أمثال العرب في الوفاء كثيرة، ومن الظلم ضمُّ الخل الوفي إلى كائنين خرافيين هما الغول والعنقاء، الغدارون قلّة، وهؤلاء هم مشاهير الأوفياء العرب الذين ضربت بهم الأمثال، الأسماء حسب الظهور.
أَوْفَى مَنَ السَّمَوْأَلِ:
وكان امرؤ القيس قد استودعه دروعا، فجاء ملك يطالبه بها، قَالَ الملك للسموأل من تحت الحصن: هذا ابنُك في يَدَيَّ، وقد علمت أن امرأ القيس ابن عمي ومن عشيرتي، وأنا أحقُّ بميراثه؛ فإن دفَعْتَ إلى الدروع وإلاَ ذَبَحْتُ ابنك، وقَالَ: ليس إلى دَفْعِ الدروع سبيل، فاصنع ما أنت صانع، فذبَحَ الملكُ ابنه وهو مُشْرِف ينظر إليه، ثم انصرف الملك بالخيبة، فوافى السموألُ بالدروع الموسمَ فدفعها إلى ورثة امرئ القيس وقيلت في وفائه أشعار وهو صاحب قصيدة "إّذا المرء لم يسلم من اللؤم عرضه".
أَوْفَى مِنْ عَوْفِ بنِ مُحَلِّمٍ:
كان من وفائه أن مَرْوَان القَرَظِ بن زنباع غزا بكر بن وائل، فَقَصُّوا أثرَ جيشِه، فأسره رجل منهم وهو لاَ يعرفه، فأتى به أمه، فلما دخل عليها قَالَت له أمه: إنك لتَخْتَالُ بأسيرك كأنك جئت بمَرْوان القرظ فَقَالَ لها مروان: وما تَرْتَجِينَ من مروان؟ قَالَت: عظم فدائه، قَالَ: وكم ترتجين من فِدَائِه؟ قَالَت: مائة بعير، قَالَ مروان: ذاك لك على أن تؤديني إلى خَمَاعَةَ بنت عَوْف بن مُحَلَم، وكانت عنده سبية يوما، فردها إلى أهلها.
فمضَتْ به خماعة إلى عوف بن مُحَلم، فبعث إليه عمرو بن هند أن يأتيه به، وكان عمرو وجد على مروان في أمر، فآلى أن لا يعفُو عنه حتى يضع يَدَه في يَدَه، فَقَالَ عَوْف حين جاءه الرسول: قد أجارتهُ ابنتي، وليس إليه سبيل، فَقَالَ عمرو بن هند: قد آليت أن لاَ أعفو عنه أو يضَعَ يَده في يدي، قال عوف: يضع يده في يدك على أن تكون يدي بينهما، فأجابه عمرو بن هند إلى ذلك، فجاء عوف بمروان فأدخله عليه فوَضَعَ يده في يده ووضع يده بين أيديهما، فعفا عنه، وقَالَ عمرو: لاَ حُرَّ بوادي عوف، فأرسلها مثلاً، أي لاَ سيد به يناويه، وإنما سمى مروان القَرَظِ لأنه كان يغزو اليمنَ وهي منابت القَرَظِ.
أَوْفَى مِنَ الحَارثِ بنْ ظَالِمٍ:
وكان من وفائه أن عياض بن دَيْهَث مَرَّ برعاء الحارث وهم يسقون، فسَقَى فقَصُرَ رِشَاؤُه فاستعار من أرِشيَةِ الحارث فَوَصل رشاءه، فأرْوَى إبله، فأغار عليه بعضُ حَشِم النعمان فاطردوا إبله وغنموها، فصاح عياض: يا جاراه يا جاراه، فَقَالَ له الحارث: متى كنتُ جارَك؟ فَقَالَ: وصَلْتُ رشائي برشائك فسقيتُ إبلي فأغير عليها، وذلك الماء في بطونها، قَالَ: جِوَار ورَبِّ الكعبة، فأتى النعمانَ، فَقَالَ: أبيْتَ اللعن! أغار حَشَمُك على جَاري عياض بن ديهث فأخذوا إبله وماله عليه، فَقَالَ له النعمان: أفلاَ تشد ما وَهَى من أديمك، يريد أن الحارث قتل خالد بن جعفر بن كلاب في جوار الأَسود بن المنذر، فَقَالَ الحارث: هل تعدون الحلبة إلى نفسي؟( يعني هي موتة واحدة) فتدبر النعمان كلمته، فرد على عياض أهله وماله.
أوفَى مِنْ أُمِّ جَمِيل:
هي من رَهْط أبى هُريرة رضي الله عنه من دَوْسٍ، وهم أهل السَّرَاة وكان من وفائها أن هشام بن الوليد بن المُغِيرَة المَخْزومي قَتَلَ أبا زُهَيرٍ الزَّهْرَاني من أزْدِ شَنُوأة، وكان صِهْرَ أبي السفيان بن حرب، فلما بلغ ذلك قومه بالسَّرَاة وثبُوا على ضِرَار بن الخَطَّاب ليقتلوه، فسعى حتى دخل بيتَ أمِّ جميل وعاذَبها، فضربه رجل منهم فوقَع ذُبابُ السيف على الباب، وقامت في وجوههم فَذَبَّتُهُمْ، ونادت قومها فمنعوه لها، فلما قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ظَنَّتْ أنه أخوه، فأتته بالمدينة وقد عرف عُمرُ القصة فَقَالَ: إني لستُ بأخيه إلاَ في الإسلام، وهو غَازٍ، وقد عرفنا مِنَّتَكِ عليه فأعطاها على أنها ابنةُ سبيل.
