منذ أن شببتُ عن الطوق وأنا أتساءل بيني ونفسي عما يُسمى "مذابح الأرمن"، أو ما يحلو لبعضهم تسميتها "الإبادة الجماعية للأرمن" التي سبقت انهيار الدولة العثمانية ببضعة أعوام، وبالتحديد عام 1915.. وسوف أعرض لبعض هذه التساؤلات التي ظلت تدور في رأسي منذ أكثر من 40 عاما، وكلما قرأت أو سمعت شيئا عن قصة الأرمن، ما دفعني لقراءة الكثير عن هذا الموضوع عبر سنوات خلت؛ ما كان منه موضوعيا وما كان منحازا في الاتجاهين، وقد كونت قناعات خاصة بي إزاء تلك الأحداث..
لن أناقش مدى صحة ادعاءات الإبادة الجماعية، أو الحديث عن المبالغة في وصف ما حدث، ولا عن الأسباب التي أدت إلى ما يسمى المذابح الأرمنية؛ ذلك أنني أتصور أن كلا منا لديه تصوراته التي جاءت عبر تراكم المعلومات وأن كلا منا لديه وعيه الخاص ليحدد موقفه من هذه القضية وحيثياتها، بيدَ أنني سأناقش غائية التركيز على مشكلة الأرمن، والمسألة الانتقائية فيها!!
جدير بالذكر أن دولا مثل
فرنسا واليونان وسويسرا وإيطاليا وقبرص وسلوفاكيا؛ تحظر إنكار الإبادة الجماعية للأرمن رسمياً، لكن بدرجة أقل من إنكار الهوليكوست أو معاداة السامية. ونضيف هنا أن الرئيس الأمريكي جو بايدن قام في نيسان/ أبريل الفائت من هذا العام بالاعتراف رسميا بمذبحة الأرمن على أنها إبادة جماعية، وهو أول رئيس أمريكي يقوم بذلك، فقد تجنب رؤساء الولايات المتحدة السابقون القيام بذلك خوفا من الإضرار بالعلاقات مع
تركيا. وجاءت هذه الخطوة بضغط من أعضاء في الكونغرس ومن قبل جماعات أرمنية موجودة في الولايات المتحدة، وقد استنكرت تركيا هذا التصنيف بأشد العبارات، وعدّته تشويها للحقائق
التاريخية..!
لماذا التركيز على هذه القضية وإثارتها بين الحين والآخر، مع أنها ليست المشكلة الأكبر في تاريخ الصراعات الدموية في العصر الحديث، في ظل وجود جرائم إبادة أكثر بشاعة وأكثر وضوحا وثباتا في صفحة التاريخ؟!
فلماذا التركيز على هذه القضية وإثارتها بين الحين والآخر، مع أنها ليست المشكلة الأكبر في تاريخ
الصراعات الدموية في العصر الحديث، في ظل وجود جرائم إبادة أكثر بشاعة وأكثر وضوحا وثباتا في صفحة التاريخ؟!
إن أكثر الدول إثارة لقضية الأرمن هي فرنسا التي تقف من تركيا موقف العدو اللدود، وخصوصا في عهد ماكرون الذي يعلن حربا واضحة على تركيا وزعامة أردوغان.. وما إن تقوم تركيا بإثارة الموضوع حتى تلحق بها اليونان وإيطاليا ثم سويسرا ثم بقية الدول التي تحمل ضغينة لتركيا، أو تلك التي لديها ميول أو أصول أرمنية، أو يعيش فيها مواطنون من أصول أرمنية، وخصوصا اليونان التي بينها وبين تركيا عداء قديم جديد مستحكم؛ مع أن عدد الأرمن الذين يعيشون فيها قليل جدا بعد هجرة أعداد غفيرة منهم إلى أمريكا الشمالية. لكن مع خلافات الحدود البحرية ومشكلة قبرص التركية؛ تفاقمت الأمور حد استغلال اليونان كل ذريعة ممكنة للإساءة لتركيا، وما الاتفاقات بينها وبين مصر والكيان الصهيوني وقبرص حول مياه المتوسط إلا أكبر دليل على تعمد اليونان الإساءة لتركيا بكل الوسائل المتاحة..!!
يأتي التركيز على قضية الأرمن والاتهامات المتعلقة بالدولة العثمانية من منطلق المزايدات السياسية والمعارك النفسية و"البروباغندا"، وردات الفعل تجاه الملفات التي تختلف بعض الدول حولها مع تركيا؛ فكلما لاح في الأفق خلاف بين فرنسا وتركيا قامت الأولى بإثارة موضوع الأرمن، بحجة راهنة أو بدونها؛ في محاولة لاستفزاز تركيا والضغط على أعصاب ساستها الذين اعتادوا على نفي الاتهامات ورميها وراء ظهورهم، والمضي قدما في تنفيذ مشروعاتهم السياسية والعسكرية والاقتصادية..
