كتب

قصة سوء الفهم بين الأمير عبد القادر وسلطان المغرب

جهد أكاديمي في فهم تاريخ العلاقات الجزائرية ـ المغربية (عربي21)

الكتاب: الأمير الجزائري عبد القادر والسلطان المغربي عبد الرحمن من التعاون إلى الصراع: دراسة تاريخية 1832 ـ1847
الكاتب: إبراهيم ياسين
الناشر: مؤسسة آفاق
الطبعة الأولى، 2020
عدد الصفحات: 270 صفحة


مقدمة:

تمر العلاقات الجزائرية ـ المغربية بفترة توتر عصيبة، يتم خلالها شحذ كل أدوات التصعيد بما في ذلك، توظيف التاريخ لتغذية الأزمات، وتكريس واقع الفرقة، وتأصيل فكرة تعذر المصالحة بين الطرفين، فضلا عن تحقيق الحلم الوحدوي.

ويؤدي الساسة والإعلام دورا مركزيا في تقديم تأويلات للحدث التاريخي، بما يخدم حاجات الدولة الضيقة، أو مصالح الفئات المتنفذة، فيتم في العادة التنقيب في تاريخ العلاقات بين الطرفين عن لحظات الأزمة والصراع والتوتر، وتقديم قراءة إيديولوجية للحدث التاريخي، تسعف رهانات الفاعل السياسي أو حاجيات التحشيد الإعلامي.

وتعتبر قصة العلاقة بين الأمير عبد القادر مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة والسلطان المغربي مولاي عبد الرحمن بن هشام، من النماذج الكبرى لسوء الفهم الذي يسعى بعض السياسيين من هذا الطرف أو ذاك، استغلاله لتبرير حملات التخوين والعمالة، ومحاولة تقديم تفسير وجودي للصراع بين الجزائر والمغرب لتغذية الأحقاد بين الطرفين.

والمشكلة، أن المجتمع الأكاديمي الذي يفترض في نخبه أن تتحرر من أحابيل الرهانات السياسية والحملات الإعلامية، وتحرر بذلك البحث التاريخي من سطوة الإيديولوجي، صارت هي الأخرى أدوات في يد السياسي، يستعملها في تحشيد معركته، واستثمار التاريخ، لتعميق التوترات، ونسف أي محاولات للمصالحة والوحدة.

تشكل قصة العلاقة بين الأمير عبد القادر الجزائري والسلطان المغربي مولاي عبد الرحمن بن هشام واحدة من الموضوعات التاريخية، التي باتت تتطلب بذل جهد أكاديمي وبحثي، من أجل تحريرها من تحكم السياسي، بتوسل الأدوات المنهجية الصارمة التي تتيحها الدراسات التاريخية، استحضار الوثيقة التاريخية، واستنطاقها ومقابلة مختلف الوثائق التي تصدر عن الأطراف المعنية (سلطان المغرب، الأمير الجزائري، السلطات الفرنسية).

يندرج كتاب: "الأمير الجزائري عبد القادر والسلطان المغربي عبد الرحمن من التعاون إلى الصراع: دراسة تاريخية من عام 1832 إلى عام 1847" لمؤلفه الأستاذ إبراهيم ياسين ضمن هذه المحاولات الجادة، كون مؤلفه كان مناضلا يساريا معارضا للنظام المغربي، منحازا لفترة طويلة للأطروحة الجزائرية التقدمية التي حملها هواري بومدين، وكونه متخصصا في حقل التاريخ، يمتلك مهارة التعامل مع الوثيقة التاريخية تنقيبا ومقابلة وتحليلا، وكونه عاش في الجزائر لمدة من الزمن، وعايش أشكالا من تدخل السياسي في تكييف "التاريخي"، كما مكنته عودته من المغرب من ملاحظة الأشكال المقابلة لهذا التوظيف السياسي والإعلامي للحدث التاريخي. 

ولذلك، اندرجت محاولته العلمية في كونها مساهمة موضوعية في التحرر من ضغط الإيديولوجي والسياسي، ارتكزت بالأساس على تجميع الوثائق حول الموضوع، ومحاولة تقديم دراسة علمية، تستحضر كل الأبعاد السياقية التي تكشف تطور العلاقة بين الأمير عبد القادر الجزائري مع السلطان مولاي عبد الرحمن المغربي من التعاون إلى الصراع. 

ويزيد من أهمية هذه الدراسة أنها في الأصل رسالة جامعية أشرف عليها أحد الباحثين المبرزين في الدراسات التاريخية، هو الأستاذ إبراهيم بوطالب، المعروف في الأوساط البحثية بخبرته الأكاديمية في التاريخ المعاصر وفي تاريخ المغرب والجزائر على السواء.

