كتب

مقاربات الإسلام في الفكر الغربي المعاصر.. قراءة في كتاب (1من2)

تندرج هذه الدراسة في إطار الاشتغال بعلاقة الإسلام والغرب انطلاقا من السياق الأوروبي والغربي نفسه

عنوان الكتاب: "إعادة اكتشاف الإسلام في الغرب.. مقاربات الإسلام في الفكر الغربي المعاصر"
المؤلف: د. التجاني بولعوالي
الناشر: مركز الحكماء لبحوث السلام، الرباط
عدد الصفحات: 326


لم يعد الإسلام كدين وحضارة غريبا عن الغرب، ليس بسبب التقارب بين دول العالم والتداخل الذي استحال معه العالم إلى قرية كونية واحدة فحسب، وإنما بسبب التمدد الديني للإسلام، والإقبال المتزايد على اعتناقه في مختلف أصقاع العالم.. 

وبالموازاة مع التدافع السياسي بين مختلف القوى الدولية، وهو تدافع غلب عليه الطابع الصلب والخشن، فإن حركة علمية آخذة في التوسع بدأت تنبش ليس فقط في تاريخ الإسلام ومفاهيمه وتداعياتها فحسب، وإنما أيضا بمستقبل التعايش بين الأديان السماوية.. وإن كانت بعض الدراسات لا تخفي منطلقها الأيديولوجي والسياسي..

في هذا الإطار يتنزل كتاب الدكتور التيجاني بوالعوالي وهو كاتب ومفكر مغربي متخصص في قضايا الإسلام والغرب والفكر الإسلامي وترجمة القرآن الكريم، وأستاذ وباحث في كلية اللاهوت والدراسات الدينية، جامعة لوفان في بلجيكا. 

الدكتور بولعوالي يقدم لكتابه بهذا التعريف الموجز، الذي خص به "عربي21"، وننشره في جزأين: عن الإسلام من منظور الغرب.. وهي قراءة تسلط على الضوء على جوانب جديدة من شأنها التقريب بين الثقافات والحضارات.. 

ـ 1 ـ 

تندرج هذه الدراسة في إطار الاشتغال بعلاقة الإسلام والغرب انطلاقا من السياق الأوروبي والغربي نفسه الذي نقيم فيه منذ حوالي ربع قرن، وهي تشكل حلقة في سلسلة من الإسهامات الفكرية والبحثية التي ينظمها خيط واحد، وهو دراسة طبيعة الحضور الإسلامي المعاصر في أوروبا والغرب بمختلف تمثلاته التاريخية والدينية والثقافية والاجتماعية وغيرها.

وننطلق في هذا الكتاب من فرضية أن الإسلام بكونه الآخر الغريب أو الغرائبي كما في الدراسات الاستشراقية التقليدية محكوم باستمرار بما نطلق عليه "إعادة الاكتشاف" من طرف الذات الأوروبية أو الغربية، وتنطوي هذه العملية على نوع من الإدراك "المتجدد" لجوانب من الإسلام بحسب السياق والشروط الحضارية الجديدة، وكلما كان هذا الإدراك موضوعيا، تم استيعاب مختلف قضايا الإسلام وإشكالياته، ما يُضيّق الفجوة التواصلية والمعرفية والنفسية بين الذات والآخر، أو بالأحرى بين الإسلام والغرب.

إن إعادة اكتشاف الإسلام في الغرب تقتضي الحفر الابستيمولوجي في العلاقة التي تربط بين هذين القطبين، سواء في امتدادها الأفقي التاريخي، أو في تجذرها العمودي المعرفي، ولعل علم الاستشراق في بعديه التقليدي والمعاصر هو أفضل من يوثق ويدرس ويبلور هذه العلاقة، لذلك لا يمكن تفسير فرضية الكتاب منهجيا خارج هذا الإطار العام، على أن يشكل الاستشراق في هذا الصدد موضوع البحث، كأننا نمارس علم الاستغراب بمفهوم حسن حنفي، بكونه "الوجه الآخر والمقابل بل النقيض من الاستشراق". 

