كتاب عربي 21

ماذا استفاد الإسلام من صعود الإسلاميين؟!

1300x600
في جلسة سمر هربنا من الواقع الأليم، إلى حديث الذكريات!

كنا مجموعة من الزملاء، وكان معنا زميل أعرفه منذ ثلاثين عاماً، ومنذ بداية علاقتنا سألته إن كان ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين، فكان جوابه: نعم. وهي الإجابة النادرة كما أثبتت الأيام، فأشخاص كانوا معروفين بهذا الانتماء لكنهم كانوا يتطوعون للإجابة على سؤال غير مطروح، بأنهم ليسوا منهم لكنهم يحبونهم في الله، أو نحو ذلك. وكانت الأزمة بثورة يناير، فقد كانت فرصة الجهر بالانتماء والتيه به فخراً، الأمر الذي جعل الأجهزة الأمنية تقف على خريطة التنظيم بالكامل للاستفادة منها في الانقلاب العسكري، وليس هذا هو الموضوع!

فقد تطرقنا في حديث الذكريات إلى واقعة قديمة نسبياً، عندما شاركت زملاء في منع انعقاد مؤتمر بنقابة الصحفيين لنصرة البهائيين قبل الثورة، وكان هذا المؤتمر يقف خلفه اليسار الممول من الغرب، وما لحق به من أهل اليمين سابقاً؛ فغني عن التعريف أن من رست عليه "مقاولة" هذه القضايا الشاذة، مثل الدفاع عن المثليين، هو "حسام بهجت"، العنصر القيادي بجماعة الإخوان المسلمين، والمهيج الجماهيري إذا خطب، أيام أن كان طالباً في جامعة الإسكندرية!

فعندما أعلنت الجهات المانحة عن توافر دعم مالي كبير لنصرة قضية المثليين في مصر، في جلسة توزيع "التورتة"، تراجع الحقوقيون التقليديون، وتقدم الحقوقي الوافد من جماعة الإخوان، والمغامر بحكم السن، وبحكم أنه لا يوجد لديه ما يخسره، لكن القدامى في المجال هم سياسيون في الأصل، ومعظمهم ناصريون ويساريون، ومن المعروف أن منهم من كانوا الأكثر راديكالية، فقد كانوا أعضاء في تنظيمات مسلحة، مثل التنظيم الناصري المسلح، لكن التطور الذي طرأ عليهم لأسباب مرتبطة بالمصلحة لم يُنسهم جذورهم، ويدركون أن قضايا كالشذوذ الجنسي قد تقضي عليهم تماماً، ليفوز بالذات هذا العنصر القادم من هناك، ربما ليغطي تماماً على سابقة الانتماء، فلا يتم التفتيش في دفاتره القديمة، أو يشكك في توجهه الجديد، بعد أن استقام على الطريقة الجديدة، أكثر مما ينبغي!

كان زميل من أعضاء مجلس النقابة قد علم بأمر تأجير القاعة صباحاً (الجمعة) وفي يوم عطلة، حيث تغلق فيه النقابة، وكانوا في وضع اللصوص. وكان هذا الزميل صعيديا بدون انتماء سياسي، وما نُمي إلى علمه بالتأكيد نمي إلى علم غيره من أعضاء المجلس ومن بينهم من كانوا ينتسبون للإخوان، أو من فريق "لست إخوانيا ولكنهم إخواني"، وتأكد هذا الانتماء بالجهر به بعد الثورة. وربما من علم نقله إلى دائرته، تماما كما نقله هذا الزميل إلى دائرته القبلية، فكان اجتماعاً على مقهى قريب من النقابة. وكان الحضور من الصحفيين الصعايدة، إلا عدد قليل من غيرهم، وكان القرار بالإجماع (بين دخان الشيشة الذي يملأ الفضاء) هو منع انعقاد المؤتمر، وليبحث أصحاب المؤتمر عن قاعة في فندق لعقد مؤتمرهم الممول من الخارج. وكنا ندرك أن اللجوء لنقابة الصحفيين ليس لقلة الدعم، ولكن للحصول على اللافتة، فانعقاد مؤتمر كهذا في نقابة بحجم نقابة الصحفيين المصريين، هو إنجاز يتضاءل بجواره انعقاده في أفخم فنادق القاهرة!

وفي الساعة الحاسمة، كان حضوري مطمئناً - في البداية - للمشجعين لانعقاد المؤتمر، وبينما كنت أصعد السلالم الخارجية للنقابة للوصول إلى بوابتها المغلقة، وكان الدعاة للمؤتمر يقفون أعلاه، صاح الراحل "كمال بولس باسيلي"، زميلي في الجمعية المصرية للتنوير، منبهاً لوصولي وأنني من سأدخلهم! فخيبت الآمال التي تعلقت بي، وقلت: لقد جئت لمنعكم!