الأمير عبد القادر في كنف السياسة المغربية

استند الباحث إلى وثائق كثيفة مغربية وفرنسية، فضلا عن المراسلات التي جرت بين الأمير عبد القادر والسلطان المغربي مولاي عبد الرحمن بن هشام، وحرص على استعراض الرواية الجزائرية عند الخلاف، وبشكل خاص، رواية محمد ابن الأمير عبد القادر  بن محي الدين في كتابه "تحفة الزائر" وبعض المؤرخين الجزائريين، ولم يستسلم لما تضمنته روايات بعض المؤرخين المغاربة، بما في ذلك روايات الناصري وأكنسوس المحسوبة على الرواية المخزنية، بل مارس النقد على الروايات جميعها، بما في ذلك الرواية الفرنسية المبثوثة في مراسلات ممثلي السلطة الفرنسية وقادتهم العسكريين، وذلك حرصا من الباحث على تقديم رواية موضوعية، تكشف عن مسار العلاقة بين الأمير عبد القادر بن محي الدين والسلطان المغربي مولاي عبد الرحمن بن هشام، مع محاولة تأطير كل مرحلة من مراحل العلاقة بما يكفي من التوثيق والتحليل والتفسير.

وهكذا حاول الباحث أن يدرس 15 سنة من العلاقة بين الطرفين، متوقفا بشكل ضاف على المرحلة الأولى، التي كانت محكومة بالتعاون والتوافق في الرؤية والمصالح ضد العدو الأجنبي (الجيش الفرنسي) الذي كان يمد عينه إلى شرق وشمال المغرب.

ويخلص الكاتب من تحليل مجموعة من الوثائق إلى أن انسحاب السلطة المغربية من إقليم وهران وتلمسان عام 1832، أدى إلى قيام تنافس قوي بين أنصار الخلافة العثمانية وبين حضر تلمسان وبقية القبائل الجزائرية في الإقليم، وذلك لملء فراغ السلطة، حيث أفضى هذا التنافس إلى مبايعة عبد القادر محيي الدين في مدينة معسكر أميرا لقيادة المقاومة ضد المستعمر.

ويكشف الباحث عن مظاهر التعاون في العلاقة بين الطرفين الجزائري والمغربي في هذه المرحلة، فقد شعر الأمير عبد القادر ببعض التحفظ من قبل السلطان مولاي عبد الرحمن بن هشام على إمارة عبد القادر، فاعترف بنوع من التبعية إلى السلطان المغربي، مما دفعه إلى رفع التحفظ والتعاون معه. 

ويفسر الباحث سلوك الأمير عبد القادر بإعلان العمل ضمن ولاية السلطان، بكون الأمير كان لا يرى أي دور له خارج السياسة المغربية التي تبناها السلطان المغربي إزاء الجيش الفرنسي، إذ كانت هذه السياسة، تقوم على التزام السلطان ظاهريا أمام فرنسا بالحياد وعدم التدخل في الشؤون الداخلية (أي إظهار عدم تقديم أي دعم للأمير عبد القادر في مقاومته للاحتلال الفرنسي)، مع الاستمرار في تقديم دعم محدود وغير معلن له، وذلك لمقاومة المخططات الفرنسية، التي كانت تتوسع في غرب الجزائر، وعينها على شرق المغرب وشماله. فكانت سياسة السلطان المغربي، هو الدفع بفرنسا إما إلى الانسحاب التام من الجزائر، أو على الأقل حصرها داخل المراكز الساحلية التي احتلتها.

ويحيط الباحث معاهدة ديمشيل بدراسة مستوفية للوثائق والمراسلات، ويخلص منها إلى أن عقد الأمير عبد القادر لهذه المعاهدة مع الفرنسيين سنة 1834، كانت متعارضة مع السياسة المغربية، ومضرة أيضا بالمصالح الجزائرية حسب رؤية السلطان المغربي، لكن رغم ذلك، فقد استمر السلطان المغربي في المحافظة على علاقته بالأمير عبد القادر، واستمر في تقديم الدعم له، إلى أن انهارت هذه المعاهدة في منتصف سنة 1835، وبرزت بذلك فعالية الدعم المغربي للأمير عبد القادر في وقف الاندفاع الفرنسي الذي قاده المارشال كلوزيل لاحتلال المناطق الخاضعة لنفوذ الأمير عبد القادر الجزائري.

وقد سجل الباحث من تنقيبه في مراسلات الأمير الجزائري عبد القادر عدم تناسب الدعم الذي كان يقدمه المغرب مع الحاجيات التي كان يتطلبها جهاده ضد الجيش الفرنسي، وفسر ذلك بضعف إمكانيات المغرب المالية والعسكرية، وتأثير الضغوط والتهديدات الفرنسية عليه.

