تابعنا التوتر السياسي المخيف في السنة الماضية، وشاهدنا الأحداث المؤسفة التي صارت، من اشتباكات محدودة، وأصوات الرصاص الصديقة في العاصمة مقديشو، حتى تذكرنا ما حصل في التسعينات، من مظاهر التسلح العشائري، والاقتتال العرقي الذي أكل اليابس والأخضر طيلة ثلاثة عقود. فالمعلوم أن الحرب الأهلية تبدأ دائما من البعد عن الحوار، واستئناف تفكيك الجيش، وتسييسه على أسس عرقية وعشائرية كما حصل في
الصومال، وقومية وطائفية كما صار في العراق ولبنان.
ولكن حمدا لله، الدولة استوعبت الوضع، ورجعت عن قرار البرلمان المسمى "تصويب
الانتخابات"، أي التمديد لجميع المؤسسات الدستورية - من برلمانية وحكومية ورئاسية - لمدة سنتين، من أجل إقامة انتخابات مباشرة، بدل الانتخابات غير المباشرة من قبل ما يسمى وجهاء القبائل.
أدركت الدولة آنذاك صعوبة الحال وكيف أنه لم تنضج بعد من خطورة الوضع، لأنه - لا سمح الله - إذا رجع الحال إلى الوراء والاحتراب العشائري فلا يستفيد إلا الأعداء.
ولكنها استأنفت انتخابات شكلية غير محمودة قبل شهور، بحيث أعادت الحالة إلى الأسوأ. فقد اكتمل مجلس الشيوخ عن طريق "التعيينات" لأعضائه وعددهم 54 (وليس بالانتخابات)، حيث استخدم رؤساء المناطق النفوذ حول صيغة الانتخابات، وعينوا ما بدا لهم.
والأقبح من كل هذا وذاك هو استئناف برلمان مجلس الشعب أيضا بنفس طريقة مجلس الشيوخ، حيث افتتح نائب رئيس الوزراء مهدي جوليد مجلس الشعب بنكهة تزويرية بحتة، بحيث حول الطريقة المعروفة للانتخابات المعتمدة منذ 2012م (وهي الاعتماد على المحاصصة القبلية ورؤساء العشائر المشهورين برقم 135) واستغل ما سمي بلجنة مكونة من خمسة أشخاص، تتحكم فيها الحكومة ورؤساء الأقاليم، وتكون أقوى من رؤساء العشائر، وتصبح مهمتها الوحيدة هي اختيار المندوبين بطريقة غير صحيحة والتي بموجبها تختار نواب البرلمان.
عين الرجل نفسه وأعطى عشيرته من غير حق المقعد المرقم "239#HOP"، مضيفا بذلك مقعدا زائدا لقرابته وهو المقعد المرقم "254#HOP"، مستأسدا بسلطته التنفيذية والمخابراتية، وعلاقته مع رؤساء البلد ورؤساء المناطق، حتى وصل إلى أن تم منع المرشحين المنافسين له من التسجيل، إلى أن قرروا أن يشتكوا ويرفعوا دعوى قضائية إلى لجنة تسوية المنازعات والتي بموجبها أعلنت تعليق نتيجة المقعد، ثم أعلنت أيضا تعليق نتيجة المقعد الثاني المرقم "HOP#067" لرفيقه في السلطة ياسين فري، رئيس استخبارات الوطن، والذي قلد مهدي جوليد بكسر لوائح وقواعد الانتخابات.
غضب رئيس الوزراء محمد حسين روبلي من المخالفات التي جاوزت كل الخطوط الحمراء، مما دفعه إلى إقالة سبعة من أعضاء اللجنة، أولهم رئيس اللجنة حسين لكي، بتهمة مخالفة قوانين الانتخابات وانخراطهم بالعملية السياسية.
نعم لقد سببت هذه الكارثة التزويرية أزمة في أعلى الهرم السياسي، بحيث أعلن رئيس الجمهورية أن رئيس الوزراء فشل في مهمة إجراء الانتخابات، ودعا إلى مؤتمر تشاوري من جميع أطياف السياسة، حتى رد رئيس الوزراء محمد حسين روبلة بأنه لم يفشل واتهم هو الآخر الرئيس فرماجو بعرقلة الانتخابات، ودعا هو أيضا لاجتماع عاجل لرؤساء الأقاليم لتصحيح مسار الانتخابات. وكاد الرجلان أن يتقاتلا في قصر الرئاسة، ولكن رحمة الله نزلت صباحا، حيث تدخلت قيادة الجيش في الأمر، وأمرت جميع العسكر أن لا يتدخلوا في أمور السياسة.
اجتمع رؤساء الأقاليم تحت قيادة رئيس الوزراء واتفقوا على تسريع العملية الانتخابية وتحديد سقف معين للانتخابات، وتطرقوا إلى جانب الأمن، حيث أعطوا لزيادة قوات "الأميصوم" الأفريقية في القصر الرئاسي حتى لا يحصل تشابك بين حرس الرئيس الصومالي وحرس رئيس الوزراء.
تمنينا أن تكون هذه الانتخابات بداية بناء وطن قوي ليس للقبلية مكان فيه، وتمنينا أن تكون الانتخابات تعتمد مباشرة على صناديق الاقتراع وليس على مشايخ العشائر، ولكن مع ذلك نؤكد أن ما لا يدرك كله لا يدرك جله، وأن انتخابات الصومال غير المباشرة صمام أمان من عودة الحكم الشمولي الشوفيني، كما أن "انتخابات سريعة خالية من التزوير والمال الفاسد صمام أمان للصومال".