بعد قليل وعندما جاء مكرم محمد أحمد غاضبا وهائجاً، ووجد رفضاً تاماً لفتح الأبواب أمام غير أعضاء النقابة وأن الدخول بموجب بطاقة العضوية، قال لي في هدوء لكي أساعده في مهمته:

- لقد أعطيتهم كلمة، فليعقدوا مؤتمرهم وينصرفوا في هدوء، لأنهم سيعقدونه كما وعدتهم مهما حدث!

ورددت عليه بهدوء لا يتناسب مع لغة الحوار في هذا الجو المشحون وقد خذلته:

- لن ينعقد هذا المؤتمر مهما حدث!

وبعد قليل جاء مصطفى بكري، رئيس تحرير جريدة "الأسبوع" حيث مقرها القريب من النقابة، وتحدث معي بالخطاب المؤثر لأهل الصعيد:

- إن النقيب هو كبيرنا، وقد وافق على عقد مؤتمرهم، فلا يصح أن نهينه أمام "الغرباء"، ولنسجل بعد ذلك اعتراضنا على السماح بعقد المؤتمر.. وستكون هذه المرة هي الأخيرة!

فلما فشل معي حاول أن يقنع آخرين بهذه اللغة المؤثرة. وكان زميلان من "وجه بحري"، أحدهما من محافظة "الشرقية" والثاني من "القليوبية" أكثر منا تشدداً، لكن كان من الملاحظ أنه لا يوجد بين الحاضرين من يُعرف بتوجهه الديني، بل إن الزميل من "القليوبية" معروف بناصريته، وهو يصدع رؤوسنا هذه الأيام بدفاعه عن عبد الناصر، الذي لولاه لما تعلمنا، ولما تمكنا من "فك الخط"، الذي بفكه صرنا نهاجم زعيم الأمة!

الطلعة للصعايدة:

في حديث الذكريات قال زميلي الإخواني القديم، إنهم علموا بعقد المؤتمر ربما في نفس الوقت الذي علمنا نحن به، لكنهم رأوا أن ظهورهم في المشهد سيعقد المسألة، فكان القرار أن نترك للصحفيين الصعايدة "هذه الطلعة"!

والشاهد، أنه بعد أيام من هذه الواقعة، دعي مجلس النقابة للاجتماع لاتخاذ قرار بإحالة عضو المجلس للجنة تحقيق، لأنه تزعم - بحكم موقعه - عملية منع انعقاد المؤتمر بعد أن كشف سراً ما كان له أن يكشفه. وفي هذا اليوم حضر رهط من كبار الصحفيين والصحفيات اليساريين ليدعموا موقف النقيب مكرم محمد أحمد والاتجاه عموما لاتخاذ قرار ضد منع انعقاد المؤتمر، وكنا نحن من يقف في الجبهة الأخرى، من غير المنتمين للتيار الديني، وإن زاد عددنا ليكون من بين الأنصار كثرة من الزملاء من وجه بحري، فقد كانت الأغلبية من الصحفيين الصعايدة، لأن القضية أصبحت قضيتهم. حشد في مواجهة حشد!

ولا شك أن رؤية الإخوان بترك هذه "الطلعة للصعايدة" إنما في محلها تماماً، لأن حضورهم بالفعل كان سيعقد المسألة، لكن ما يؤاخذون عليه أنهم حتى إن لم يحضروا كأفراد يساندون العملية، وهو حضور لن يجعل من الخطاب الديني في منع عقد المؤتمر طاغياً على النحو الذي يعقد الأزمة، لكنهم أخذوا بالأحوط!

وهذا الحذر الشديد ليس فيه ما يشين، غير أنه لا يمنع من طرح سؤال مفيد: وماذا استفادت قيم الإسلام من وجودهم؟!

إن هذا الحضور للتيار الإسلامي في المشهد السياسي، إنما يدفع إلى تقديم تنازلات كبيرة تمس جوهر الثوابت، باسم الحفاظ على الحكم، ثم تجد هذه التنازلات من يبررها ويدافع عنها، ليصبح الحكم هو الغاية وليس الوسيلة لتحقيق الغايات، ولتكون الأزمة مركبة، لأنه إذا كان للحكومات الأخرى أن تفرط فإنها تواجه بالمعارضة، فماذا بعد أن انتقلت المعارضة لصفوف الحكم؟!

إن الإجراء المتبع في الترخيص لمحال الخمور هو التجديد سنوياً، وفي فترة حكم الإخوان تم التجديد لها ثلاث سنوات متصلة، من باب المزايدة. وهذا التنازل لم يكن شفيعا لهم للاستمرار في الحكم، لأنه فُهم على أنه دليل ضعف، وأنهم يتمسكنون انتظاراً لمرحلة التمكن!

