موسى القرني.. مات شهيدا وصعد مجيدا، وهو من أبرز رجالات العمل الإسلامي التنظيمي ولو نثرنا الطروس ولفَّعناها بنُثار أخباره وجرأته وبذاخة منطقه، ورباطة جأشه، لما وسعته آلاف من الصفحات. تظن أني أبالغ؟ كلَّا. فقد ذكر لي أنه وفي سجن ذهبان في غرف التحقيق كتب لهم 4000 آلاف صفحة فهلك بذلك المحققون وهم لبالغ جهلهم وسفاهة حلومهم، تأكيدا لم يقرأوا منها إلا نزْرا. المهم أن حكاياته وقصصه ليس لها طرف.
وعن محاسنه وفضائله، فلن تجد في عالم الشيوخ والعلماء متقد العقل وباذخ الهمة، ومنفتح الفكر وطيب السريرة ولمَّاح الذهن وتلقائي التعامل كمثل أبي محمد تقبله الله في الشهداء، تعيش ويعيش في القرن العشرين وهو قد بلغ ما بلغ وتراه أشد ما يكون تواضعا لمحبيه، وأما لعداة الأمة تراه ضيغما.
نعود لمنهجة قتله في السجن، كان الدكتور المحامي الأصولي موسى القرني أستاذا متميزا في أصول الفقه في الجامعة الإسلامية في المدينة المورة ـ على منورها وآله أفضل الصلاة وأزكى التسليم ـ وكان عميدا لعدد من كلياتها وكانت أفغانستان فهبَّ بأولاده وأهله للتدريس والإفتاء، وكانت حرب الخليج الثانية فكانت المواقف؛ إذ وقف في محراب مسجد قباء، وقال: "يجب على الدولة أنّ تقول لنا؛ أهي مع الإسلاميين أم مع العلمانيين؟".
وكان حاضرا في خطاب المطالب المقدم عام 1991م ومذكرة النصيحة وخطابات لاحقة لا حصر لها مع الشهيد عبدالله الحامد والفالح والدميني وطيب والزايد ومئات من أبناء الوطن.
عام 1996م/ 1416هـ فصل من عمله الجامعي أستاذا مشاركاً بأمر ملكي هو والبروفيسور أحمد العماري ـ شهيد سجن ذهبان ـ عميد كلية القران في الجامعة نفسها برفقة شيخهما الفقيه البروفيسور علي بن سعيد الحجاج رحمهم الله أجمعين.
المهم أن الشيخ موسى انخرط في عمل المحاماة وبرز فيها كأبرز الذين لا يشق لهم غبار، وقد تدربتُ على يديه ولقيته والتقيته في السياسة والمحاماة والفكر والفضاء الرحب الواسع. وبعد نشاطه الدؤوب الذي لايكاد يتوقف ولا ينقطع، وبعد منعه من السفر وحرمانه من جميع الوظائف كانت هناك "السَّبْتِيَّة" وهي جلسة في منزله يعقدها كل يوم سبت بعد صلاة العشاء إلى الساعة الثانية عشرة منتصف الليل، ولربما كانت علمية في موضوعها أو سياسية أو فكرية، وهكذا وليس من شهير في الفكر أو السياسة في العالم الإسلامي إلا ووطئت قدماه مجلس الشيخ من نجم الدين أربكان والغنوشي وعبدالله جاب الله وحارث الضاري وخنفر وأبي العبد ووفد حماس دع عنك الدكتور الجليل حمد الصليفيح والشهيد الدكتورعبدالله الحامد ونزار ريان وسعود مختار الهاشمي وسواهم.
ولما اشتدَّ أُوار نشاطه وزاد نجمه لمعانا فغدا شمساً تلهب المستبد ولكن مع رفقاء دربه الدكتور الشميري والدكنور سعود مختار الهاشمي وعبدالعزيز الخريجي وعصام بصراوي عازمين على تأسيس منصة في الداخل للتعبير عن هموم الناس، كانت وزارة الداخلية متمثلة في نايف بن عبدالعزيز وابنه محمد ومستشاره سعد الجبري المخطط لكل السياسات تجاه العلماء والمفكرين، فكان الاعتقال المهين، وكانت الظروف السيئة وكانت قصص يرويها التأريخ ودوَّن بعضها ـ شيخنا ـ في قصائد تنوف على الـ100 من غرر القصائد التي توضح بلا مثنوية تعامل النظام السعودي مع المعتقلين مهما كانت مقاماتهم، فهو لا ينظر للشعب سوى كومات من اللحم المكدس للنهش كيفما يشتهي.