كما أحاط الباحث أيضا معاهدة تافنا بعناية بحثية وثائقية مهمة، تلك المعاهدة التي اضطر الأمير عبد القادر إلى توقيعها مع الفرنسيين لضمان السلم، عقب اتخاذ الاحتلال الفرنسي قرارا بحرب الشرق الجزائري بعد هزيمته في قسنطينة سنة 1836، وسجل الباحث أيضا اعتراض السلطان المغربي على هذه المعاهدة، وما تضمنته من بنود تعطي المبرر للجيش الفرنسي لاحتلال قسنطينة، وناقش الباحث تحول الموقف المغربي، رغم اعتراضه على المعاهدة والتوظيف الذي يمكن أن تستعمله فرنسا لبنودها، إذ تراجع السلطان عن معارضتها، وقدم دعما كبيرا للأمير عبد القادر، شمل مساعدات مالية وعسكرية، مع دعم مواقفه ضد خصومه المحليين، وبشكل خاص حملته ضد الزاوية التيجانية في عين ماضي.

وقد صدقت التطورات حدس السلطان المغربي من مكائد الاحتلال الفرنسي بعقده لهذه المعاهدة، إذ لم تكن فرنسا تريد أكثر من كسب الوقت لترتيب معركتها وتوسيع نفوذها في الجزائر، إذ سعت بعد ذلك إلى افتعال أحداث تدفع لنقض المعاهدة، حتى يتسنى لها السيطرة على قسنطينة، وهو ما حصل في سنة 1837. ومع ذلك استمر الدعم المغربي للأمير عبد القادر، رغم تشكيه من عدم كفايته، إذ بقيت علاقات التعاون بين الطرفين ممتدة إلى 1841.

في بداية النزاع.. اختلاف في السياسة الشرعية وتقدير مصالح الإيالة

ومع حساسية موضوع التوتر بين الطرفين، فقد حرص الباحث على تحري قدر كبير من الموضوعية، فحاول التوقف عند محطات هذا التوتر منذ بدايتها، إلى أن بلغت مرحلة المواجهة العسكرية، وحاول تقديم تفسير لها، بعيدا عن أطروحة الغدر والخيانة.

يسجل الباحث أن بداية الخلاف بين الطرفين، تزامنت مع تحول طبيعة الصراع من صراع بين فرنسا والمقاومة الجزائرية للسيطرة على الجزائر، إلى صراع بين فرنسا والمغرب حول الحد الذي يجب أن يتوقف عنده الاندفاع الفرنسي نحو غرب الجزائر، خاصة بعد انهيار المقاومة الجزائرية أمام الاحتلال الفرنسي، واضطرار الأمير عبد القادر إلى التمركز في شرق المغرب، وإطلاق المقاومة من هناك سنة 1843.

ويرى الباحث أن استراتيجية الأمير عبد القادر في المقاومة، حتى وهي تنطلق من التراب المغربي، لم تكن محط تشاور وتنسيق مع الطرف المغربي، بل كان الأمير عبد القادر يتصرف في الإيالة المغربية، كما ولو كان يتصرف في الجزائر، إذ تبنى خطة بتهجير قبائل جزائرية، ودفعها للإقامة في المغرب (المناطق الشرقية)، لكي يستند إليها في استئناف مقاومته ضد الاحتلال الفرنسي، كما استغل وجوده وتعاطف المغاربة معه، لكي يجذب إليه القبائل في شرق المغرب، وجعلها تحت تصرفه في مقاومة الاحتلال الفرنسي، مستفيدا في ذلك من تسامح السلطان وامتناعه عن مواجهته عسكريا؛ خوفا من أن يتسبب ذلك في التفاف القبائل حوله وخروجهم عن طاعته وسلطانه.

 

يرى الباحث أن استراتيجية الأمير عبد القادر في المقاومة، حتى وهي تنطلق من التراب المغربي، لم تكن محط تشاور وتنسيق مع الطرف المغربي، بل كان الأمير عبد القادر يتصرف في الإيالة المغربية، كما ولو كان يتصرف في الجزائر

 



ويشير الباحث استنادا إلى وثائق كثيرة، إلى حالة التردد والتريث التي استبدت بالسلطان المغربي، ومنعته من تبني الجواب العسكري تجاه سلوكات الأمير عبد القادر، التي تسببت في توريط المغرب في معركة إيسلي، وفتح شهية فرنسا للتوسع في المغرب.

