في بداية الأسبوع المنصرم، نشرت النسخة التركية من صحيفة "إندبندنت" المملوكة من قبل السعودية خبراً مفاده أنّ ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد سيزور تركيا، وقد نقلت الصحيفة عن مصادر إماراتية وأخرى تركية قولها إنّ الزيارة قريبة جداً. وفقاً للصحيفة، فقد ذكرت المصادر الإماراتية أنّ ولي عهد أبو ظبي قد يصل صباح ذلك اليوم إلى أنقرة، لكن المصادر التركية ذكرت في حينه أنّ الزيارة تمّ الإتفاق عليها لكن لم يتم تحديد يوم لها وأنّها قد تحصل في بحر الأسبوع المقبل.
"ميديل إيست آي" اللندنية أشارت استناداً إلى مصدرين تركيّين أنّ الزيارة ستجري في ٢٤ تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري وأنّها ستكون بمثابة تعبير رمزي عن بدئ حقبة جديدة". تأتي هذه الزيارة بعد جملة من التطورات التي مهّدت لها كان أبرزها تصريحات أنور قرقاش بداية العام عندما كان لا يزال في منصب وزير الدولة للشؤون الخارجية حيث أشار في ثلاثة تصريحات تلفزيونية حينها ـ واحدة منها مع سكاي نيوز عربية ـ إلى أنّه لا يوجد مشاكل جوهرية مع تركيا وأنّ أبو ظبي تريد تطبيع العلاقة مع أنقرة.
ردّت تركيا على هذه الرسالة بتعيين سفير جديد لها في أبو ظبي لمتابعة الرسائل الجديدة للإمارات والتفاعل معها بإيجابية. وفي نيسان (أبريل) الماضي، أجرى وزير خارجية الإمارات عبدالله بن زياد اتصالا هاتفياً مع نظيره التركي تشاووش أوغلو تبادل فيه الطرفان التهاني بمناسبة شهر رمضان الكريم. وفي آب (أغسطس)، جرى اتصال بين ولي عهد أبو ظبي والرئيس أردوغان دون الكشف عن الكثير من التفاصيل.
في نهاية ذلك الشهر، زار مستشار الأمن القومي الإماراتي طحنون بن زايد تركيا والتقى الرئيس أردوغان. التصريحات التي تلت الزيارة ركّزت على البُعد الاقتصادي في العلاقة بين الطرفين وعلى رغبة الإمارات الاستثمار بمشاريع ضخمة في تركيا.
أثارت هذه التصريحات دهشة العديد من المراقبين على اعتبار أنّه كان من المتوقع أن يتم التركيز على ملفات أخرى بحكم موقع طحنون وصفته الرسمية. لكن يفوق الكثيرين بأنّ طحنون عضو في المجلس الأعلى للشؤون المالية والاقتصادية الذي تمّ تشكيله نهاية العام ٢٠٢٠ في الإمارات. علاوةً على ذلك، يشرف طحنون على امبراطورية مالية ويترأس مجلس إدارة العديد من الشركات القابضة مثل "أيه دي كيو القابضة"، و"بنك أبو ظبي الاول"، و"مجموعة رويال"، وغيرها.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا اختارت الإمارات الاقتصاد مدخلاً لتطبيع علاقتها مع تركيا؟ سبق لأبو ظبي أن استخدمت السياسة مدخلاً لتطبيع العلاقة مع أنقرة بُعيد الانقلاب العسكري الفاشل في العام ٢٠١٦، لكنّ هذه المحاولة انتهت بشكل سيء وتدهورت العلاقات بشكل أكبر مما كانت عليه مع غياب الثقة بمحاولة الانفتاح الاماراتية. لذلك، تريد أبو ظبي الأن أن تستخدم أسلوباً آخر وهو الاقتصاد. ثانياً، هناك مصلحة إقتصادية بانفتاح أبوظبي على أنقرة. انخفاض سعر الليرة التركية بشكل شديد يعني انّه بإمكان شراء أصول حقيقية ضخمة بسعر زهيد، ولانّ الاقتصاد التركي اقتصاد كبير فمن المؤكد أنّه سيعود للصعود مستقبلاً، وهذا يعني انّ الامارات ستكون مؤهلة لجني أرباح هائلة.
