأنها "أوقفت منذ مئات السنين من قبل علماء فلسطينيين، وبالأخص الغزيين منهم؛ وأهم مجموعة من تلك المجموعات هي التي قدمها الشيخ أبو المواهب علي الدجاني، مفتي مدينة يافا سابقاً".
وأضاف: "تكمن أهمية المكتبة في كونها يبرهن على أصالة التراث العربي الإسلامي في أرض فلسطين المحتلة، وتقدم وثيقة شاهدة على بقاء هذا التراث هناك، كما تكمن أهميتها في أنه احتوائها على مجموعة نفيسة من المخطوطات الإسلامية التي تمتدّ جذورها إلى القرون الإسلامية الأولى، وهي مجموعة مخطوطات كانت حاضرة من حواضر العلم والثقافة منذ عدّة قرون".
وشدد أبو هاشم على ن مخطوطات الجامع الكبير في غزة كانت في حالة یُرثى لها، فأغلبها قد ضربتها الأرضة، وأصابتها الرطوبة، وبعضها أصابها العفن وتآكل بسبب عوامل الجو، والزمن، والإهمال، وعدم الصيانة، والتآكل بسبب عوامل التلف الطبيعية من أغبرة وحشرات وبيئة غير مناسبة من الحفظ، مما یهدد بفناء هذه الكنوز، ویحول دون الاستفادة منها.
وقال: "إن هدف المشروع هو الحفاظ على المخطوطات من التلف والتمزق، ومن عوامل أخرى كالأغبرة والحشرات التي تعمل على تآكل أوراق المخطوطات، من أجل الحفاظ على الهوية والتراث الفلسطيني".
وأوضح أبو هاشم أن دائرة التوثيق والمخطوطات في وزارة الأوقاف الفلسطينية ومن خلال فريق العمل لديها بدأت عبر مشروع الحفاظ على التراث المخطوط (حفظ مخطوطات المسجد العمري الكبير) في شهر شباط/ فبراير من العام 2020م بعملية التدريب للتعامل مع المخطوطات في الحفاظ بإشراف الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية التي كان لها الدور في الإشراف على هذا المشروع والحصول على تمويل من مؤسسات عالمية تسعى للحفاظ على الموروث الثقافي والعلمي.
واستعرض أبو هاشم المراحل التي مرت بها هذه العملية وتدريب الكادر الفني ليعمل على ذلك وتأسيس معمل متخصص بذلك، مؤكداً أن هذا الجهد تكلل بتنظيف جميع المخطوطات الموجودة داخل الدائرة والبالغ عددها (288) من مخطوطات والأوراق المتفرقة.
ومن جهته قال المهندس والأكاديمي منير الباز مدير المشاريع في الكلية الجامعية: "إن الكلية حصلت على موافقة دائرة التوثيق والمخطوطات في وزارة الأوقاف للتواصل مع الجهات المانحة لإنقاذ هذه المجموعة الثمينة التي لا تقدر بثمن".
منير الباز.. مدير المشاريع في الكلية الجامعية
وأضاف الباز لـ "عربي21": "حصلت الكلية على 4 منح تمويل من جهات دولية من أجل إنقاذ ورقمنة نصف المخطوطات التاريخية، تم جلب استشاريين من الولايات المتحدة الأمريكية والقدس وإيطاليا من أجل التأكد من جودة العمل بشكل ممتاز".
وأشار إلى أنه تم استدعاء استشاري إيطالي لزيارة غزة من أجل تدريب الطاقم المحلي، كما تم إنشاء مختبر ترميم المخطوطات بأعلى جودة ممكنة.
وقال الباز: "الكلية الجامعية تقوم بهذا الدور إيماناً منها بدورها في خدمة المجتمع الفلسطيني، وإن دور الكلية الجامعية ليس دور أكاديمي فحسب، وإنما لها دور في نشر المعرفة ومساعدة المجتمع المحلي والارتقاء به".
وأضاف: "مشروع الحفاظ على مخطوطات الجامع العمري مشروع ضخم ولكنه تم تقسيمه على مجموعة من المراحل، وحصلنا عل 4 منح مختلفة من أجل إنجاز هذا المشروع".
وأوضح أن من إنجازات هذا المشروع أنه تم الترميم الطارئ لجميع المخطوطات وتم رقمنة وتصوير جميع المخطوطات ونشرها على منصات عالمية مثل منصة المكتبة البريطانية ومنصة مكتبة المخطوطات ومتحف هيل في أمريكا وأيضا تم الارتقاء في مستوى الكادر المحلي في مجال رقمنة المخطوطات وأيضا تم تدريب الكادر المحلي على مهارات ترميم المخطوطات.
وقال: "إن ما قامت به الكلية الجامعية في هذا المشروع نابع لإيمانها بدورها في خدمة المجتمع الفلسطيني وأيضا إيماناً من الكلية الجامعية في أهمية الحفاظ على الموروث الثقافي الفلسطيني، حيث إن التراث يعد ركيزةً مهمة لإسناد الرواية الفلسطينية ودعم القضية الفلسطينية وتعزيزها".
وأضاف: "بدأت العمل في هذا المشروع منذ 3 سنوات، وفي نفس الوقت نحن لا نعتبر أنه مشروع له بداية ونهاية ولكننا نعتبر أن مشروع الحفاظ على مخطوطات الجامع العمري (الكبير) هو مشروع حي ومستمر وما زلنا نبحث عن تمويل إضافي من أجل استمرار ترميم المخطوطات بسواعد الكادر المحلي في دائرة المخطوطات التابعة لوزارة الأوقاف إضافة الى أن هناك مجموعة مختلفة من الممولين دائما نخاطبهم من أجل البناء على جهود الممول الذي سبقه".
وعن الصعوبات والعقبات التي واجهتهم خلال عملهم في هذا المشروع أوضح الباز أن من أهم الصعوبات كان تحويل الأموال من طرف الممولين الى غزة في ظل الحصار المالي المفروض على القطاع، مستدركاً بالقول "هذه صعوبة بفضل الله استطعنا بالتنسيق مع شركائنا في أمريكا وبريطانيا وإيطاليا التغلب عليها وتسهيل تحويل اموال المنح إلى غزة".
وقال: "لا يوجد في قطاع غزة مدرسة متخصصة في ترميم المخطوطات وإن هذا التخصص هو تخصص دقيق جداً وعلى مستوى العالم، وهنالك مراكز معدود على أصابع اليد تقدم هذا التخصص النوعي في العالم".
وأضاف: "العديد من المخطوطات كانت في حالة سيئة جداً ولا يمكن إصلاحها إلا بخبرات كبيرة كاستشاريين من إيطاليا وهم الذين نتعاقد معهم من أجل تدريب الطاقم المحلي في ترميم المخطوطات".
وأوضح الأكاديمي الفلسطيني أن التدريب عبارة عن مراحل ويجب أن يستمر التدريب لمدة عامين على الأقل من أجل أن يحصل الكادر المحلي على المهارات اللازمة وهذه تكلفة كبيرة.
واعتبر أن إدخال الخبراء الأجانب إلى قطاع غزة كانت واحدة من الصعوبات الكبيرة التي واجهتهم، مشيراً إلى أن هناك خبراء أجانب يخشون الحضور إلى غزة.
وقال: "المخطوطات بحاجة الى رعاية وبيئة خاصة من حيث درجة الحرارة الرطوبة وغيرها وهذه البيئة أحيانا يصعب توفيرها بسبب الانقطاع المتكرر للكهرباء.
ومن جهتها شددت المهندسة حنين العمصي مشرفة الترميم في المشروع على أهمية تضافر الجهود من أجل حماية التراث الفلسطيني، وذلك من خلال عقد وإقامة ورشات ودورات يشرف عليها مختصون من منظمات محلية ودولية للتوعية بها وإنقاذها وحمايتها والحرص عليها.
حنين العمصي.. مشرفة الترميم في المشروع
وقالت العمصي لـ "عربي21": "هذه المخطوطات كنزُ يجب علينا أن نحتفي به، وإرثًا عظيمًا من الأجداد الذين انكبوا على العمل والتأليف والتصنيف والإبداع في فترات تاريخية طويلة، ليقدموا إلينا ثمرة نتاجهم الفكري (...) فهي قبلةُ للباحثين والدراسيين في كل العالم لتنير آفاق التقدم والرقي الحضاري".
أوضحت أن دائرة التوثيق والمخطوطات في وزار الاوقاف بدأت بتنفيذ هذا المشروع مطلع العام 2020م، بتدريب فريق العمل لديها وعددهم 4 اشخاص على آليات حفظ المخطوطات.
وأكدت أن المشروع يتكون من 3 مراحل رئيسية وهي: التدخل الطارئ لترميم المخطوطات، ثم إعداد نسخ إلكترونية منها، ثم إعادة تخزينها حسب المعايير الدولية المرتبطة بمعايير الحفاظ من العوامل البيئية.
وقالت العمصي: "قام فريق العمل التابع لدائرة التوثيق والمخطوطات بعملية تنظيف دقيقة لجميع مخطوطات المسجد العمري (الكبير) في المرحلة الأولى من المشروع بأدوات متخصصة في هذا المجال والتي من ضمنها ( فراشي خاصة ـ مقصات طبية ـ كحول ـ أواني زجاجية وأخرى معدنية ـ وغيرها)".
