كتب أحد المصريين الذين أتخمهم الأرز السعودي منذ عرفوا مذاقه وهم في مصر عند نهاية السبعينيات، وعرفوا متى يمكنهم إغضاب وإرضاء الحاكم في القاهرة، مهما تقارب معهم، طالما كانت هذه إرادة حاكم الرياض؛ يُعدد الأسباب التي تطيح بالأنظمة العربية، ويندب حظ العرب لعدم وجود انتقال سلمي للسلطة عندهم مقارنة بالغرب.
كلمة حق لكنّها تعبر عن انفصام شخصية ذلك الكاتب، رجل الأعمال الذي يقرأ ما تنشره وتفعله لندن وواشنطن بينما يرتزق من ممارسات القاهرة والرياض، اللتان لولا ما بهما من فساد وتفضيل لأهل الثقة والولاء على أهل المعرفة والخبرة (وهي من أسباب الفشل التي يعددها)، لما كان له نفسه أي حظ فيما أنجز وحقق وكسب وكنز في ذلك الرَّبع العربي البائس.
لكن من حسن حظه كالعادة غباء منافسيه من متملقي ومرتزقة فتات الحاكم المصري، الذين روجوا لمقال التابع بهجومهم عليه وردهم دفاعًا عن حاكمهم رغم أن الكاتب، تابع الكفيل، لم يذكر في كل مقاله لا اسم الحاكم ولا اسم أي بلد عربي يتحدث عنه ويتوقع أن يسقط نظامه منتصف العام المقبل لثقل أوزاره.
حتى لو كانت "منافذ الإخوان" وأنصارهم، كما يزعم متملقو النظام، هم الذين روجوا للمقال باعتباره نيرانًا صديقة، فإن رد أولئك المتملقين عليه وعلى صاحبه من أتباع السامسونج وبكباشي الإعلام المصري هو الذي أعطى مصداقيةً وأهميةً لمقال التابع-الكفيل، ولفت اهتمام الجادين واستغرابهم إلى غباء من أكدوا أن حاكمهم المقصود، وتصرفوا بمبدأ المثل الشعبي القائل "اللي على راسه بطحة بيحسّس عليها".
تزامن المقال سعودي التمويل مع غياب الكفيل السعودي عن حضور قمة العلمين المصرية، التي استضافت زعماء أربع دول عربية هي الإمارات والبحرين والعراق والأردن. لم نعرف شيئا مفيدًا عن اللقاء من إعلام المضيف المصري سوى أنه "لقاء أخوي" مع بث مراسم وموسيقى وتشريفات وصول الزعماء في النهار وعروض الألعاب النارية لتسليتهم بالليل. وابتلع الإعلام المصري نفسه ما قاله قبل أسبوع عن تلك القمة المنتظرة بأن السعودية من أبرز المشاركين فيها.. واكتفوا بالصمت دون تعليق.
يفترض أن تكون هذه القمة ناقشت قضايا عدّة مثل قرب التوصل لاتفاق نووي بين الولايات المتحدة وإيران، كذلك التنسيق لقمة الجامعة العربية المقررة في الجزائر بمطلع شهر نوفمبر/ تشرين الثاني. وهي قمة يُفترض أن تبحث أو تشهد عودة سوريا إلى الجامعة العربية وفعاليتها بعد مقاطعتها منذ 11 سنة.
لكن السعودية وقطر ما زالتا عند موقفيهما ضد عودة سوريا للجامعة العربية طالما ظلّ نظام الأسد هو من يمثلها. والمفارقة، أن هذا ما اتفق عليه البلدان قبل وبعد مقاطعة قطر وحصارها السعودي بالتحالف مع الإمارات ومصر لثلاث سنوات. كما أن مصر متفقة مع الإمارات في عودة سوريا الأسد إلى الصف العربي.. وهو موقف لم يتغير لكنه يتوارى كلما زاد الضغط السعودي رافضًا له ولأي تقارب مع إيران.
الكفيل السعودي بقيادته الشابة الجديدة لا يعرف تقبيل أو "بوس اللحى" عند أي خلاف مع أي حليف أو تابع، فطالما كان لديه أرز يملك منحه أو منعه، فهو لا يتردد في قطع الأرزاق وربما حتى الأعناق، إن لم يحصل على تبعية كاملة.
