في خطاب المستبد المغرض في ساحة
الدين؛ من المهم بمكان أن نُذَكِّر بفصل الكواكبي في كتابه "طبائع
الاستبداد ومصارع الاستعباد"، والذي عقد فيه الصلة بين الظاهرة الاستبدادية والظاهرة الدينية، وكيف أن المستبد يحاول قدر طاقته السيطرة على هذا المجال الديني ومن يعمل فيه في سياقات التحكم في المجتمع بمفاصله ومساراته. ويمارس المستبد ذلك بأساليب أربعة من الخطورة بمكان؛ نشير إليها على النحو التالي:
أولها التسييس؛ إذ يحاول توظيف الدين لمصلحة سلطانه وطغيانه، فيقدم طبعته الخاصة "طبعة الدين الاستبدادية" حتى يمكّن لأفعاله واستراتيجياته وسياساته، وذلك من خلال خطاب يحاول أن يحدد طريقته ومضمونه من خلال خروجه كل فترة بتصريحات حول الدين وعلاقة المواطن به، وفي سياق عمليات تشكيل المواطنة على الطريقة التي يريد وبالمنهج الذي يترسم خطاه.
يحاول توظيف الدين لمصلحة سلطانه وطغيانه، فيقدم طبعته الخاصة "طبعة الدين الاستبدادية" حتى يمكّن لأفعاله واستراتيجياته وسياساته، وذلك من خلال خطاب يحاول أن يحدد طريقته ومضمونه من خلال خروجه كل فترة بتصريحات حول الدين وعلاقة المواطن به، وفي سياق عمليات تشكيل المواطنة
ثانيها التلبيس المتعمد؛ الذي يمارسه المستبد في مسألة الدين، بحيث يخلط الأمور عن عمد حتى يصطنع رأياً عاماً يتواكب بشكل من الأشكال مع ما يريده، ذلك أن عملية التغييم والتعتيم في المجال الديني ومحاولة هز ثوابته مسألة أساسية في سلوك المستبد وسياساته، إذ يعبر دوما عن أنه لا ثابت إلا هو، وأن كل شيء قابل للتشكيك، ويزرع كل ما يتعلق بحالة من التجرؤ في المجتمع على تلك الثوابت التي ترتبط بالمجال الديني.
أما الأسلوب الثالث فإنه يتعلق بالتدليس واحتراف الكذب في ما يتعلق بالمسائل الدينية؛ تحت عنوان يزعم فيه أنه
الفهم الصحيح للدين، ويضعه تحت غطاءات مختلفة من أقوال تعبر عن كذب صراح وافتراء بواح، حينما يسمي الأشياء بغير أسمائها، وكذلك يصطنع ظواهر زائفة ومفتعلة لتكون موضعا لتشويه فئة بعينها في المجتمع، وغالبا ما ترتبط تلك الفئة بمرجعية إسلامية، ينشر الكراهية مستغلا في ذلك أبواق إعلامية وأقلام تحترف العلمانية الفجة والحادة، فتقوم مع ذلك التدليس بالإسهام في حالة التلبيس العامة في الشأن الديني.
وقد اجتمعت هذه الأساليب الثلاثة في خطاب زاعق مفضوح للمستبد المنقلب تحت عنوان مطالبته بالوعي، وما هو بوعي، وإن شئت الدقة فما هو إلا وعي زائف ومزور، وهو ما يتضح
في خطابه الذي جاء فيه: "أنا أتصور أن القضية الأهم هي
الوعي بمفهومها الشامل، سواء الوعي بالدين فكلنا اتولدنا والمسلم مسلم بالبطاقة، ولكن علينا إعادة صياغة فهمنا للمعتقد الذي نحن فيه.. عندك استعداد تمشى بمسيرة بحث في المسار ده لتصل للحقيقة.. كلام كبير قوي"..
اجتمعت هذه الأساليب الثلاثة في خطاب زاعق مفضوح للمستبد المنقلب تحت عنوان مطالبته بالوعي، وما هو بوعي، وإن شئت الدقة فما هو إلا وعي زائف ومزور
مثل هذا التهويم بفائض الكلام في مجال الدين إنما يعبر في حقيقة الأمر عن كيف يخترع المستبد لغة إصلاح، وهي في الحقيقة "الإفساد بعينه": "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ، وَلَٰكِن لا يَشْعُرُونَ" (البقرة: 11-12).
وربما أن المستبد وأجهزته يتعمدون في ثوب من التزييف، ولا يعدمون وسيلة في محاولة لتأسيس كل تلك التجاوزات من تسييس وتلبيس وتدليس، فيحكمون هذه العقدة للأسف الشديد بأسوب رابع "فاقع" يقوم بعملية تأسيس على شفا جرف هار؛ حيث يعمد إلى السيطرة على المؤسسات الدينية من خلال إصدار القوانين والمراسيم الرسمية التي تخول له تعيين من يعينه على فساده واستبداده، مع الاحتفاظ بالقيادات التي تعمل لمصلحته فقط لا مصلحة الدين أو الوطن، في سياق تأميمه حتى للمؤسسات الدينية والهيمنة عليها. وقد نجح في تأسيس منظومة نفعية تعمل على تطويع الدين لمصلحته سعيا لتحقيق منافعها المادية والأنانية، وتطبيع عموم الناس ضمن عقلية القطيع.