وأضافت: "بذل فريق التنظيف جهدًا كبيرًا في هذه العملية حيث كان يقوم بترقيم أوراق المخطوط بأقلام الرصاص على أطراف المخطوط للحفاظ على ترتيب الأوراق ثم تصوير الحالة التي هي عليها المخطوط، ثم البدء في عملية التنظيف التي امتازت بالدقة والتراتب باستخدام فراشي متخصصة لهذا الغرض، وأرشفة ما تم معالجته أول بأول، ثم حفظ المخطوط بعد الانتهاء من تنظيفه في صناديق خالية من الأحماض للحفاظ عليها من عوامل التلف ثم وضعها على رفوف معدنية بشكل عمودي منتظم ووضعها في ظروف مُناخية مناسبة بدرجة حرارة (18) ودرجة رطوبة من (55) إلى (60) درجة مئوية".
وتابعت: "إن إحدى الصعوبات التي واجهتنا في هذا المشروع هو الحصول على الصناديق الخالية من الأحماض، والتي كان من الصعب إيجادها في قطاع غزة الأمر الذي استدعى أن يتم استيرادها من الخارج، وبتكلفةٍ باهظة.
أما عن المرحلة الثانية من المشروع فكانت حسب العمصي أرشفة هذه المخطوطات إلكترونيًا في استوديو متخصص تم إنشائه في الدائرة وفق مواصفات قياسية عالمية تتبعها مؤسسات متخصصة في هذا المجال.
وقالت: "على الرغم من كل الجهود المبذولة للحفاظ على هذه المخطوطات، إلا أن هناك حاجة ماسة إلى عملية ترميم المخطوطات، ومحاولة إعادتها إلى حالة تشبه حالتها الأولى التاريخية وذلك بمعالجتها".
وشكرت الناشطة الفلسطينية أبو هاشم وفريق العمل بدائرة التوثيق والمخطوطات، والكلية الجامعية للعلوم المهنية والتطبيقية للجهود التي قاموا بها التي تكللت بإنشاء معمل خاص بالترميم، هو الأول من نوعه على مستوى قطاع غزة، والتغلب على جلب مكونات المعمل مثل مكابس الأوراق ـ والجلود المستخدمة في تجليد المخطوطات ـ والمقصات والشفرات الخاصة بعمليات التجليد) والتي تم التحصيل عليها من خارج القطاع بعد جهد وعناء كبيرين.
وقالت: "تم إنشاء هذا المعمل الخاص رغم كل المعيقات التي حالت دون إكمال أدواته كـ (الصمغ العربي، الورق الياباني بأحجامه المختلفة المستخدم في عملية الترميم والذي تم الحصول عليه من خارج قطاع غزة لعدم توفره) كما احتوى المعمل على جميع الأدوات اللازمة لعملية الترميم والتي من ضمنها (الصمغ الخاص بعملية الترميم)".
وأضافت: "تم دعوة عالم متخصص في علميات ترميم المخطوطات والوثائق من إيطاليا ليقوم بعملية تدريب مكثفة لطاقم العمل على مرحلتين كانت أولهما في نهاية شهر اذار/ مارس الماضي، وقد عُقدت محاضرات نظرية عبر تطبيق الزووم، وكان من أهم ما جاء فيها: طرق حفظ أوراق المخطوطات وآلية ترميمها، التعرف على أنواع الحبر الذي استخدمه النساخ في كتابة المخطوطات، وكيفية صناعة الصمغ الخاص بعملية الترميم".
وأوضحت أن المرحلة الأولى انتهت بممارسة تقنية في معالجة أوراق من مجلات وجرائد قديمة كتجربة في نهاية شهر أيار/ مايو الماضي تمهيدا للعمل على أوراق المخطوطات.
وأشارت إلى أن المرحلة الثانية من عملية التدريب تمت بحضور المدرب المتخصص من إيطاليا ليشرف على التدريب العملي الذي بدأ بمراجعة ما تم التعرف عليه من خلال المحاضرات النظرية بشكل عملي، وبإشراف مباشر من قبل المدرب، كما احتوى التدريب على معرفة طرق خياطة المخطوطات وتجليدها، وقد قام الفريق بتطبيق هذه الطرق عمليًا في معمل خاص تم إنشاؤه ليكون كذلك أول معمل مختص في عملية خياطة وتجليد المخطوطات والكتب القديمة في مدينة غزة.
وأوضحت أن المرحلة الثالثة والتي كانت متخصصة أكثر في عمليات الحفظ والترميم حسب المعايير الدولية المرتبطة بمعايير الحفاظ من العوامل البيئية، هي كانت مرحلة تدريب مكثفة على تنفيذ هذه المرحلة.
راشد حسين.. عاش لفلسطين ومات فجأة بشبهة اغتيال!
الحقيقة الفلسطينية بدون مبالغات سبيل للهوية
مسجد ابن عثمان أحد الشواهد التاريخية على عراقة مدينة غزة