فحتى عندما كان الشاب محمد بن سلمان ولي ولي العهد، قبل الإطاحة بابن عمه محمد بن نايف واعتقاله، كان الرد السعودي في عهده على مصر جادًا وقاطعًا حين تأخر تسليم جزيرتي تيران وصنافير بعد توقيع رئيس الوزراء على تسليمهما، لكن عطّلته المعارضة الشعبية والقضاء الإداري، فقرر قطع إمدادات البترول السعودي، عن طريق شركة أرامكو، إلى مصر ولستة أشهر، من أول أكتوبر/ تشرين الأول 2016 إلى أول أبريل/ نيسان 2017. ولم يستأنف ضخ البترول إلى مصر إلا بعد التزام رئيسها بتسليم الجزيرتين رغم معارضة الشعب ومجلس الدولة.
في فترة القطيعة هذه، لم تتردد السعودية في التصدي لأي تقارب مصري سوري أو إيراني والتنديد بمصر عن طريق كتابها وإعلامييها السعوديين، وكان من بينهم الراحل جمال خاشقجي، ومعهم في صف واحد وقتها الإعلام القطري.
فحين صوتت مصر بمندوبها غير الدائم في مجلس الأمن الدولي في 9 أكتوبر 2016 بتأييد مشروع تقدمت به روسيا بشأن وضع مدينة حلب، وهو مشروع قرار لم يرَ النور إذ لم يحصل سوى على أربعة أصوات في مجلس الأمن، شجب المندوب السعودي في الأمم المتحدة الموقف المصري، واعتبر أنه لا يعبر عن الموقف العربي، وأعرب عن حزنه "أن يقف معنا في مجلس الأمن غير العرب كالسنغال وماليزيا وليست مصر العربية".
هل عادت السعودية في أغسطس/ آب 2022 تستخدم أقلام تابعيها لتهديد الموقف المصري وهو يحاول من جديد التقارب مع سوريا لإعادتها إلى الجامعة العربية أو إيصال الكهرباء إلى لبنان عبر سوريا والأردن؟ أم أن المستثمر السعودي، بعقلية الشباب الجديدة غير المتأثرة بشعارات الماضي عن "مكانة مصر الكنانة" لا يجد في العلاقة إلا صفقة.
فبعد أن حصل المستثمر السعودي على ما أراد من مصر باستلام الجزر وإجهاض الربيع العربي، لم يعد لديه استعداد لضخ أموال بلا طائل في "قربة مقطوعة" أو لتمويل "زعامة إقليمية" أو "جمهورية جديدة" تريد بناء عاصمة جديدة وعلمين جديدة وترسانات أسلحة بقروض لا نهائية أو مقابل استحواذات على مشروعات غير مجدية.
عوّدنا ولي العهد السعودي بمجرد أن يجد الفرصة سانحة بأن ينهي العلاقة مع أي شخص بلا رحمة. نحن لا نتحدث فقط عن مصير الصحفي جمال خاشقجي بل كذلك دعوة محمد بن نايف للقاء على فنجان قهوة مع ابن عمه الصغير ابن الملك سلمان، لينتهي لقاء المحمدين بعد ساعات من التهديد بتوقيع ابن نايف على وثيقة تنازله عن ولاية العهد لابن سلمان، وبعد أن حرص الأخير على تصوير نفسه وهو يقبّل يديَّ ابن عمه الكبير، المعتقل، تأكيدًا على الامتنان والولاء واحترام قيم العائلة.
المسألة لم تتوقف عند السعوديين بل امتدت الى إجبار زعيمي دولتين عربيتين على الاستقالة بعد دعوتهما لفنجان قهوة وتهديدهما أو اعتقالهما وإجبارهما على تسجيل فيديو استقالة يتضمن تأكيدًا على حسن معاملة الضيافة الملكية، بمجرد أن شعر الكفيل السعودي أن الرجلين أصبحا مكلفين ويتعين تبديلهما.
