مصر التي تشتهي انفراجة الستينيات!

يستمر سجن واعتقال ما يقدر بـ65 ألفا من خيرة أبناء مصر، ومنهم صحفيون وأدباء ومبدعون أحدهم الكاتب عبد الناصر سلامة، رئيس تحرير جريدة الأهرام الأسبق، وهي الجريدة الحكومية شبه الرسمية. ومنذ تموز/ يوليو 2021م والرجل يُتهم بـ"الإرهاب" لمجرد أنه جهر بالمطالبة عبر صفحته في فيسبوك بعد منعه من النشر بغيرها، للجنرال عبد الفتاح السيسي بالتنحي.

وفي مناخ مختنق يضيق بأدنى رأي معترض على مسيرة تدهور البلاد والعبث بمقدراتها، أقام أحد المحامين المقربين من النظام دعوى ضد سلامة؛ زعم فيها أنه يحرض "على قلب نظام الحكم في مصر، وتعمد نشر أخبار كاذبة عن مؤسسات الدولة وملف السد النهضة الإثيوبي، بغرض نشر الفوضى والاضطرابات في البلاد"، فيما يقول الجنرال بنفسه في ذكرى هزيمة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر المريرة (5 حزيران/ يونيو) إنه سيصمت عن الملء الثالث الوشيك لسد النهضة الإثيوبي، متحملا انحسار نصيب مصر من مياه النيل للمرة الأولى، بما يعني أن الجنرال يقر بلسانه بتفريطه في النيل، فيما يستمر سجن سلامة المسن لأنه حذر من ذلك، بل يُخشى عليه أن يلحق بمصير الراحل الصحفي النبيل محمد منير الذي سجنته السلطات منذ منتصف حزيران/ يونيو 2020م، ثم إطلاق سراحه في الثالث من تموز/ يوليو التالي قبيل وفاته بأيام، بعد أن عانى من مضاعفات أمراض مزمنة.

ينسب للراحل الدكتور طه حسين أنه قال عن واقع الأمة العربية الفكري الإبداعي الثقافي في نهاية الستينيات من القرن الماضي قولا ملخصا في ست كلمات فحسب: "القاهرة تؤلف وبيروت تطبع وبغداد تقرأ". ورغم أنه كان يصف مصر تحت حكم عسكريي 1952م، إلا أن مساحة الحرية في التأليف والنشر كانت أكثر ازدهارا مقارنة بالآن، وبالتالي الأفكار البناءة لصالح الوطن خاصة في الصحف اليومية؛ إلا أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كان يتابع ويقرأ جديد الفكر السياسي والإبداعي بنفسه، بخاصة للراحلين توفيق الحكيم وإحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ وغيرهم؛ كما كان يراعي ألا تطول يد الأجهزة العسكرية والأمنية كثيرا من رموز مصر وقاماتها في ذلك الوقت، إلا بحساب دقيق يحدده شخصيا، حتى أن توفيق الحكيم لما ألف في عام 1966م مزيجا فنيا بين المسرحية والرواية أطلق عليه "مَسْرواية" باسم "بنك القلق"، وأعطاها للصحفي الراحل محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير جريدة "الأهرام" وقتها، وهو أيضا الكاتب الأقرب لعبد الناصر، ليقرأها، فقرر الأخير نشرها على مسئوليته الشخصية؛ إذ كان العمل يحكي عن محاولة بطله "أدهم" السيطرة على القلق المسيطر على المواطن المصري نتيجة أفعال أجهزة الأمن المتعددة وانعدام الشعور بالحرية بعد الثورة، حتى أنه طالب في النص نصف الكوميدي إنشاء بنك للقلق أو مؤسسة عامة لعلاج الناس منه.

يقول الجنرال بنفسه في ذكرى هزيمة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر المريرة (5 حزيران/ يونيو) إنه سيصمت عن الملء الثالث الوشيك لسد النهضة الإثيوبي، متحملا انحسار نصيب مصر من مياه النيل للمرة الأولى، بما يعني أن الجنرال يقر بلسانه بتفريطه في النيل، فيما يستمر سجن سلامة المسن لأنه حذر من ذلك، بل يُخشى عليه أن يلحق بمصير الراحل الصحفي النبيل محمد منير الذي سجنته السلطات

وعقب نشر الحلقة الأولى من العمل الإبداعي ثارت ثائرة وزير الحربية حينها المشير عبد الحكيم عامر، حتى أنه اصطحب هيكل لمقابلة عبد الناصر بنفسه في مكتبه، فلما ازداد خلافهما أمامه طالبهما بمغادرة إلى غرفة أخرى خاصة بالانتظار، حتى يقرأ النص ويعطي قراره إما باستمرار النشر أو المنع، ثم قال بعدها: "إنني لا أستطيع أن أتصور أن توفيق الحكيم الذي نقد العصر الملكي في يوميات نائب في الأرياف لا يستطيع نقد العصر الثوري مهما كان الثمن". وهو ما قرأه هيكل مبكرا لما وقف أمام انزعاج الحكيم نفسه من قرار نشر "بنك القلق" في الأهرام شبه الرسمية: "إذا كانت لديك الشجاعة لكي تكتب فإننا لسنا أقل شجاعة منك لكي ننشر"! وذلك بحسب كتاب هيكل نفسه: "وقائع تحقيق سياسي أمام المدعي الاشتراكي".