ويعني التراث الاستشراقي في آخر المطاف ما أنتجه العقل الأوروبي من تصورات حقيقية أو متوهمة حول الشرق عامة والإسلام خاصة، وقد استحالت هذه التصورات عبر التاريخ إلى صور نمطية يدرسها الباحثون، وتتداولها وسائل الإعلام والسياسيون، ويتناقلها الناس. وعادة ما اتسمت هذه الصور بالجمود والجاهزية والإطلاقية، وظل الغربيون يتعاملون معها بكونها مسلمات وبديهيات لا تتغير ولا تتزحزح.

 

كان من اللازم أن نستقصي مفهومي الإسلام والغرب من منظور إبستيمولوجي epistemological عبر مساءلة وتفكيك المعرفة التي تراكمت بخصوص هذين المصطلحين، سواء في الفكر العربي أو الغربي المعاصر، مع التركيز أكثر على سياق الغرب الحضاري أو الإنساني، الذي أرسى فلسفة التعددية التي منحت حيزا للآخر، بما فيه الإسلام، وشددت على الحوار قصد ردم الفجوات النفسية والإيديولوجية والاجتماعية التي تفرضها التحولات العالمية المعاصرة.

 



وقد لاحظنا أن الفكر الغربي المعاصر بدأ منذ تسعينيات القرن الماضي يطرح مقاربات للإسلام مغايرة تماما ومختلفة عما كان عليه الأمر في الاستشراق القديم، وتتمثل هذه المغايرة في جانبين، أحدهما أنها تفكك وتقوض مختلف الأحكام المسبقة والمسلمات التي تنبني عليها النظريات الاستشراقية التقليدية والدراسات المعاصرة المسيسة لتخلق قطيعة منهجية وإبستيمولوجية مع ذلك التيار الفكري المؤدلج. 

والجانب الآخر هو أن تلك المقاربات تدرس الإسلام بشكل موضوعي متجردة من أي نزوع إيديولوجي أو عقدي، وذلك بغرض فهم الظاهرة الإسلامية في مختلف أبعادها وتجلياتها، وقد أسفر ذلك عن تراكم معرفي يقتضي أن يُبحث لاستجلاء ملامح التحول الإيجابي الذي طرأ على صورة الإسلام التقليدية السلبية.

ومن الأفيد أن يُدرس هذا الطروء في تعاطي الفكر الغربي المعاصر مع الإسلام في ارتباط مع عملية إعادة تدوير الصور القديمة بتعبير صاحبي كتاب من الحريم إلى الفتنة،  وهي عملية إدراكية لا تخلو أيضا من إعادة اكتشاف حقيقة الإسلام، كما سوف نرى لاسيما في القسم الثالث من الكتاب الذي يتمحور حول مجموعة من المقاربات الفكرية الغربية المعاصرة للإسلام في الغرب. وقد تم التركيز في هذه الدراسة بالدرجة الأولى على المقاربات "الموضوعية" التي تأخذ بعين الاعتبار الطابع التعددي للمجتمعات الأوروبية والغربية المعاصرة، وهي تنضوي تحت الغرب الإنساني والحضاري، الذي يتعاطى بإيجابية مع ما هو أجنبي بما في ذلك الإسلام، مقابل الغرب الاستعماري والإيديولوجي الذي يرافع من أجل مجتمع غربي منسجم ثقافيا وعرقيا وإيديولوجيا، وينظر إلى المكونات الإسلامية والأجنبية بكونها عنصرا طارئا لا يمت بصلة لا إلى التقاليد اليهودية-المسيحية ولا إلى علمانية الغرب.     