يأتي التركيز على قضية الأرمن والاتهامات المتعلقة بالدولة العثمانية من منطلق المزايدات السياسية والمعارك النفسية و"البروباغندا"، وردات الفعل تجاه الملفات التي تختلف بعض الدول حولها مع تركيا
إن فرنسا تتمنى أن تصحو فلا تجد تركيا على خريطة العالم، لا لشيء سوى أنها دولة فيها حاكم صلب صاحب حضور قوي ومواطنون يلتفون حول قائدهم، هذا بالإضافة إلى أن تركيا بدأت تزاحم كثيرا من الدول الأوربية في الصناعة والتجارة والصناعة العسكرية، وفي التمدد الإقليمي إضافة إلى حضورها في المشهدين السياسي والعسكري في الصراعات الدائرة في المنطقة في مواجهة الإرادة الفرنسية في ملفات مهمة كالملف الليبي والملف اليوناني والملف الأذري. وعلى الرغم من أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، إلا أنها ليست من اللون الأوروبي الذي يحبذه ماكرون وأمثاله من العنصريين والمتطرفين..
في المقابل، لا بد من التساؤل عن الجرائم التي ارتكبتها فرنسا في الجزائر.. فلو صحت الروايات عن الإبادة الأرمنية؛ فأيهما أشد جرمية وأكثر عددا في القتلى: ما كان من قتل للأرمن؟ أم ما كان من قتل للجزائريين؟! ذلك أن عدد الشهداء الجزائريين، حسب إحصاءات متباينة، يقع بين مليون ونصف المليون وستة ملايين. والذي يحيرني فعلا هو السؤال عن الأسباب التي تجعل فرنسا غير مكترثة بجرائمها في الجزائر، بينما تقوم بإثارة قضية الأرمن كلما راق لها أن تعكر صفو الأجواء بينها وبين تركيا، وكلما قرصت تركيا أذنها في دوائر الصراع العسكري وصراع النفوذ على الأرض في أماكن متفرقة، وخصوصا في أفريقيا التي بدأت تركيا محاولات اختراق اقتصادي وسياسي لبعض دولها..
وفي ذات السياق؛ فإن من المنطقي والموضوعي، في آن معا، أن نسأل عن جريمة الولايات المتحدة ضد الإمبراطورية اليابانية نهاية الحرب العالمية الثانية في آب/ أغسطس 1945، حيث قامت الأولى بهجوم نووي على مدينتي هيروشيما وناجازاكي، ونجم عن هذا القصف مقتل نحو ربع مليون ياباني، ناهيك عن الأمراض الناجمة عن الإشعاعات النووية وآثارها على مجمل الحياة؛ ولا ننسى جرائم الجيش الأمريكي في كل من العراق وأفغانستان والتي يرقى كثير منها إلى جرائم الإبادة الجماعية وقتل المدنيين خارج إطار القانون..!!
أما الحديث عن جرائم بريطانيا في فلسطين؛ فهو حديث يحتاج إلى سلسلة مقالات متصلة، وهي من أسوأ الجرائم عبر التاريخ. إذ يكفي أن نقف على وعد بلفور وتداعياته لتحاكَم إنجلترا في محكمة الجنايات الدولية، لو كان ثمة عدالة دولية حقيقية..!!
كذلك جرائم إنجلترا في مصر والسودان. هذا إذا لم نتحدث عن المذابح التي ارتكبها الكيان الصهيوني في فلسطين والتي لا يأتي على ذكرها أحد إلا نادرا، وتمر من أقلام الصحافة العربية والأجنبية مرور الكرام..!!
فلماذا يصمت العالم الذي يدعي العدل والمساواة عن جرائم كبرى عبر التاريخ الحديث، ويقوم بالتركيز على ما يسمى مذبحة الأرمن، متناسيا المذابح الحقيقية وجرائم الإبادة الجماعية التي اتخَذت قرارات تنفيذها أعلى السلطات في الدول التي قامت بها؟!
كثير من الأسئلة حول العدالة الدولية واختلال الموازين تنتظر إجابات غير مختلة..!!
نحن نعيش في عالم يتحدث طوال الوقت عن الحرية والعدالة والإنسانية، ويمارس في الوقت نفسه كل أشكال الظلم والكذب والخداع..