على أن عبد الناصر نفسه ضاق بكتابات الراحل إحسان عبد القدوس السياسية، فسجنه لأشهر بسيطة فحسب، وإن ألبس عبد الناصر اعتراضه ثوبا خلقيا، فعقب نشر عبد القدوس رواية "البنات والصيف" في مجلة "صباح الخير" الحكومية عام 1958م، مع صورة كاريكاتيرية مصاحبة رآها عبد الناصر إباحية، أصدر قراره بسجن عبد القدوس لكنه لم يمنع الرواية؛ واضطر الأخير لكتابة رسالة اعتذار، لكن عبد الناصر سبقه بمكالمة فور الإفراج عنه ودعاه لتناول الإفطار في اليوم التالي على مائدته، في محاولة لتخفيف أثر فترة السجن 95 يوما، وهي على ضخامة تأثيرها على نفس مبدع مظلوم، بالغة القصر قياسا لما يعانيه أصحاب الرأي والفكر اليوم.

ويكفي أن نعرف أن هيكل كان يقول لعامر (وزير الحربية عندها) إنه لا يجب أن تحد حرية الصحافة في نقل آلام الناس والتعبير بالفكرة عنها، فيما دور النشر في مصر "اليوم" يُشترطُ لحصولها على رقم إيداع بدار الكتب الحكومية أن يوقع الناشر إقرارا بأن الكتاب لا يتضمن مدلولات سياسية، ولو خفية، وأنه مسئول تماما لو اكتُشف غير هذا!

كل ما سبق يجعلنا نتحسر على عهد عبد الناصر الكاتم للحريات، والذي سمح في نفس الوقت بشيء من التنفيس ساهم في جعل مكانة لمصر لا تُنسى في ذلك الوقت؛ وإن أبكى نظام عبد الناصر نفسه آلاف المصريين وطرفا من المبدعين

أي إنه باختصار، صارت مصر اليوم تضيق بمجرد وجود مبدعين أحرار النفوس يترجمون أو يحاولون التعبير عن حقيقة الأوضاع السيئة والنصح بالتغلب عليها لصالح استمرار الوطن بلا مرض فيها؛ فما بالنا بمبدع مثل الراحل نجيب محفوظ، إذ يكتب في عام صدور بنك قلق الحكيم (1966م) رواية "ثرثرة فوق النيل"، ويروي الكاتب محمد سلماوي في "الأهرام" حديثا، أو في آب/ أغسطس 2015م تحديدا، أن المشير عامر هذه المرة لم ينتظر، بل بادر بتسيير قوة للقبض على محفوظ مباشرة، وكان أن علم عبد الناصر بالأمر فورا، فاتصل به وعنّفه وطالبه بوقف القوة قائلا: "مّنْ أمر بإخراجها يستطيع إعادتها.. إحنا عندنا كام نجيب محفوظ؟".

إن الصحف المصرية والمواقع الحكومية والخاصة المحسوبة والخائفة من النظام التي تصدر اليوم مثلها مثل نشرات الأخبار المكررة، بل تُرسلُ الأخبار وغيرها عبر وسائل التواصل للإعلام من مؤسسات سيادية، حتى لتكمل مذيعة شابة بعد نهاية النشرة "وتم الإرسال من جهاز سامسونغ"، في إشارة واضحة لتلقيها النص الذي قرأته من جهاز محمول لمسئول.

وإن ضيق السلطة بمجرد نشر تقرير مترجم كذلك الذي أغلق موقع "مصر العربية" في 2018م وتسبب بسجن رئيس تحريره لأكثر من سنتين؛ وإن مئات الكتب التي تصدرها المطابع ويحول بعضها إلى أفلام ومسلسلات تعالج ظواهر بعيدة عن الواقع.. كل ما سبق يجعلنا نتحسر على عهد عبد الناصر الكاتم للحريات، والذي سمح في نفس الوقت بشيء من التنفيس ساهم في جعل مكانة لمصر لا تُنسى في ذلك الوقت؛ وإن أبكى نظام عبد الناصر نفسه آلاف المصريين وطرفا من المبدعين، ورحم الله الشاعر القائل:

رب يوم بكيت فيه فلما    صرتُ في غيره بكيت عليه!