وموسى الشهيد السعيد، عجب عجاب فلما التقى وزير الداخلية نايف في لقاء طويل زهاء ثلاث ساعات، مسح الشهيد السعيد موسى بكرامته ـ نْ كانت له كرامةً ـ بلاط مكتبه في قصره بجدة، وكان أنْ قال نايف للشهيد سينساك الناس في السجن!
وكأن الناس لم تنسَ نايف فحسب؛ بل تدعو عليه بكرة وعشيا وتذمه
المهم دخل الشهيد على الجلاد قائلا:
ـ لقد قال لي صغاري، لا تذهب له فإن هذا ليس لديه إلا السجن، وقال الكبار منهم، ربما يعطيك عطاء جزْلاً.
فقال نايف: الظاهر صغارك أذكياء.
وصدق وهو كذوب؛ لأن الصغار ينظرون بفطرتهم التي تكشف غبش الطغاة بلا تأويلات.
وبدأ سجال طويل بينمها، وكان مما قال وقد استشهد جلَّاد الداخلية ووزيرها نايف أحد أركانه وهو الوزير محمد العبدالله الرئيس العام لهيئة التحقيق والادعاء العام، فقال نايف للشهيد: أنت متلون؛ فمرة مع العلمانيين والليبراليين والشيعة.
فقال الشيخ الشهيد الحق ضالتنا ونحن أبناء بلد واحد ومركبنا واحد ومصلحتنا واحدة. وهذا هو في الحق ما يغيض الطغاة والمستبدين وخشية انتشار هذه الروح الجماعية الجامعة فينحسر طغيانهم؛ تجدهم يحرضون المغفلين المحتقنين بالتطييف الذي يقتاتون عليه، وكان أنْ قال نايف للشيخ: تدري إيش أقدر أسوي فيك؟ فقال الشيخ الشهيد: تستطيع سجني وتلفيق التهم بل قتلي ـ وهذا فعلا ما تم ـ ولكن والله لأجمعنَّ صغاري في جوف الليل وندعو الله عليك واعلم أنك ظالم، وهذه هي السياسة الفرعونية المذمومة (ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد).
ثم توتر نايف فانفجرقائلا: يجب عليك ألا تستقبل أحدا في بيتك وألا ترسل خطابات للملك ولا تصلي إلا جوار بيتك، ثم هل أنت دولة داخل الدولة؟ ويجب عليك إغلاق "السَّبْتِيِّة".
أجاب الشيخ الشهيد: أما الصلاة فأحاول ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وبيتي ملكية خاصة وإن كان ولابد من منع ضيوفي فاكتب لي خطابا؛ لأريه من يطرق بابي أني ممنوع منكم، وقولك أني دولة داخل الدولة فهذا شرف لا أدعيه، والخطابات للملك مشروعة بموجب النظام الأساسي للحكم. وقال الجلاد اشتغل بالمحاماة. فقال الشهيد: لم ألجأ للمحاماة إلا كما اُضطر للميتة بعدما فصلتموني بأمر ملكي من عملي أستاذا في الجامعة، ولم أقف على باب مسؤول. ثم وضع بطاقة المحاماة على مكتب نايف ونسيها بعد خروجه لزهده فيها وفيهم، وخرج من عندهم مرددا: (ولكن لا تحبون الناصحين).
أُلجم الجلاد نايف فقال: المهم الرسالة واضحة إما أن تتبع أو السجن.
فقال الشهيد السعيد: الرزق بيد الله ومما أدين لله به أنك لن تضرني بشي لم يقدره الله.
العجيب أن الشاهد محمد العبدالله، قال: اتق الله يا موسى!
فقال الشهيد: ونعم بالله، لكنَّ نصيحتك أولى بها صاحبك.