من منا لم يمل من كثرة وصف الإعلام العالمي
مقديشو بالبؤس والدمار وكثرة الانفجارات، ثم من منا لم يشاهد القنوات الفضائية ولم يكره ما تبثه من دمار، وقتلى، وجرحى، وسيارات الإسعاف التي تجوب في مكان الحدث، حتى أصبح
الصومال مثالا للخوف والرعب والفشل.
نعم كل هذا تعودنا ثلاثة عقود، وكانت العرب تنعت بـ"الصوملة" كل دويلة آيلة إلى الفشل، وأصبحت العاصمة مقديشو أم المصائب ونبراس العواصم البائسة.
ولكن زيارتي الأخيرة إلى مقديشو غيرت كثيرا من أفكاري السيئة، وجعلتني أجول سائحا حائرا من كثرة الأسواق الشعبية، والعصرية المكتظة ومن العمارات الشاهقة، ومن المقاهي والمطاعم العصرية غالية الثمن، حتى ظننت نفسي أنني في "حي منهاتن" في نيويورك.
نعم كل هذه المظاهر رأيتها بأم عيني (وليس الخبر كالمعاينة كما يقال)، إنها الحقيقة، فما هي الأسباب يا ترى؟
السبب الأول؛ أن المجتمع الصومالي زهق من الخلاف وعرف مصلحته العامة، وهي حب
الأمن والأمان، والتعايش السلمي مهما كان الاختلاف، لذلك كل شيء مسموح، ولكن لا يجوز لك أن تحدث بلبلة في السلم بين الناس.
ثانيا: الصوماليون بسبب الحرب تغربوا، وجالوا العالم شرقا وغربا، وحققوا شهرة في المستوى العالمي، وأصبحوا أصحاب همة يعتلون أكبر المناصب السيادية في الدول الغربية، وما فوز ثلاثة نواب في أمريكا قبل شهور ببعيد عن أذهاننا، تتقدمهم "إلهان عمر"، لذا لا غرو أن خبرة المغتربين أثرت كثيرا في إرساء أمن البلد وتطويره، فلهم الحق في العودة وخدمة وطنهم.
ثالثا: الصوماليون لا زالوا تجارا لا يستهان بهم في دول الجوار، مثل كينيا، وإثيوبيا، وأوغندا، وزامبيا، وجنوب السودان، وتنزانيا. فقد أسسوا أكبر الشركات الاتصالية والبنكية وشركات توزيع المحروقات في هذه البلدان، وأنشأوا فنادق ضخمة وأماكن سياحية. ولكن الغريب في الأمر أن السوق الصومالي هو الذي يتحكم في الأسواق المجاورة، فلا يعرف سعر صرف الدولار إلا إذا حدد من "بكارة" في مقديشو، وهو أكبر سوق في القرن الأفريقي، لذا هذه التجارة الضخمة تحتاج إلى استقرار واستتباب أمن مقديشو.
رابعا: انتقل كثير من العائلات المغتربة إلى الوطن، هذه العوائل التي تعتمد على التحويلات المالية، حيث أسست مجمعات سكنية، وجامعات، ومشافي، ومدارس عصرية، ما شجع كثيرا من الناس أن تعود إلى البلد. وأصبح رجوع المغتربين حصنا منيعا لمئات المهاجرين إلى أوروبا لأجل بحث حياة سعيدة هناك، حيث كانوا إما أن يموتوا جوعا وعطشا فوق قوارب متهالكة تفتقد لأبسط معايير السلامة، أو تبتلعهم البحار غرقا في طريق الحلم الأوروبي.
خامسا: رجوع المؤسسات الحكومية أيضا ساهم بأن ترجع مقديشو مثل السابق وأحسن، كالشرطة، والمحاكم، والمرور، والمشافي، والبريد.
سادسا: اهتمام بعض الشركات البترولية العالمية لاستخراج النفط من البلد، والمنافسة فيما بينها أيضا سيزيد كثيرا من الاستقرار، حيث الأمن هو الشرط الأساسي لاستخراخه.
سابعا: وجود الأتراك في المنطقة خلال عشر سنوات، واستثماراتهم الأخوية مشكورين في مجالات الطيران، والسياحية والبحرية، حيث أدت شركات خاصة تركية دورا مهما في بناء وتشغيل الموانئ والمطار، وافتتحت
تركيا سفارة لها في الصومال، وهي أكبر بعثة دبلوماسية في الخارج، مع مساعدتها للحكومة الصومالية، لا سيما تدريب الشرطة والجيش، وإنشاؤها مشافي ضخمة، وبدأت الخطوط الجوية التركية تنظيم رحلات إلى مقديشو، ما ساهم في إنعاش اقتصادي ضخم للعاصمة.
ثامنا: اهتمام الحكومة بأهمية العاصمة، حيث طلب الرئيس محمد عبد الله فرماجو قبل سنة؛ من البرلمان (مجلسي الشيوخ والنواب) أن يمنح مقديشو مقاما وتمثيلا سياسيا لائقا لها، كعاصمة سياسية واقتصادية مشتركة لجميع فئات المجتمع، كونها مدينة حيوية ومفعمة بالنشاط والحركة.
وقد استجاب البرلمان للطلب ومنح ثلاثة عشر مقعدا للعاصمة في مجلس الشيوخ القادم، ووقع الرئيس القرار هذا قبل شهر، حيث يكون هذا القرار من أكبر الخطوات السياسية له، التي تترك بسمة وفرحة لا تنتهي في قلوب ساكني العاصمة، ما يعطي أهمية كبيرة في المستقبل البعيد.
تاسعا؛ أن الجيش الصومالي استعاد قوته خلال السنوات العشر الماضية بمساعدة الأشقاء والأصدقاء مثل تركيا وأوغندا، وغيرهما، حتى صار جيشا منضبطا لا يستهان به ولا يعرف الانتماءات العشائرية، إلا الإخلاص لوطنه، وهو ما ساهم كثيرا في أمن العاصمة.
أخيرا، مع كل هذه الإيجابيات التي ألغت الآلام الماضية، وتتحدى السلبيات المستقبلية، فلا أنكر أن أمن العاصمة ليس على المستوى المطلوب محليا وعالميا، في ظل احتقان سياسي جديد إثر خلافات بين الحكومة الصومالية والمعارضة حول بعض الهوامش المتصلة بالانتخابات القادمة قريبا، ولكن مقديشو بخير واستعادت عافيتها، بعد حقبة عصابات المافايا الميلشاوية من تجار الحرب والإنسان، وبعد عرقلة بعض الجوار الأفريقي والعربي بإعلامه المشبوه، الذي لا يزال يحاول أن يؤدي دورا غير محمود في شؤون الصومال عامة وتخريب سمعة العاصمة خاصة، ولكن نقول لهم بصوت عال ومرتفع جدا: "مقديشو بخير"، و"ستبقى بخير إن شاء الله".