شطرُ بيتِ شعرٍ قلتُه على البديهة، والشعر أحيانا يعبر منه بيتٌ أو شطرٌ منه عما يعتمل من أفكار كثيرة، غمرتْ النفس، بل هو خُلِقَ لهذا بأنْ يعبِّرَ عن مكنون نفوسنا.
وها أنذا إذ ذكرتُ فيروزاً وهي كذلك بلا مثنوية مذ عرف العالم فيروز لبنان وأيقونته المستقلة عن كل رغائب ورغبات السياسيين الجامحة وأخلاقهم المُسْتَطرقة الذين كانوا ولازالوا يلطِّخون الفن والطرب بلوثاتهم المستعصية.
وهنا لست بوارد التغزل بفيروز وذكر ما تتميز به على المستوى الفني والطَّرَبي الباذخ بل حتى القِيمي، وإنما هنا أتفقد ما افتقدته في بني قومي من جهة الفكر والمذهب والدين، ففي الوقت الذي نرى فيه قامة تتمثل في فيروز لبنان، نجد سقوط قامات من المذاهب المسلمة بلا استثناء تسَّاقط كحبات الدومينو، فلماذا كل هذا؟
ملعب السياسة قذرٌ ومنتنٌ، وما دخله طاهرُ الأردان إلا وخرج منه ملوث الأطراف درِن النفس، فها هم في لبنان وغيرها شكلت اصطفافاتهم حالة مزريةً من الشؤم سواء على المستوى الديني مسلمين ونصارى أو سنة وشيعة أو دروزا أو قل ما شئت متغنياً بالتفنن في تشظينا العفن.
فيروز.. تلك الفتاة الخجولة التي لم تستح يوما أنْ تقول إنها كانت من أسرة فقيرة في أحد أحياء بيروت ومع هذا ترفَّعت عن دناءات خسرتْ بسببها كثيرا وانتظمت سلك المرأة الراقية في ذاتها ولم تكن منذ الحرب الأهلية في لبنان سيئة الذكر والتي اندلعت عام ١٩٧٥م في حالات مروعة ومواقف مخزية من الجميع بلا استثناء، وها هي هناك في لبنان تعربد الأنظمة العربية غير مستثنٍ منها نظام تجول وتصول في بيروت (سويسرا الشرق) وطرابلس الشرق، بكل ما أُوتيت الماكينة العسكرية من قوة وتحطيم لجمال لبنان، لنرى فيروز لبنان تنأى بنفسها عن هذا الدُوار الطائفي الذي أودى بالبلد.
فيروز بموقفها هذا كسبت قلوب الشعب اللبناني بكل طوائفه وأطيافه وهي لا تصحب منهم أحدا إلا من استقال من الشر، وحَسْب ـ ابنها الموسيقار ـ ربما شخص أوشخصان لا علاقة لهم بنجاسة السلطة، وهذه ـ لعمري ـ من الغرائب.. وهذا ما أردت قوله أن مثل هذه المواقف ليست بالأمر السهل أو الذي يُستطاع تجاوزه في ظل لمعان (الأصفر والأبيض) أي الذهب والفضة، بل بريق الأخضر$ الذي سال له لعاب الكثيرين وفي مقدمتهم رجالات الدين والطوائف في كل عصر ومصر وفي كل زمان ومكان.
أريد الحديث هنا عن أمرين مهمين:
أولهما: أن الأخلاق المتينة الثابتة لا تقتصر على ملة أو دين أو طائفة فدونكم هذا الشمم الذي تميزت به فيروز لبنان، ولا أريد أنْ أُكثر من ذكر شمائلها حتى لا يهجم البعض مستدعيا دعشنته وطائفيته ثم يرميني بتمجيد الفساق والمطربين ثم لا يلبث إلا أن أجده حكم عليَّ بالزندقة وقد حجز لي مقعداً في جهنم! من يدري؟
ثانيهما: وهو المهم للغاية وأخاطب بهذا المثقفين العرب والمسلمين والمتدينين على وجه الخصوص سيما من يتمشيخ منهم وهم يقفون على أبواب السفارات وعتبات الحكام مستجدين ما يطلبه الرِّعاع من اللعاعة الفانية، متلبسين بثوب المصلحة الطائفية، والحرص الوطني، فلهم أقول فضحتم العلماء والعلماء فضحكم الله فلا أنتم الذين فعلتم التزمتم الحق ودفعتم ثمنه الباهض ولا أنتم الذين ترفعتم عن هذه الأوضاع.
