في القرن الرابع عشر من الميلاد، وتحديدًا في العام 1322م، زار جون ماندفيل الفارس، بلاداً مختلفة وجزراً كثيرة... وواقع الأمر، أن معرفتنا بهذا الرحالة جاءت من خلال مقدمه
كتابه، فأطلق على نفسه لقب فارس، وذكر أنه ولد في بلدة سنت آلبانز التابعة لمقاطعة هرتفوردشاير، وتعلم بها. ووفقاً لما كتبه فقد باشر رحلاته، في 29 سبتمبر عام 1322م، وقال إنه بعد 34 عاماً من الترحال أرغمه داء النقرس (التهاب المفاصل) علي إلقاء عصا التّسيار مُرغماً، فمكث في موطنه عام 1356م ليدون أخبار رحلاته من الذاكرة.
حاول ماندفيل في كتابه إيقاظ أوروبا لإعداد حملة صليبية جديدة لاسترجاع الأرض المقدسة، فيقول: "ينبغي لكل رجل مسيحي صالح، إن كان ذا سلطة واقتدار، ولديه موارد، فعليه أن يبذل كل قوة لاسترداد تراثنا الحق، وطرد جميع الرجال غير المؤمنين. وذلك لنكون مسيحيين أحقاء، نسبة إلى أبينا المسيح. وإذا كنا حقاً أبناء المسيح، فعلينا استرجاع التراث الذي تركه لنا أبونا، وانتزاعه من أيدي الوثنيين..." (ص 43). ولذلك نالت
فلسطين من عنايته الحظ الأوفى.
الطريق إلى الأرض المقدسة
اعتبر ماندفيل رحلته عبر البحر مقدسة! وكان على ثقة أنه في غضون وقت قصير من رحلته سيتم استرداد ميراث المسيح ووضعه في أيدي ورثة المسيح الأحقاء.لذلك ذكر الطرق التي ينبغي سلوكها للوصول إلى القدس والأماكن المقدسة.
يبدأ ماندفيل بذكر الطرق من الغرب إلى القسطنطينية، ماراً بألمانيا وهنغاريا وبلغاريا، ثم ينقلنا إلى القدس بطريقين:البري، مخترقاً آسيا الصغرى ماراً بنيقيه.والبحري، ومراكزه رودس وقبرص إلى صور.ويتناول الطرق المُوصلة من سوريا إلى مصر، ويحدثنا عن المدن المصرية وعادات السكان واخلاقهم وقوة المماليك الحربية.
صورة متخيلة لمدينة القدس
عندما يعبر الرّجال صحراء سيناء يصلون إلى بئر السّبع، ومنها إلى مدينة الخليل، وفي غضون نصف يوم، يصلون إلى بيت لحم، وتبعد القدس عن بيت لحم مسافة ميلين فقط.
يرسم ماندفيل صورة "مُتخيلة"عن مدينة القدس ، بالقول: "أن القدس مدينة قديمة منذ زمن ملكيصادق، وكانت تدعى يبوس (jebus)، وبعدها أصبحت تدعى سالم (Salem)، وفي زمن داود دُمج هذين الإسمين سوياً ليصبح اسمها (jebusalem)، وبعدها سماها الملك سليمان (Jerosolomye)، وبعد ذلك سماها الناس أورشليم (Jerusalem)الإسم الذي ما زال تسمى به حتى الآن".
أشار ماندفيل في عدة مواضع من كتابه إلى ضرورة استرجاع الأراضي المقدسة من أيدي الوثنيين، بالقول: "والآن يوجد الوثينيون في هذه الأرض التي يحكمونها منذ أكثر من أربعين عاماً. ولكن لن تبقى معهم طويلاً إن شاء الله" (ص 104).
حاول ماندفيل ترسيخ فكرة وجود هيكل الرب، "ومن كنيسة القيامة باتجاه الشرق يوجد هيكل الرب، وهو بيت جميل جداً، دائري الشكل، ومرتفع ومغطى بالرصاص.مرصوف جيداً بالرخام الأبيض" (ص 111). ولكنه "ليس هو المعبد الذي بناه سليمان" (ص 112). و"المسلمين يبجلون ذلك المعبد ويقولون بأن هذا المكان مقدس بحق، وعندما يدخلون إليه فإنهم يدخلون حفاة (...) وبالإتجاه الآخر من المعبد توجد صخرة يسميها الناس (موريا)، ولكنها بعد ذلك سميت (بيت إيل) حيث وُضع تابوت الرب والرُّفات حيث اعتاد اليهود على وضعها هنا" (ص 113). واستطرد بالقول: "وقريباً جداً من هذا الهيكل بإتجاه الجنوب يوجد هيكل سليمان، هذا الهيكل الجميل جداً والمصقول بإتقان.وفي هذا المعبد سكن فرسان الهيكل" (ص 115).
هنا عمد ماندفيل للتأكيد على وجود توراتي في فلسطين عبر إطلاق لفظ معبد على المسجد، ومحاولة إيهام القارئ أن هناك آثاراً يهودية! اهتم ماندفيل باختراع جغرافية مُتخيلة مقدسة عبر استمراء تحويل كل ما هو إسلامي إلي يهودي وربطه بملوك بني إسرائيل المُتخيليين" !بالإضافة إلى ذلك تطرق في رحلته إلى الأماكن المقدسة المسيحية.
