(0)
تبدو
مصر الآن
بعيدة شقية عصية على محبيها، تغيب بنيلها ومبانيها ونخيلها وهرمها وزحامها وعوادم
سياراتها وتلوث القاهرة الذي يعد من أعلى النسب عالمياً، يختفي الزحام وطيبة
البسطاء غير المؤدجلين، تظهر الحقيقة مع قدوم المساء إلى مدن (سواء أكانت مضيئة
بمصابيح الليالي التائهة الغائبة عن حقيقتها أو شبه الغائبة عن الوعي في الأقاليم
والصعيد)..
تقصر عملتها من
الجنيهات العديمة الفائدة والجدوى عن ملاحقة الفساد وارتفاع الأسعار المهول، تصطدم
بالمشروعات التي تلاحق العينين من كباري علوية ذات تخطيط متعجل، إلى تجريف لمقابر
تاريخية أو حديثة البناء..
لم تنج حتى
الأرصفة، يفرغ النظام ما في جوفها على صغره وهشاشته ويتركها لما يقارب العام، ربما
يريد إشعار مواطنيه بأن هناك إنجازاً على طريقة ذلك الذي ضاق بالحياة في غرفة
واحدة مع أبناء كثر وأم مقعدة وأب لا يكف عن طلب رفاهيات الحياة، ذهب إلى من يرشده
فطلب منه إضافة حظيرة حيوانات كاملة إلى الغرفة، فزادت شكواه لاحقاً، فطلب منه إخراج
الدواب الزائرة على مراحل حتى إذا عادت الغرفة لطبيعتها وسكانها شعر الجميع
بالراحة. وهكذا تماماً يتعامل الجنرال الانقلابي عبد الفتاح
السيسي مع المصريين،
بداية من تافه الأمور وحقيرها من الأرصفة والخدمات المفتوحة الأحشاء، ونهاية بقتل
البشر قبل الحريات.
بدأ الجنرال عهده
السياسي مبكراً جداً، استخدم المكر والانتهازية وارتداء الملابس المزيفة للجميع،
أراد الاستيلاء على ما هو أكثر من الدولة، والاحتفاظ بما هو أبعد من المليارات
ومناجم الذهب والطائرات وذمم البشر، علم أنه أتى من أصل سياسي متدنٍ، فيروى أن
غاية أماني عمه "حسن" كانت أن يصل لعضوية البرلمان في عهد الرئيس الراحل
"أنور السادات"، ففشل في مجرد أن يكون عضواً مجهولاً يطبل ويزمر ويصفق
للنظام مقابل مئات الألوف من الجنيهات يملء به جوفه، فلم تتعرض عائلة الجنرال
للسياسة من قبل حتى عهد أبينا آدم؛ ولم يكن السيسي ليتعرض لشئون الحكم والكرسي أو
يتوقع منه لولا تقدير الأقدار ومكر الليل والنهار!
لم تأت مصر إلى
منزلة أن يتولى أمرها السيسي من قريب أو من هين الأمور، فانتهز جميع مفردات ضعف
الكنانة وشقاق غير الطيبين أو الحكماء من أهلها، واستبداد سابق حكامها ومسئوليها
منذ تعرف التاريخ إلى نفسه، فإنه مع الحسرة المميتة فقد كانت الكنانة تسقط من فوق
السلم العالمي ويسمع لسقوطها دوي مرير، إذ استغلت عصابة كارهة لنفسها والحياة عظم
بلاد الفراعنة والمسلمين، ودرة تاج الهكسوس والرومان والعرب، استغلت واحدا من أجمل
وأعرق بلاد الله، احتفلت بمرير فوضاه وضعف أهله عن ملاحقة العصر الحديث في مرحلة
قاسية لزرع الكيان الصهيوني في المنطقة، محاذرة أن يحاول المصريون بعددهم الكبير،
الذي يكاد يمثل ربع الأمة العربية، القضاء عليه، فجاء المخطط قذراً عفناً للحط من
مكانة دول الطوق المحيطة بالكيان، ولو جزئياً من سوريا والأردن ولبنان والعراق.