وفي السودان وعندما حكم التيار الإسلامي، قدم تنازلا كبيراً بالطلب من ابن لادن مغادرة البلاد، والاستيلاء على ممتلكاته، ولم يكن هناك طلب رسمي من أي جهة غربية، لكنها الاستقامة بأكثر مما ينبغي، والاجتهاد في قراءة لغة الطير. ومن قدم التنازل هو الشيخ الترابي، وبعد قليل خرج من السلطة ودخل السجن ولم يكن لموقفه هذا أثر في رفض الغرب لسجنه!

ثم حدث ولا حرج عن تنازلات البشير، والتي لم تبدأ بمد يده للسيسي، ولم تنته بالتحرك كمجنون لوضع يده في يد قاتل مجرم كبشار الأسد، ثم كانت النتيجة هي فقد الحكم وسجنه!

وفي المغرب تساهل الحكم الإسلامي في كل شيء، ولم ينصف حقاً ولم يواجه باطلاً، ووصل الأمر إلى حد التفريط في الثوابت بارتكاب جريمة التطبيع، والتبرير المرفوع هو لكي يحافظ على وجوده في الحكم، ثم تكون النتيجة هي الخروج المخزي والمهين منه!

وماذا في سعي النهضة لتصدر المشهد السياسي، إذا كان المقابل هو عدم القدرة على الدفاع عن الثوابت؟ فماذا بقي إذا لم تستطع أن تدافع عن أحكام المواريث وأن تنتصر لشرع الله، ليكون صوت اليساري المنصف المرزوقي هو الفرقان في هذه الفتنة، لأنه لا يخشى من اتهامه بشيء مما يخيف غيره؟ وفي النهاية فإن هذا الموقف الشجاع لم يشفع له عند إسلاميي تونس، الذين كان مرشحهم هو الشيخ عبد الفتاح مورو الذي لم يتمسك بثابت ولم يدافع عن مبدأ، ولم ينطق بكلمة في مواجهة من تعدوا حدود الله!

ليكون السؤال المطروح أيهما مقدم عند الإسلاميين: التنظيم أم الفكرة؟!

قديماً، وقبل أن يدخل الإخوان غمار السياسة، كان يوجد في الجماعة حزبيون ينتمون لأحزاب سياسية، شأن الجماعات التي كانت قائمة في ذلك الوقت مثل الطرق الصوفية، فيذهب إليها الناس للدين والتقرب إلى الله، ويمارس منهم السياسة في حزبه، وعندما أعلن الشيخ حسن البنا خوضه الانتخابات سأله النحاس عن دوافعه لذلك، فأجاب: لإلغاء بيوت الدعارة!

وقال له النحاس إنه بهيئته هذه وتزعمه لجماعة دينية لو وقف في البرلمان وطلب بإلغاء بيوت الدعارة، فسوف يثير هذا حفيظة النواب، "لكن أنا مصطفى النحاس، الليبرالي، لو وقفت فسوف يؤوب معي النواب ولا يستطيع أحد أن يزايد علي"! ليكون إلغاء بيوت الدعارة بجهد مصطفى النحاس، وموقف النائب سيد جلال!

ومع هذا الانتصار للمبدأ، فلم تتوقف صحف الإخوان، وكانت كثيرة ما بين يومية ودورية، عن الهجوم على النحاس، لأنه كان سبباً في عدم خوض البنا للانتخابات، الأمر الذي كان للشيخ محمد الغزالي فيه رأي مختلف؛ ناقش فيه شيخه في جلسة مطولة، وهو يقول له: يا سيدنا ليس النحاس من يهاجمه الإخوان. وبدا أن ما يهم القوم هو أن يكون البنا نائباً ألغيت بيوت الدعاة أو لم تلغ، فالتنظيم مقدم على الفكرة!

إن ظهور التيار الإسلامي كمنافس سياسي، كان ضرره كبيرا على الفكرة، إن لم يكن بتفريطه ففي تنازل الآخر السياسي عنها، وفي المقابل فإن هذا التيار عندما حكم، كان كالمنبت الذي لا أرضا قطع ولا ظهراً أبقى.

المدهش، أن هناك من يعتبرون انتصار حركة طالبان من بشائر النصر التي تلوح في الأفق لانتصار التيار الإسلامي في بلادنا، فات هؤلاء أنهما مشروعان متناقضان؛ فمشروع طالبان هو مشروع الصمود الذي ضحى بالحكم من أجل الانتصار للمبدأ، فرفضوا تسليم ابن لادن، وهو موقف اختلط فيه القبلي بالديني، تماماً كما رفضت البلدة الباقية بعد سقوط أفغانستان كلها إلا هي؛ أن تسلم المجاهدين العرب مقابل توقف قصفها، وكان قد صب عليها العذاب الأمريكي صباً، في حين أن المشروع المقابل يقوم على التفريط في ما لا يفرط فيه، فهل يستويان مثلا؟!

لم يعد الرجال يُعرفون بالحق، فقد صار الحق يُعرف بالتنظيم، فماذا استفاد الإسلام وقيمه من صعود الإسلاميين؟!

ليتهم ما صعدوا!

twitter.com/selimazouz1