ـ 2 ـ 

إن منهج البحث يُلزم دوما بتعريف القضايا المدروسة لغويا ومعجميا واصطلاحيا، وتعتبر هذه الخطوة ضرورية لتأسيس المعنى أولا، ثم الانطلاق به نحو دلالات أخرى تُستكشف وتركب أثناء رحلة التقصي والتحليل والموازنة، لذلك فإن نتائج البحث تتأثر بالتأسيس المفهومي المسبق الذي لا يتحدد في المقدمات المكتوبة فقط، بل في ذهن الباحث وسلوكه القرائي بدءا. وكلما كان ذلك التأسيس عميقا ومتوازنا وجريئا، كان الاشتغال المعرفي والمنهجي بالموضوع كذلك. إن التعريفات بكونها نصوصا واقتباسات ذات طابع سالب وجامد static، وهذا يعني أنها تقتضي نوعا من القراءة أو الاستنطاق الذي يكون موجبا وحيوياdynamic . 

إن التحدّي الأول الذي يطرحه البحث، بالإضافة إلى تحدي المنهج، هو كيفية الانتقال من السالب إلى الموجب ومن الجامد إلى الحيوي. وفي غياب روح الجرأة والمغامرة والاستكشاف يظل الباحث حبيس التعريفات المعجمية والاصطلاحية التي تعني شيئا، ولكنها لا تقول كل شيء! بل لا تكون وظيفتها في البحث إلا ملء حيز "ورقي" أو "رقمي" معين من بنية الدراسة، لا التأسيس الفعلي لأطوار لاحقة يؤدي الواحد منها إلى الآخر، ويكمل بعضها البعض، تماما كما تُبنى المعادلات الرياضية.

لذلك، كان السؤال الذي يسكننا عندما كنا نقلّب المعاجم والموسوعات تنقيبا عن معنى "إسلام" و"غرب" هو: ما جدوى هذا الفعل البحثي الرتيب ونحن نعرف مسبقا ما يعنيه الإسلام وما يُقصد بالغرب؟ لكنه بمجرد ما انطلقنا في البحث المعجمي بدأنا نكتشف زوايا جديدة من مفهومي الإسلام والغرب، لم يتسنّ لنا تبيّنها أثناء القراءات السابقة، لأننا الآن نتموقع في قلب ومركز المسألة أو الظاهرة التي ندرسها، بينما كنا قبل ذلك نقف على هوامشها وأطرافها؛ فشتان ما بين القلب والهوامش، وما بين المركز والأطراف! 

ثم ما يعزز طبيعة المقاربة التي نطرحها هي تلك الروح الجريئة و"الدينامية" التي لا ترمي إلى تقويض التعريفات الجامدة، إلا لإماطة لثام اللافهم عما يسكنها من معان وإشارات وتلميحات. فالتعريف/النص الذي يبدو في ذاته جامدا (حروف، كلمات، رسومات، أشكال)، يصبح حيويا لمّا نمارس عليه قراءة حيوية، أما إذا اكتفينا باقتباسه بغرض ملء فضاء معين من البحث، فسوف يظل مجرد حروف ورسومات جامدة ليس غير.

 

أثناء التعريف الموضوعي بالإسلام والغرب ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار تقاطع هذين المفهومين التأسيسيين مع جملة من المفاهيم المفصلية في سياقنا المعاصر، كالتعددية والحوار والعولمة والهوية والصورة وغيرها.

 



إن إحياء التعريفات والاقتباسات من جمودها الشكلي يمكن اعتباره منطلقا جوهريا نحو صياغة بحث حيّ، تبوح فيه الألفاظ الثابتة بمعانيها المتحولة، وتكشف فيه المصطلحات الجاهزة عن مفاهيمها المتحركة، بل وتتفاعل فيه المقدمات مع النتائج والفرضيات مع المحصلات. 

ومن هذا المنطلق، فإن المقصد من المدخل النظري في القسم الأول هو صوغ رؤية واضحة حول مفهومي الإسلام والغرب من شأنها أن تمهد الطريق نحو بناء فهم تقريبي approximate، ليس لما هو عليه الإسلام في الغرب فقط، بل للكيفية التي يفسر بها الإسلام أيضا من مختلف الدوائر الفكرية والإعلامية والسياسية، وهو تعاطٍ لا يخلو من (إعادة) اكتشاف لجوانب من حقيقة الإسلام اللاهوتية والتاريخية والثقافية التي طمرتها أتربة الإيديولوجيا والدعاية والخوف. 