كانت درة تاج
فسادهم مصر الضعيفة بانقلاب 23 يوليو، ومسيرة حكام عسكريين من بعد؛ لئام لا تعرف
الرحمة طريقاً لقلوبهم وأرواحهم. ولعل الراحل الرئيس أنور السادات أفضلهم وإن كان
ما فيه فيهم، وإن كان قتله بيد بعض الإسلاميين خطيئة هائلة دفعت مصر كلها ثمنها
وعلى رأسها الإسلاميون أنفسهم.
وبالتالي كان تدمير
الدولة دون دخولها في حرب، وإفناء القدرات والنفسيات والإمكانيات البشرية والاقتصادية
والمادية عموماً دون تدميرها، أي ترك الجميع على قيد الحياة مع نشر الرعب بالأرجاء
وتغيير المعادلة الطبقية وتقديم عديمي الموهبة حتى قتل الحياة في غيرهم. استقر
لمبارك الحكم لثلاثين عاماً تقريباً، وجاء على دربه السيسي نتاج ما أفنت يد مبارك
وخربت وأجرمت في حق والديه قبل قريته وقبل المنوفية التي ولد فيها فكان وبالاً
عليها وعلى مصر والأمة.
(1)
من ركام مصر
العيية المجهدة جاء السيسي بعد سيرة عسكريين سيئة بدأت باستشعار الرئيس الراحل
جمال عبد الناصر في 1954م بعض الراحة، بعد التهامه الإخوان والرئيس الأول
للجمهورية اللواء الراحل محمد نجيب وأقطاب مجلس قيادة الثورة الذي يذكر اسمه ببيت
الشعر:
ألقاب مملكة في
غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
ساد عبد الناصر
مصر فأورثها خراب الممسك بتلابيب السلطة بعد أن ربطها في طرف قدمه من أسفل، وجاء
السادات بالمكر والحيلة واللعب على الحبال، فأمسك بالسلطة من خناقها وربطها
بالتوازنات، فخسر بعدما تعملقت ذاته وصدق الأمريكان في كامب ديفيد 1978م، لما
قالوا له بأنه فوق الخلق. وقُتل السادات كيفما دبر وقدر قبل أن يقتله خالد
الإسلامبولي وعبد الحميد عبد السلام وعطا طايل.
وجاء الرئيس
المخلوع الراحل حسني مبارك عديماً للحيلة والخلق وما هو أدنى وأعلى؛ فقيل على
مستويات عليا إن الأمن المركزي لما ثار في 1983م أعد ابن "كفر مصيلحة"،
الذي صار رئيساً للجمهورية في غفلة من التاريخ والجغرافيا والعلم، حقائبه للهروب،
فثبتته ثلة من كبراء المستفيدين من بقائه وأخروا الثورة عليه حتى حين، لكنه بعد
عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وقد كان مريراً على الشعب المصري بجعله جسراً
لاستتاب حكم عديم للموهبة يكره كل نابغة ومجيد للفهم ويبادر بعزله، ومع التسعينيات،
توحش مبارك ونظامه فالتهم الجماعة الإسلامية حتى استسلمت، وغير التركيبة الديموغرافية
لطبقات أبناء مصر اجتماعياً بالكامل، ليشارك الرؤساء الراحلين: معمر القذافي
والسوري حافظ الأسد ومماثلهم اليمني عبد الله صالح وثلة من الحكام العرب الآخرين ممن
تصالحوا على حب أنفسهم وكره الحياة والأحياة في أوطانهم وتقديسها في الغرب.
ولما استكمل
مبارك مفردات الانحناء لحذاء أسياده في واشنطن وتل أبيب نام واستراح وترك الحكم
لشلة من "الرعاع"، لكنه استشعر أنه يركب جواداً هادئاً من أسفله، ولولا
مكر الأقدار بمبارك لكان توفي مكان حفيده محمد علاء في 2009م عن عمر يقترب من
الثمانين، وأراحته وأراحت مصر من غبائه وتفوق شره ومكره وكيده بها، أيضاً كونه
الكنز الاستراتيجي للعدو الصهيوني، ولكنه كان من أسرة معمرة فبقي طول عمره أزمة
لجميع محبيه إلا الطغاة العرب من أمثاله.