على أي حال فقد تناول طقوس الحج والمزارات المقدسة وأحوال الحجاج، فضلاً عن حديثه عن منطقة الجليل والبحر الميت.
صورة المسلمين
وعن عادات المسلمين، وقوانينهم قال ماندفيل: "سوف أخبركم عن كتابهم الذي يسمى القرآن، وبعضهم يسمونه المصحف، وآخرون يسمونه حُرمة، وذلك وفقاً لاختلاف لغة البلد" (ص 155). أشاد بتصورات المسلمين حول مريم العذراء والمسيح. وحدثنا عن سماحة المسلمين وحسن أخلاقهم، ومعاملتهم الطيبة للمسيحيين، فوصفهم بالطيبة وبأن إيمانهم قريب من المسيحية.
زعم ماندفيل أن المسلمين يدركون أن دينهم سيصير إلى زوال كاليهودية، وأن المسيحية هي التي ستبقى في النهاية. كما أشار ماندفيل إلى حواره مع السلطان المملوكي الذي ربما كان السلطان المظفر حاجي بن الناصر محمد بن قلاوون (1346- 1347م)، الذي هاجم فيه المسيحيين، قائلاً: "أنتم المسيحيون غير منتبهين كيف أنكم تعبدون الله بشكل خاطئ! يجب أن تكونوا قدوة جيدة للناس الفاسدين ليصبحوا صالحين، ولكنكم قدوة سيئة تجعل الناس يفعلون الشر. وذلك بسبب عاداتكم في أيام الاحتفالات، حيث يذهب الناس إلى الكنائس لعبادة الله وبعدها يذهبون إلى الحانات" (ص 159).
وبعد أن أخبرنا عن الأرض المقدسة والبلاد التي حولها، حدثنا عن أرض ألبانيا وليبيا والممرات والجزر والحيوانات المختلفة، وعن الشعوب المختلفة التي خلف هذه الطرق.
تطرق إلى أرض أيوب؛ و"هي بلاد جميلة جداً ووفيرة بكل المنتجات.ويطلق على هذه البلاد أرض سوسيانا.وفيها مدينة تيمان" (ص 171). وعرج على العادات في الجزر المحيطة بالهند والفرق بين الأوثان والصور الزائفة.
هل قام ماندفيل بأسفاره؟!
في تقديم الكتاب، يشير د. أحمد إبيش إلى " أنه ليس من المؤكد أن ماندفيل قد قام بأية أسفار أصلاً، ذلك لأنه عمد إلى استقاء مواده ـ بالكامل تقريباً ـ من الموسوعات ومن كتب الرحلات المتوفرة بين يديه آنذاك. فالقسم الأول من كتاب رحلاته، والذي يختص بذكر طرقات السفر والعجائب الموجودة في كل من القسطنطينية وفلسطين ومصر، يتبع خط سير رحلة الألماني فلهلم فون بُولدنزيله (Wilhelm von Boldensele). أما القسم الآخر الأطول، فهو يأخذ القارئ صوب آسيا وأفريقيا، متبعاً خط مسير رحلة أوديريكو دا بوردينونة (Oderico da Pordenone)، الموسومة باللاتينية بعنوان (Itinerarius de rebus incognitis)، الذي يعنى (الرحلة إلى الأشياء المجهولة). ثم طفق ماندفيل يزوق نصوص هذه الرحلات ويطعمها بأخبار
تاريخية ومعلومات حول التقاليد والأديان والأساطير المتعلقة بالمناطق المذكورة في رحلته المزعومة" (ص 8- 9).
يرى د.نقولا زيادة، في كتابه "الرحالون المسلمون والأوروبيون إلى الشرق العربي في العصور الوسطى" أن أسفار ماندفيل ومداها قد شغلت الكتاب ، "ذلك أن الأساطير التي يحويها الكتاب وأجيال الناس التي يزعم أنه رآها ليس لها وجود. ولعل من الحق أن نقرر هنا مسألتين هامتين الأولى: أن ماندفيل وصل الشرق العربي في سياحاته، ووصف سوريا ومصر وجزءاً من العراق وصف من رأى وسمع. والثانية أنه نقل عن مصادر مختلفة أخباراً وقصصاً متنوعة حشاها في كتابه. فقد أخذ عن وليم بلدنزل والأمير هيتون الأرمنى ووليم آدم والراهب أودوريك بورديتون ويوحنا كاربيني وبليني وسولينوس".
انتشرت طبعات عديدة للكتاب، وبلغات مختلفة، والسبب كما يشير ماندفيل أنه كتبه أولاً باللاتينية، ثم قام بترجمته إلى الفرنسية والإنكليزية. وصدرت الطبعة العربية تحت "أسفار السير جون ماندفيل ورحلاته (1322- 1356)"، (في 304 من القطع المتوسط)، ترجمة أنس الذهبي ورنا جزائري، وتحرير وتعليق د. إحمد إبيش، عن هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، 2012.
* كاتب وباحث فلسطيني