هذا ما حدث مع رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري حين وصلت طائرته إلى الرياض في الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني 2017 بدعوة ملكية فلم يجد تشريفة ولا استقبالًا رسميًا في المطار بل اقتادوه بعد تجريده من هاتفه المحمول، إلى محبسه في فندق فخم، وفي اليوم التالي أُجبر على الاستقالة في فيديو مسجل، ولم تفته الإشادة بحسن الضيافة الملكية.
وفي السابع من أبريل الماضي وبدعوة ملكية إلى الرياض، وجد الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي نفسه مضطرًا بعد عملية إقناع سريعة بالتنحي عن منصبه، بعد أن عزل نائبه أولًا حتى لا يأخذ منصبه، وقرر، أو قرروا له في الرياض، تشكيل مجلس رئاسي برئاسة رشاد العليمي، الذي وصفته على الفور وكالة أنباء سبأ بـ "فخامة الرئيس" بينما وصفت هادي بـ "الرئيس السابق"، وهو ما رحب به فورًا الحوثيون، الذين دخلوا في هدنة مع السعودية والإمارات بوقف ضرب منشآتهما بالصواريخ وطائرات الدرونز المُسيّرة. أي أن الكفيل السعودي قرر سحب البساط من الرئيس التابع واختيار فخامة جديدة لليمن السعيد.
من هذه الخلفية لشراسة سلوك الكفيل السعودي الجديد وسرعة تغييره لمن يصبح عبئًا سياسيًا أو اقتصاديًا ثقيلًا عليه، تأتي أهمية توقيت مقال التحذير من أسباب سقوط الحكام والأنظمة. فقد تزامن المقال في الأسبوع نفسه، مع مقال أمريكي في مجلة فورين بوليسي للباحث ستيفن كوك بمجلس العلاقات الخارجية في نيويورك. المقال الموجه لصانع القرار الأمريكي والدولي، وربما الخليجي بالمثل، بعنوان "توقفوا عن تمويل بيت السيسي المصنوع من ورق الكوتشينة".
يوضح الكاتب أن مصر أصبحت في عهد السيسي من أكثر دول العالم الغارقة في الديون، ويرجع ذلك إلى المشاريع الضخمة الوهمية أو الأقرب لما يصفه بـ "الفانتازيا"؛ كعاصمة جديدة وقبلها تفريعة لقناة السويس ومشتريات أسلحة ضخمة ومكلفة.
ويقول إن النتيجة هي أن الحكومة المصرية أصبحت تعيش على القروض من أجل دفع فوائد قروض سابقة بينما يزداد العبء على عامة المصريين من الغالبية الفقيرة أو الطبقة المتوسطة. وهو يراهن على أن تهديد النظام للممولين الدوليين بتبعات عدم الاستقرار والهجرة غير الشرعية من المصريين، لو توقف المتبرعون والمقرضون عن دعمه وتلبية احتياجاته المالية بمزيد من القروض، هو تصور خاطئ في التعامل مع هذا النظام.
ويخلص الكاتب الأمريكي في نهاية مقاله إلى القول إن "أفضل ما يمكن عمله من جانب السعوديين والإماراتيين والقطريين والأمريكيين ومسؤولي صندوق النقد الدولي هو أن يرفضوا المبدأ القائل بأن [مصر كبيرة جدًا لدرجة لا يمكن تحمل فشلها]. ربما يكون هذا صحيحًا، لكن مواصلة إنقاذ السيسي ماليًا بأموال سهلة وقروض مُيسرَّة من الصندوق لن يؤدي إلا إلى إطالة أمد أزمة مصر. بل من الغباء مواصلة تمويل مشروعاته وشطحاته ومدينة الزمرد التي ينشئها. فلن يقود ذلك المسار إلا لمزيد من المصائب".
تُرى، هل يتصرف الكفيل السعودي بناءً على هذه النصيحة بأنه غير مستعد لمواصلة تمويل المشروع المصري، وأنه حان وقت دعوة القائم عليه إلى قهوة المصارحة والانصراف؟ أم أن ما يمكن أن يحدث مع زعيم لليمن أو لبنان لايمكن فعله مع مصر لأنها أكبر من أن يسقط حاكمها نتيجة فيديو أو مقال أو فنجان قهوة مع كفيل غاضب ومتهور، يريد إنهاء اللعبة والاستثمار في مشروع شخص آخر؟