ويستند الباحث إلى وثائق أخرى، للكشف عن جوانب أخرى مفسرة لنشوب الخلاف والتوتر بين الطرفين، فيركز على تحول مقاصد الأمير عبد القادر من مجرد مقاومة الاحتلال إلى منافسة السلطان المغربي النفوذ على القبائل الشرقية، التي بدأت تبتعد عن السلطان، وتبدي ممانعة في الانقياد لممثليه، مما عزز مخاوفه من عواقب تحالف الأمير عبد القادر مع هذه القبائل ضد سلطته.

معركة إيسلي وقضية استعمال الحدود الشرقية المغربية

يقدم الباحث سيلا كثيفا من الوثائق والمراسلات بين الطرفين، ليكشف عن تحول جديد في العلاقة بين الطرفين، فرضتها حرب إيسلي وتداعياتها الخطيرة على مصالح المغرب، إذ تحول الموقف المغربي من الأمير عبد القادر بشكل جذري، وبدأ الإلحاح من السلطان على منع الأمير عبد القادر من استعمال الحدود الشرقية لمهاجمة الفرنسيين، إذ اختار السلطان مولاي عبد الرحمن بن هشام أسلوب التفاوض السياسي، متجنبا المواجهة العسكرية مع الأمير عبد القادر، إذ عرض على الأمير عبد القادر أحد أمرين: إما مغادرة المغرب والانتقال إلى "دائرته" إلى الصحراء، وخوض المقاومة للاحتلال الفرنسي انطلاقا منها، أو الانتقال مع أصحابه إلى إحدى العواصم بداخل المغرب والاستقرار بها. وبسبب عدم استعداد الأمير عبد القادر لأي واحد من الاختيارين، وأيضا بسبب رفضه مواجهة السلطان، فقد اضطر إلى نهج سياسة المراوغة وبذل العهود المتكررة بالعزم على الخروج من المغرب كلما اشتد عليه ضغط السلطة في المغرب.

ويسجل الباحث أنه رغم مماطلة الأمير عبد القادر في الاستجابة لطلب السلطان، فقد نهج معه "السياسة" للضغط عليه بتحريض القبائل لمقاطعته، ومنعه من دخول أراضيها أو بالضغط على القبائل من أجل الابتعاد عنه، وذلك إلى أن حلت ساعة المواجهة العسكرية، بعد أن فشل خيار نهج "السياسة.

وقد تعاظمت الضغوط الأجنبية على المغرب، بعد أن جهز الأمير عبد القادر حملته ضد الاحتلال الفرنسي مستعينا بالقبائل المغربية التي دعمته، مما اضطر السلطان معه إلى تبني الخيار العسكري، فبدأ أول اصطدام سنة 1847 نتج عنه قتل عامل السلطان في الريف القائد الأحمر من قبل أنصار الأمير عبد القادر، مما أجج الصراع، وتصاعدت المواجهة بين الطرفين، ولم يقبل السلطان المغربي في نهاية الأمر محاولات الأمير عبد القادر في الوصول إلى تسوية معه والاستجابة لطلبه في مغادرة الحدود الشرقية، فقام السلطان بتجهيز حملة عسكرية واسعة تمكنت من دفعه إلى الحدود الجزائرية، فاختار الاستسلام للفرنسيين على الاستسلام للسلطان، مما زاد في حنق السلطان عليه.

في التفسير الموضوعي لتوتر العلاقة بين الطرفين

ويخلص الباحث في تحقيقه التاريخي المهم إلى خلاصة مهمة تفسر طبيعة العلاقة التي آلت بين السلطان المغربي والأمير عبد القادر، فهزيمة الأمير عبد القادر أمام الفرنسيين سنة 1843، وهزيمة المغرب في معركة إيسلي سنة 1844، أظهرت تفوق القوة الفرنسية العسكرية من جهة، لكنها في الجهة المقابلة، كشفت عن تفكك المجتمعين الجزائري والمغربي، وعن تفكك دولة السلطان وضعفها أيضا، فقد  كان المغرب يقدم الدعم للأمير عبد القادر تقديرا منه أن المقاومة الجزائرية ستحد شهية الاحتلال الفرنسي وتوقفه عند الحدود التي هو عليها، وتمنعه من الوصول إلى غرب الجزائر، ومن ثم شرق المغرب، لكن، بمجرد هزيمة الأمير عبد القادر، ثم هزيمة المغرب في معركة إيسلي، تبين للسلطان المغربي أنه لم يعد هناك من خيار أمام العجز عن مواجهة القوة الفرنسية، سوى الحفاظ على العرش وصيانة وحدة البلاد، ووضع حد لحركة الأمير عبد القادر؛ لأنها تقوض هذه الأهداف، وتعرض المغرب إلى الخطر.


الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع