ليس شرطا أن تكون العبرة في الخواتيم، ولا أن تكون نهاية القصة في خاتمتها، ومن غير الصحيح دائما تقييم التجربة إن كانت ناجحة أم فاشلة فقط من النتائج النهائية لها.
هذه القاعدة تنطبق على محاولة الأسرى
الفلسطينيين الستة كسر قيدهم من سجن جلبوع الإسرائيلي، التي نجحوا فيها على الرغم من تمكن
الاحتلال من إعادة اعتقال أربعة منهم.
من غير المنصف أن يتم تقييم هذه التجربة بأنها فاشلة، فقط لمجرد أن يتمكن الاحتلال من اعتقالهم مجددا، فالتجربة لم تنته بعد لمجرد بقاء اثنين من الأسرى في فضاء الحرية، ونسأل الله عز وجل لهم السلامة، وأن يصلا إلى بر الأمان.
دعونا نقوم بعملية تشريح لعملية الأسرى بالخروج من سجن جلبوع، فمن الواضح أن العملية تمت على عدة مراحل؛ ابتداء بالتخطيط ومن ثم اختيار مكان الحفر وطول واتجاهات النفق، وبعدها عملية الحفر بالبعد العملي والأمني، ومن ثم التنفيذ.
إن أردنا تقييما واقعيا لهذه التجربة، فلا بد من دراسة كل مرحلة وتقييمها على حدة، فمن الواضح أن الأسرى الستة في المرحلة الأولى نجحوا في الاتفاق على آلية الخروج من السجن ودراسة الأماكن المناسبة والأقل تكلفة في الوقت والجهد، هذا الأمر كان نتيجة تراكم خبرات من محاولات سابقة لهؤلاء الأسرى للخروج من السجن.
مجرد أن يخطط الأسرى الستة للعملية ويتفقون على ذلك، فهو نجاح بحد ذاته في ظل البعد الأمني الإسرائيلي داخل السجن، والحفاظ على الفكرة محصورة في ستة أشخاص.
كما أن البعد المتعلق باختيار مكان الحفر، ينم عن دراية ودراسة معمقة لدى الأسرى في تحديد نقطة الحفر وطول النفق ومكان فتحة الخروج، وهذه تسبقها مرحلة جمع المعلومات عن البنية التحتية للسجن، كما يسجل لهم نجاحهم في الحفاظ على فتحة النفق داخل الزنزانة دون انكشاف أمرها طيلة مدة الحفر.
عليه، فنحن نتحدث عن تجربة تمكنت من تجاوز العقبات الأمنية كافة؛ بالدرجة الأولى في الحفاظ على سرية العملية وضرب المنظومة الأمنية الإسرائيلية داخل
السجون، وهشمت الصورة التي يروج لها الاحتلال الإسرائيلي حول قدراته الاستخباراتية الكبيرة وأدواته التي يزرعها في داخل السجون، كالعصافير مثلا وأجهزة المراقبة. (العصافير هم عملاء الاحتلال يضعهم مع الأسرى في الزنازين للتنصت عليهم).
ومع نجاح الأسرى الستة في الخروج من سجن جلبوع عبر النفق، وإعلان الاحتلال الإسرائيلي عن الأمر، عمت حالة من الفرح بهذا الإنجاز الكبير بين أوساط شعبنا الفلسطيني وشعوبنا العربية والإسلامية.
وبدأت منصات التواصل الرقمي ووسائل الإعلام بالحديث المكثف عن العملية، واعتمدت في غالبيتها كمصدر للمعلومات بالدرجة الأولى على الإعلام الإسرائيلي.
الحالة الفلسطينية التي رافقت نجاح الأسرى في الخروج من سجن جلبوع في تلك اللحظة واستمرت لأيام؛ بدت وكأن الأسرى قد وصلوا فعلا إلى بر الأمان وأصبحوا بعيدين عن الخطر الإسرائيلي، فبدأت التحليلات حول عملية الخروج من السجن والاستنتاجات والقراءات المختلفة؛ التي أعتقد أنها كانت محل متابعة من قبل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، في محاولة إسرائيلية لفهم العقلية التي يفكر بها الأسرى الستة المحررون في لحظات الهروب الأولى.
ربما الكثيرون ممن كتبوا وعلقوا وتحدثوا لوسائل الإعلام، قدموا من غير قصد معلومات تستطيع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية البناء عليها في عمليات البحث عن الأسرى.