وهنا كلةٌ يمليها واجبُ الوقتِ، أن السقوط سهل وغير مرهق ولكن الصعود والسير في دروب الكرامة وسلوك معارج المجد والسؤدد هو الصعب العسير على من كان مستعدا أنْ يكون حاجة لا قيمة لها في أيدي الباعة.
والحق ممتحنٌ وطريقُه طويلٌ شاقٌ، وقد تمشي فيه وحدك وسوف تخسر كثيرا بل تتضاعف آلامك وتتبختر بين جنبيك لوعة لا يعلمها إلا من خلقك، وها هم أصحاب الرسالات أيا كانت تجدهم معذبين في تقلبات الحياة، ومصاريع الكرب، وهكذا كانوا وهكذا يجب أنْ يكونوا، إذ هذه الفانية ليست لهم، وهم يرتجون كل شي غال ونفيس والغالي النفيس لا يناله أصحاب الهمم الرَّخِيَّة ولا الآمال الموتورة والنفوس الرخيصة، التي ترخص عندها نفسها وتعتبر ضميرها دكانا في سوق النخاسة.
ولكن ألا يكفيك يا هذا أنْ تضع رأسك على وسادتك وتعلم فقط أن قرارك من رأسك ولا يتحكم في مواقفك إلا ما يمليه عليك ضميرُك الحُرُّ، ويقظتك الدائمة؟ أظن ذلك كافياً.
وها نحن بحضرة السيدة المحترمة فيروز ونقول مثلا لو أنها ترشحت وهي منهم لرئاسة لبنان لكانت محل إجماع لبناني ربما لم تعرفه لبنان منذ استقلالها!! وإن كان ماكرون مؤخرا يُشَكِّكُنا في هذا.
على أية حال الهداية لمعالي الأمور ومكارم الأخلاق، منحةٌ ربانية لا يؤتاها إلا الموفق، ومن كان على سريرة خاصة، وأرجو ألَّا يتناولني رُسُل التشدد وألسنة التطرف بأني تجرأت لمَّا تحدثت عن فيروز، ولولا أن فيروز في خريف عمرها ولم تعد تطمع بزائل المنى، لم أكتب ما كتبت إرضاءً لطرف ولكني مذ كنتُ وأنا أعجب لحالها.. ومن المواقف التي أحبها وأعتقد أنه يجب أنْ نكتبها، والمسير الثابت من هبات السماء إذْ أنَّ من يمتلك المُكْنة الفنية ويثبت مع الحق، مواقف النبلاء سيجد نفسه غريبا، فسوف يخسر كثيرا، وهنا لا يفوتني أن أُلَوِّح بفناننا القدير ذي الحنجرة النقية الصافية الأستاذ رشيد غلام الذي عرفته وسبرت شيئا مما لديه فَنَّا وسُمُّوا وفكرا وتألقا، رأيتُه وعلمت أن صاحب المبدأ كمن يصعد شاهقا فكلما صعد تراجعت عنه الجماهير وهكذا ليس في الفن، وحسْب بل في كل الأعمال النبيلة..
صحيحٌ أن دخولي هذا المعترك في هذه الأتون الفنية المنبثق منها الخلق الجميل قد يثير كوامن المتصيدين ولكن عندما يتعود الأحرار الإفادة من الفرص للإشادة على مذهب "هم الملأ" فهذا مما ينبغي أن يكون محط أفكارنا والبعثة لصالح الأخلاق جزء من هذا السياق، ومتممٌ لمثل هذه الإشادات.. فأقول لجماعتنا: "أوعوا تلوموني".
وبمثل هذا "نسَّمَ علينا هواء" العدل و"سألتْ عنا" نُذُر المعرفة .
سلامٌ ..عليكِ في العالمين
سلامٌ.. على روحِك الطاهرة
سلامٌ.. عليكِ ياعذبةَ النسمات
سلامٌ.. مع ذكراك الشجية
أيتها الأخلاق السَّنِية..
ماكرون ومغزى الهروب الكبير نحو شرق المتوسط
لبنان: احتياطيات المصرف المركزي وأموال الناس في خطر