ثالثاً، الاعتماد على الاقتصاد كمدخل لتطبيع العلاقة مع تركيا يعطي مصداقية أكبر للخطاب الاماراتي الذي يقول أنّه يريد فتح صفحة جديدة مع تركيا على اعتبار أنّ الاقتصاد يتحدث لغة الأرقام وليس بإمكانه المواربة بخلاف السياسة. ولأنّ تركيا ستستفيد من مثل هذا الانفتاح الاقتصادي في هذا التوقيت، فسيكون بإمكان الطرفين اختبار بعضهما البعض من خلال العلاقات الاقتصادية.
رابعاً، شراء الإمارات للأصول الضخمة في تركيا يتيح لأبو ظبي بناء نفوذ مالي داخل أنقرة ويحجز لها موقعاً متقدّماً داخل الحسابات السياسية والإقتصادية التركية. إذا ما حصل تغيير في التركيبة السياسية التركية في الانتخابات المقبلة نهاية عام ٢٠٢٣ ـ أو في انتخابات مُبكرّة ـ ستتيح الاستثمارات الإماراتية لأبو ظبي التقدّم على منافسيها داخل تركيا بما في ذلك قطر والسعودية. ومن المعلوم أنّ النفوذ الاقتصادي يتبعه نفوذ سياسي في الغالب. سيكون من الصعب على أي حكومة ـ غير حكومة حزب العدالة والتنمية ـ أن تتجاهل المُعطى الإماراتي إذا ما حصل ذلك بالفعل.
من الصعب الركون إلى فرضية أنّ أبو ظبي تخلّت عن أجندتها، فكل ما هنالك أنّها شأنها شأن غيرها أدخلت تعديلات على سياساتها تتماشى مع وضعية خفض التصعيد في الإقليم والتي بدأت مع مجيئ إدارة بايدن.
علاوةً على ما ذكرناه أعلاه، تُبدي الإمارات اهتماماً متزايداً بالاستثمار في قطاع الصناعات الدفاعية التركية. لقد شهد هذا القطاع خلال السنوات القليلة الماضية قفزات متسارعة ونمواً هائلاً، كما حقّق إنجازات كبيرة وجرى اختبار المعدات العسكرية التركية في معارك إقليمية حاسمة في عدد من المسارح الجيوبوليتيكية المختلفة. وتُعتبر المسيّرات القتالية التركية فخر منتجات هذا القطاع مؤخراً.
الإمارات كانت ولا تزال من بين الزبائن المهمّين لهذا القطاع، لكن هناك إهتمام متزايد مؤخراً للإستثمار فيه لتحقيق الأرباح، ولتكون جزءً من هذا الصعود التركي العسكري وتحاول ربما الاستفادة منه. ومع أنّه من الصعب تصوّر قبول مثل هذه الاستثمارات في مشاريع حساسة من هذا القطاع، إلاّ أنّ كل شيء يبقى وارداً فيما يتعلق بالمشاريع الأخرى التي قد تُركّز عليها أبو ظبي لتكون بمثابة مدخل لها.
هل يعني ذلك أنّ الخلافات السياسية والأيديولوجية بين تركيا والإمارات ستنتهي الآن؟
لا أعتقد ذلك. من الصعب الركون إلى فرضية أنّ أبو ظبي تخلّت عن أجندتها، فكل ما هنالك أنّها شأنها شأن غيرها أدخلت تعديلات على سياساتها تتماشى مع وضعية خفض التصعيد في الإقليم والتي بدأت مع مجيئ إدارة بايدن. السياسة في المنطقة تتأثر بشكل كبير بالمعطيات الخارجية لاسيما السياسات الأمريكية، وبما أنّ هناك انتخابات أمريكية قادمة في ٢٠٢٤، وبما أنّه لن يدوم في منصبه على الأرجح، فإنّ أي تغيير دراماتيكي في واشنطن قد يدفع بالسياسات الإقليمية القديمة الى الواجهة مجدداً، وهو ما يعني أنّ التحوّلات الحالية الجارية في المنقطة هي ذات طابع تكتيكي في الغالب.
الإمارات والأسد.. الأساطير والحقائق
واشنطن وأنقرة.. إدارة الأزمات وتسويف الحلول
حسابات الربح والخسارة لتركيا في أزمة السفراء