كذلك لاحظت خلال متابعتي لهذه القضية، أن المشكلة الأكثر خطورة التي يقوم بها الكثيرون ممن يسمون أنفسهم ناشطين؛ هي إعادة ترويج كل ما يصدر من أخبار وصور عن الإعلام الإسرائيلي دون تثبت من حقيقة المعلومات، حيث انتشرت عمليات النسخ واللصق وإعادة التوجيه بشكل كبير في العديد من مجموعات الواتساب وفيسبوك وغيرهما من المنصات، وخاصة الأخبار حول عملية اعتقال الأسيرين محمود عارضة ويعقوب قادري التي تحدث عنها الإعلام العبري.
والأشد من ذلك، نشر كل ما يصدر عن الاحتلال الإسرائيلي في ما يتعلق بالحديث عن عائلة عربية في مدينة الناصرة المحتلة قامت بالإبلاغ عن الأسيرين، ومن ثم ترويج صورة لأحد أبناء المدينة بأنه من قام بالإبلاغ عن الأسرى، لكن الحقيقة هي أنه أسير معتقل لدى الاحتلال.
وبدأت بعد ذلك التغريدات من العديد من الحسابات الفلسطينية التي هاجمت أهالي مدينة الناصرة، وبهذا تكون خدمة مجانية للاحتلال الإسرائيلي في ضرب النسيج الفلسطيني، ومساندة للاحتلال في التغطية على فشل منظومته الأمنية في عملية سجن جلبوع البطولية.
وشهدنا في لحظة اعتقال أول أسيرين نشرا مكثفا عبر هذه المنصات لأخبار متسارعة وصور ومشاهد الأسرى المعتقلين، شكلت ضغطا مخيفا ساهم في حالة من الإحباط لدى عموم شعبنا الفلسطيني، وتحول المشهد الفلسطيني من انتصار إلى هزيمة وانتكاسة. وتماما هذا ما يريده الاحتلال في تلك اللحظة.
يريد الاحتلال ضرب معنويات شعبنا وخاصة عائلات الأسرى الستة، بالإضافة إلى إضعاف معنويات الأسرى أنفسهم في حال كان لديهم تواصل مع جهات يمكن أن تنقل لهم خبر اعتقال اثنين من الأسرى، ومن ثم تساهم هذه الأخبار في تشتت الأسرى وإعادة ترتيب أوراقهم، وتشكل المزيد من الضغط النفسي والجسدي عليهم، وهذا يخدم الاحتلال في تسهيل عملية إلقاء القبض عليهم. وهذا ما حدث مع الأسيرين محمد عارضة وزكريا الزبيدي.
هذا المشهد تحول بمجرد إعادة نشر صور الأسرى محمود ومحمد عارضة وزكريا الزبيدي ويعقوب قادري وهم يبتسمون لحظة الاعتقال، هنا ارتفعت معنويات شعبنا بهذا المشهد البطولي للأسرى، وانتقلت الحالة مجددا إلى الانتصار على القيد وهزيمة الاحتلال.
لكن للأسف، يساهم العديد من الناشطين في كثير من الأحداث الفلسطينية؛ في ترويج أخبار كاذبة ومعلومات مضللة، تكون عبارة عن بالونات اختبار إسرائيلية في تقصي المعلومات وتحقيق مصلحة الاحتلال الإسرائيلي.
ربما الترويج لمعلومة أو صورة تكون نتائجها كارثية على شعبنا الفلسطيني، فالكثيرون يعتبرون الناشط مصدرا للأخبار، فينقلون عنه كل ما ينشره، لذا نحن بحاجة إلى التحلي بالمسؤولية الوطنية والأخلاقية، والحذر من الوقوع في شرك الاحتلال وخدمته المجانية.
وأسجل هنا تقديري للعديد من مواقف الناشطين وغيرهم ممن يسارعون إلى تكذيب هذه الافتراءات والأخبار المزيفة، وكذلك الجهات التي تحذر بشكل مستمر من تناول الموضوعات الحساسة فلسطينيا، والتي يكون مصدرها إسرائيلي بالدرجة الأولى.
لا يزال هناك أسيران فلسطينيان في فضاء الحرية، فلنحرص عليهما ولنتوقف عن نشر أي معلومات سواء صحيحة أو مفبركة، فإن أردت أيها الناشط وأيتها الناشطة أن تكونا عونا لهما، فتوقفوا عن النسخ واللصق.