ومن فائض تدليسه أن يتحدث المستبد عن إصلاحه الضال أو إصلاحه المعكوس بقوله: "تكلفة الإصلاح هائلة، يدفعها المصلح، ولا يمكن أن يكون المصلح محل رضى من الآخرين حيث يتحدث عكس الطبيعة ومسار الناس، والإصلاح عمل الأنبياء والرسل"، فيسوغ رؤيته الضالة بكلام يبدو أنه ينتمي إلى الرسالة والدين. ومن جميل ما قال البشير الإبراهيمي في بصائره، منبها إلى عدم تصديق المستبدين في حديثهم عن الإصلاح؛ إن حديث هؤلاء من هم بيدهم السلطة وهي محل استبدادهم. فرغم هيمنتهم وسلطانهم الطاغي يتحدثون ولا يملون عن ضرورة إصلاحهم، فهي تدل على إفسادهم وفسادهم.
وضمن لغة إصلاحه الضالة التي يحترفها المستبد؛ أن تنشر الصحف في وقت سابق توجيهات له لوزارة الأوقاف يطالبها "بالعمل على تكوين جيل من الأئمة والدعاة المستنيرين لصياغة رأي عام ديني منضبط يراعي المستجدات وفقه الواقع، دون إخلال بثوابت الشرع". تخيل أنه يقول هذا الكلام "الفخم" ناقلا إياه، جاهلا معناه، ولا يدرك مغزاه، فإنما دعوته بحق في هذا المقام دعوة تزوير لا تنوير، ورأي عام يحاول تصنيعه على عينه يقوم على فوضى الأفكار والتدين، وليس رأيا عاما منضبطا كما يقول. وما يريد بالرأي العام المنضبط إلا أن يجعل هؤلاء يلتزمون رأيه ويتجاوبون مع أقواله الذي يستخف فيها بكل ثابت، رغم أنه يدعي الحفاظ على الثوابت.
نستطيع أن نؤكد أن الأهداف الكبرى التي تتعلق بهذا الخطاب ومحاولة بث ونشر تلك التصورات ربما تكون تمهيدا لقرارات أو سياسات في هذا المجال، والتمهيد لها واستنفار كافة الأقلام والأبواق الإعلامية لمساعدته في الترويج لما ينتوي القيام به
من خلال هذا التوصيف لعلاقة المستبد بالظاهرة الدينية واستكشاف هذا الخطاب
السيسي حولها ودواعيه المختلفة؛ نستطيع أن نؤكد أن الأهداف الكبرى التي تتعلق بهذا الخطاب ومحاولة بث ونشر تلك التصورات ربما تكون تمهيدا لقرارات أو سياسات في هذا المجال، والتمهيد لها واستنفار كافة الأقلام والأبواق الإعلامية لمساعدته في الترويج لما ينتوي القيام به.
وقد شهدنا تلك التصريحات التي تشكل في حقيقة الأمر "الهري" في مجال الدين و"الاستخفاف" بالحالة الدينية، وبحكم الموروثات التي ترسخ الإيمان الديني في النفوس، وزعزعة الثوابت الأساسية.
وتبدو تلك المسائل كأنها تهدف - بالإضافة إلى الدواعي السابقة - إلى تلك الخطة الجهنمية التي يقوم بها المستبد وأجهزته المختلفة وأبواقه وزبانيته وأصحاب المصلحة في الدفاع عن منظومة الاستبداد والفساد، وتمرير عمليات الطغيان والتزوير على حقائق التدين في المجتمع.. كل ذلك بغرض لفت الانتباه عن قضايا أساسية يراد أن يتلهى الناس عنها، أو السؤال فيها، أو الاستفسار عن المصير الذي يرتبط بهم فيه. وهي أمور تتعلق بالمستقبل الوجودي للمواطن والجماهير، خاصة فيما يتعلق
بالأمن المائي وتلك الخيبة الكبيرة في السياسات وفي الخطابات لمعالجة هذه القضية الخطيرة.
الطريق إلى صرف الاهتمام بتلك القضايا محاولة تشييد شبكة من الإلهاء والإخفاء، حتى يمكنه أن يبعد الناس عن حال الاهتمام بمصائرهم وبكل مهم في حياتهم. ذلك أن سياسة الإلهاء تلك هي طريقة معتمدة لدى المستبد في إطار هندسة الرضا الكاذب والإذعان البائس
وبالتالي يكون الطريق إلى صرف الاهتمام بتلك القضايا محاولة تشييد شبكة من الإلهاء والإخفاء، حتى يمكنه أن يبعد الناس عن حال الاهتمام بمصائرهم وبكل مهم في حياتهم. ذلك أن سياسة الإلهاء تلك هي طريقة معتمدة لدى المستبد في إطار هندسة الرضا الكاذب والإذعان البائس، فيحقق بذلك أهدافه من خلال عملية تمرير وتغرير وتزوير.
ولعمري إن هذا من الأمور التي تنال من المواطن وتضعه في حالة تزييف الوعي وتسطيح الاهتمامات والقدرة على صناعة كل ما لا يفيد، ولكنه في النهاية يجعله في الواجهة حتى يتمكن من التحكم في المواطنين وتبرير كل ما يتعلق بمظاهر فساد أو خيبة أو فشل يرتكبه النظام الاستبدادي.. المستبد يزيف ويهدم الدين، وينقض ويزور وعي المواطنين.
twitter.com/Saif_abdelfatah