أَوْفَى مِنْ أبِي حَنْبَلٍ:
هو أبو حَنْبل الطائي ومن حديثه أن امرأ القَيْس نزل به ومعه أهلُه وماله وسلاَحُه، ولأبي حنبل امرأتان: جَدَلِيَّة، وتَغْلَبيَّة، فَقَالَت الجدلية، رزقٌ أتاك الله به، ولاَ ذِمَّةَ له عليك، ولاَ عقْد، ولاَ جِوَار، فأرى لك أن تأكله ( معه إبل ونوق) وتطعمه قومك، وقَالَت التغلبية: رجل تَحَرَّمَ بك واستجارك واختارك، فأرى لك أن تحفظه وتَفِىَ له، فقام أبو حنبل إلى جَذَعَة من الغنم فاحتَلَبَها وشرب لبنها ثم مسح بطنه وحجَل فَقَالَت الجَدَلية وقد رأت ساقيه حَمِشَتَيْنِ: تالله ما رأيت كاليوم سَاقِي وَافٍ، فَقَالَ أبو حنبل: هما سَاقَا غادِرِ شر، فذهبت مثلاً.
أَوْفَى مِنَ الحَارِثِ بنْ عُبَاد:
يُقَال: إنه كان أسَرَ عديَّ بن ربيعة في يوم قِضَّةَ، ولم يعرفه، فَقَالَ له: دُلَّنِي على عَدِيِّ بن ربيعة، فَقَالَ له: إن أنا دَلَلْتُكَ على عَديٍّ أتؤمنني؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فليضمن ذلك عليك عَوْفُ بن مُحلم، فأمره الحارث بن عباد فضمن له عوف أن يؤمنه الحارث إذا دَلَّه على عَدِيٍّ، فَقَالَ عدي: أنا عدي، فخَّلاَه.
أَوْفَى مَنْ خُمَاعَةَ:
هي خُمَاعة بنت عَوْف بن محلم التي أجارت مَرْوَانَ القَرَظِ، وقد مر ذكرها.
أَوْفَى مِنْ فُكَيْهَةَ:
هي امرأة من بني قَيْس بن ثعلبة قَالَ حمزة: هي فُكَيهة بنت قَتَادة بن مَشْنوء خالة طَرَفَةَ وكان من وفائها أن السُّلَيك بن سُلَكة غزا بَكْر بن وائل، فأبطأ ولم يجد غَفْلة يلتمسها، فرأي القوم أثَرَ قَدم على الماء لم يعرفوها، فكمَنُوا له وأمهلوه حتى وَرَدَ وشرب فامتلأَ، فهاجوا به، فعدا، فأثقله بطنه، فولَجَ قُبَّةَ فكيهة، فاستجارها فأدخلته تحت درعها، فجاؤوا في أثره فوجدوه تحت ثوبها، فانتزعوا خَمَارَهَا، فنادت إخْوتها وولدها، فجاؤوا عشرة، فمنعتهم عنه، وكان سُلَيْك قد قال قولا يذكر بالمشهد الأول من فلم الطبل الصفيح.
هؤلاء ثمانية من العرب ضرب فيهم المثل بالوفاء، وهم ليسوا بأخلاء، وقد وفوا لغرباء، ومنهم أوفياء جرت بهم أمثال أخرى، لكن في صياغات أخرى: مثل إِنّ غَداً لنَاظِرِهِ قَرِيبُ وهي قصة وفاء، وقصة النمري الذي قيل فيه مثل: اسق أخاك النمري، وقصة: رُبَّ عَجَلَةٍ تَهَبُ رَيْثاً، وقصص لحاتم طي عندما استثأر حتى يفدي رجلا استجار به، وهم جميعا من أيام الجاهلية سوى أم جميل التي بلغت الإسلام، ومنهم البختري بن هشام وكان ممن قام بنقض الصحيفة، فلقيه المجذر البلوي في بدر وردفه زميل له، فَقَالَ المجَذَّر لِأَبِي البَخْتري: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نَهَانَا عَنْ قَتْلِكَ، فقال وزميلي: فَقَالَ لَهُ الْمُجَذَّرُ: لَا وَاَللَّهِ، مَا نَحْنُ بِتَارِكِي زميلك. مَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بِكَ وَحْدَكَ؟ فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ، إذَنْ لَأَمُوتَنَّ أَنَا وَهُوَ جَمِيعًا، لَا تَتَحَدَّثُ عَنِّي نساءُ مَكَّةَ أَنِّي تَرَكْتُ زَمِيلِي حِرْصًا عَلَى الْحَيَاةِ، أما في الإسلام فهم بالآلاف ويعدون عن الحصر.