الكتاب: "عبد الناصر مثقفًا"
المؤلف: أحمد بهاء الدين شعبان
الناشر: دار نشر أنباء روسيا، القاهرة، 2018.
بمناسبة مرور قرن على ميلاد
جمال عبد الناصر، أقدم الباحث والمناضل اليساري
المصري المرموق، أحمد بهاء الدين شعبان، على إصدار هذا الكتاب، عن وجه مجهول من عبد الناصر، وهو الوجه الثقافي؛ وإن رأى المؤلف بأن البعد الثقافي "طبع شخص، وعهد الرئيس جمال عبد الناصر، بطابعه الغالب... حيث منحنا العمق الفكري لعبد الناصر، وتراكماته الإيجابية، ما دفع عبد الناصر إلى تأسيس ركائز المنظومة الثقافية المصرية الحديثة... كما شهد عصره ازدهارًا للكتاب، وفنون المسرح، والسينما، والإذاعة، والتلفزيون". ولم يفت المؤلف أن يشير إلى العوائق في هذا المجال، مثل "سطوة الجهاز البيروقراطي، ومشكلات (أهل الثقة)، وما ترتب عليهما". (5 ـ 6).
ما جعل هذا الكتاب يلقي "أضواء أولية على دور الثقافة في تكوين شخصيته عبد الناصر الفريدة، في تفاعلها مع نشأته، ودراسته، المدنية والعسكرية، كما تلمح إلى دوره في نشر التعليم المجاني، وانحيازه لأن ينشر المنتج الثقافي لمحدودي الدخل؛ باعتبارهما مدخلان لتحرير الشخصية المصرية من قيود الماضي"؛ ما أزعج بعض الوزراء، ودفعهم للقول: "إن ازدياد ثقافة الرئيس ليس من مصلحتنا في شيء!" (ص 11 ـ 19).
لم تفت شعبان "الثغرات التي صادفته (عبد الناصر) وصادفت الوطن، في هذه المسيرة؛ ومنها الصدام بين نظامه، وبين قطاع من المثقفين الوطنيين، من المفكرين الاشتراكيين. هذا الصدام المأساوي، الذي خسر فيه الطرفان الكثير، وخسرت مصر، ولم يستفد منه إلا أعداء البلاد، في الأول والأخير. وإن كان طرفا هذا الصدام قد سعيا لتدارك هذا الوضع، بعد ذلك"، أي بعد خراب مالطا! إن جاز التعبير عن الهزيمة العربية المدوِّية في 1967، وتداعياتها الكارثية.
شارك الطالب عبد الناصر في المظاهرات الوطنية، التي اجتاحت مصر، أواسط ثلاثينيات القرن الماضي، متأثرًا بحزب "مصر الفتاة" المتبني للمظاهر الفاشية.
لم يكن غريبًا أن يُقبل هذا الطالب على القراءة، بنهم، ويشارك في تحرير مجلة مدرسته، ما أجَّج رغبة هذا الطالب في الالتحاق بالكلية الحربية المصرية، كما تأثر في شبابه، برواية توفيق الحكيم "عودة الروح، التى رأى فيها نموذج الوحدة الوطنية، فضلًا عن حث الرواية مصر للعودة إلى دورها في الحضارة، من جديد.
التحق عبد الناصر، بالكلية الحربية، العام 1936، فنهل من مكتبتها الغنية، ومنها قرأ كتبًا عن كمال أتاتورك، وبونابارت، والإسكندر، وبسمارك، وغاريبالدي. فضلًا عن جغرافية الامبراطورية العسكرية، وحملة فسطينى (1916 ـ 1919). وتملكت عبد الناصر، منذئذ "فكرة التوحُّد"، بين الشعب والقائد؛ فكل هذه الكتب تُعلى من صفات البطولة الفردية. حتى حين وصل عيد الناصر إلى قمة السلطة، فإنه لم ينقطع عن القراءة، وكان حريصًا، أشد الحرص، على تثقيف نفسه، وتثقيف الضباط من حوله. (ص 11 ـ 16).
إلى عشق عبد الناصر للسينما، والمسرح، والموسيقى، وعروض الأوبرا. ووصل به الأمر أنه بعد أن قرَّر نفي خالد محيي الين إلى الخارج، لدوره في "هبة مارس 1954"، لأن يُرسل إلى عبد الناصر كل ما يعتقد أنه مفيد، من كتب، ومجلات، على ما جاء في مذكرات محيي الدين. وكان هناك جهاز خاص مهمته أن يلخِّص لعبد الناصر الكتب الهامة، وأن يترجم له العديد من الكتب، والمجلات، والصحف. حتى ازدادت قناعته، بأن مفتاح تطوير مصر يكمن في تغيير ثقافة الشعب؛ عبر إحداث ثورة في التعليم العام، واستحداث المؤسسات الثقافية، وعلى رأسها وزارة الثقافة (ص 17 ـ 23).
رأى شعبان بأنه على الرغم من الصبغة التقدمية للسياسة الرسمية، فإن علاقة عبد الناصر بقطاع من المثففين المصريين، شهدت فترات من الأزمات.
في اعتقادي أن عبد الناصر، انطلاقًا من حرصه على استمرار غياب الديمقراطية، كان يمقت المثقفين الحزبيين؛ يساريين، وإسلاميين، وقوميين. "ولما حدث انهيار حزيران (يونيو) 1967، ثبت أن خطأ جسيمًا قد ارتكبناه في حق ثقافتنا، وقدرتنا على التفكير والنقد، والمصارحة!" بكلمات الكاتب السياسي، والروائي المصري المرموق، فتحي غانم، الذي لم يجد مفرًا من الانتماء إلى "التنظيم الطليعي"، الذي أسسه عبد الناصر، أواسط ستينيات القرن الماضي!