ثم إنه أثناء التعريف الموضوعي بالإسلام والغرب ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار تقاطع هذين المفهومين التأسيسيين مع جملة من المفاهيم المفصلية في سياقنا المعاصر، كالتعددية والحوار والعولمة والهوية والصورة وغيرها. وهي مفاهيم "خلافية" تقتضي تعاطيا دقيقا، حيث لا يمكن أن نعتمد مثلا مفهوم تيار أو فيلسوف أو باحث لا يؤمن أصلا بوجود التعددية في الإسلام، ولا يعترف بجدوى الحوار الإسلامي المسيحي أو الغربي، ويختزل الإسلام في حفنة من الصور النمطية السلبية، ويعتبر الغرب كله ضد الآخر المسلم أو الأجنبي. لذلك، جاءت هذه المقاربة لتركز أكثر على منظورات "الغرب الإنساني" بدل "الغرب الإيديولوجي" الذي يكاد منظروه يجمعون على رفض الإسلام، كما تمت الإشارة أعلاه.

وما دامت التعددية تشكل اليوم معطى مشتركا ومشاعا بين مختلف مكونات المجتمع، وما دام الحوار المنشود يقتضي أن يكون متبادلا بين طرفين أساسيين هما: الإسلام والغرب، فقد راعينا أن نستوعب هذين المفهومين من زوايا لغوية واصطلاحية وفلسفية متبادلة أيضا. بمعنى ماذا يقول كل طرف عن الطرف الآخر؟ كيف يفهم المسلمون والغربيون بعضهما البعض؟ وكيف تقدم الذات الآخر والعكس صحيح؟ وهي أسئلة ذات طابع إبستيمولوجي من شأنها أن تشكل الخطوة الأولى نحو بلورة تصور موضوعي متبادل عبر المعرفة المتبادلة، ولا تقتصر هذه المعرفة على القراءة فقط، بل تقتضي التجربة والاحتكاك أيضا.

وسوف يكشف بحثنا المعجمي حول مفهومي الإسلام والغرب، عن أن التعريفات اللغوية تسبق ما تصل إليه الدراسات الموسومة بالعلمية، ولا أدل على ذلك من تعريفات كل من معجم أكسفورد الإنجليزي وستاندارد الهولندي، التي تقر بشكل موضوعي ألوهية الوحي القرآني ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم تعريف ابن منظور في اللسان للفظة "غرب" قبل قرون طويلة من ظهور الغرب بالمفهوم المعاصر، وإن كان لا يحدد طبيعة هذا الغرب، فإنه يضعه في مقابل الشرق! كأنه كان يتوقع امتداد صراع الشرق والغرب إلى المستقبل، لذلك استعمل لفظة "خلاف" ليقابل بين الشرق والغرب، وهي تحيل على الصراع والتنافر "والنوى والبعد".  

ثم كان من اللازم أن نستقصي مفهومي الإسلام والغرب من منظور إبستيمولوجي epistemological  عبر مساءلة وتفكيك المعرفة التي تراكمت بخصوص هذين المصطلحين، سواء في الفكر العربي أو الغربي المعاصر، مع التركيز أكثر على سياق الغرب الحضاري أو الإنساني، الذي أرسى فلسفة التعددية التي منحت حيزا للآخر، بما فيه الإسلام، وشددت على الحوار قصد ردم الفجوات النفسية والإيديولوجية والاجتماعية التي تفرضها التحولات العالمية المعاصرة.

 

وفضلا عن ذلك، فإن طبيعة السؤال الإشكالي المدروس يقتضي التعرض إلى مفاهيم الاستغراب، التمركز الغربي، والإسلام الأوروبي/الغربي، ليس لتعضيد هذا المدخل النظري فقط، بل لبناء ما نطلق عليه الفهم التقريبي لتمثّلات الإسلام في الفكر الغربي المعاصر.