على أن تلك الهزيمة لم تُفقد عبد الناصر تجريبيته، وانتقائيته، وتمسكة باستمرار غياب الديمقراطية، وإن كان أنصاره يؤكدون بأنه كان ينوي إقامة حزب جديد، يضع على رأسه عبد اللطيف البغدادي!
مع ذلك، عانت الثقافة من محنة شرسة، بعد غياب عبد الناصر.
***
حمل الفصل الثاني عنوان: "وهم الليبراية وعصرها الذهبي قبل 23 يوليو 1952". وهنا أختلف مع المؤلف الذي أكَّد أن العهد الملكي المصري لم يكن ليبراليًا، وإن كان الصحيح أنه ليس ليبراليًا نموذجيًا، وأن فترات قطعته اتَّسمت بالإستبداد على أيدي طغاة، أمثال: إسماعيل صِدقس، وأحمد زيور، ومحمد محمد (اليد الحديدية)، وأحمد ماهر، ومحمود فهمي النقراشي، وإبراهيم عبد الهادي، وإن اتسمت سنوات حكم الوفد بليبرالية مؤكدة.
***
في الفصل الثالث تحدث المؤلف عن "عبد الناصر واليسار"، مع عنوان ثانوي: " الشروخ الكارثية في معسكر الثقافة الاشتراكية"؛ مبتدئًا بالضربات التي وجهتها أجهزة الأمن المصرية، زمن الملكية، بينما لم يواجه اليسار، اقتلاعًا قاسيا، كما حدث على يدي عبد الناصر، بعد ضربه "الوفد"، و"الإخوان". بينما كان عبد الناصر تعاون مع الشيوعيين، قبل 23 تموز/ يوليو 1952، فأخفوا مطبعة "الضباط الأحرار"، وكتبوا، وطبعوا، كل منشوراتهم. وكانت مكافــأهتم باعتقال اليساريين الثلاثة، الذين تحملوا إخفاء تلك المطبعة، وطباعة منشورات "الضباط الأحرار" عليها، قبل أن يقوم أحد الثلاثة (مالكون مالكونيان) بتسليمها لعضو يلتقي به، تحت كوبري الجيزة، ويحمل إسمًا حركًا هو "موريس، الذي لم يكن إلا عبد الناصر. الذي حرص على ضبط المطبعة، والعاملين فيها، والحكم علة كل منهم يخمس سنوات مشدَّده. خاصة بعد أن شدد عليهم عبد الناصر، عبر وسيط، ألا يكشفوا للمحكمة بأنها مطبعة "الضباط الأحرار"، مقابل أن يفرج عنهم، فورًا. الأمر الذي لم يحدث.
حين رفض الشيوعيون، خريف 1959، الانصهار في "الاتحاد القومي، الذي نقله عبد الناصر عن دكتاتور البرتغال الشهير، سالازار، توعدهم السادات بمصير يفوق مصير الإخوان، وقد نفَّذ االنظام الناصري وعيده، بعد بضعة أسابيع فحسب! وإن كان هذا النظام استراح للتعامل مع "‘إخوان" ، و"شيوعيين"، بعد أن غادروا تنظيماتهم، فأصبحوا مهيأيين لخدمة مشروع عبد الناصر، الذي تنقل من "الوطنية"، إلى "القومية"، فـ "الاشتراكية. مع حرص عبد الناصر الشديد، في كل هذه المراحل، على تغييب الديمقراطية! الأمر نفسه فعله عبد الناصر مع الإخوان، حيث طلب إلى مرشدهم، مساعده في حراسة أعضاء الإخوان للجسور، والكباري، خشية هجوم القوات البريطانية لإحباط "حركة الجيش المباركة". وقد كان، وإن تلقت الإخوان"جزاء سنمار!
***
أعطى المؤلف فصله الرابع عنوان "التوظيف المتبادل: (عبد الناصر) و(الطليعة)، والأخيرة هي المجلة الشهرية، التي متحها عبد الناصر للقيادات الشيوعية، مقابل حل منظماتها (1965)، وإن أدت هذه المجلة دورًا لا يمكن إنكاره في نشر الفكر الإشتراكي، بعد أن كان مقص الرقيب يؤدي وظيفته إياها! وفي هذا الصدد، اعتد المؤلف على الدراسة الضافية، التي أنجزها د.أحمد صلاح الملا، وهي أطروحة دكتوراة، حملت عنوان "اليسار المصري بين عبد الناصر والسادات: مجلة (الطليعة)". وعلى الرغم من ناصرية الملا، فإنه لم يوفِّر تلك القيادات من انقاداته القوية. ورأى الملا في تلك المجلة محاولةً من عبد الناصر لاحتوار اليسار، مقابل محاولة اليساريين تطوير النظام الناصري؛ الأمر الذي استعصى، لاستحالة الدفع يسارًا من داخل النظام؛ ذلك أن "الأمر كان أعقد من ذلك؛ كان خليطًا من الإقناع والقسر معًا" (ص 72).
***
ختم شعبان كتابه الممتع، بقصل خامس، حمل عنوان "المثقف العربي والسلطة"، وفيه ألقى المؤلِّف حِزمة من الأضواء على تجربة السجن، في أدب الروائي اليساري الأردني المبدع غالب هلسا، الذي عانى في بلاده، وتكررت معاناته في مصر الناصرية، بينما أقدم نظام السادا ت على إبعاده من مصر، لمجرد أنه أدار ندوة، نظمها "الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين ـ فرع مصر العربية"، تحت عنوان "الأطماع الأميركية في الوطن العربي"، خريف 1976.
إننا حيال كتاب صغير لا يتعدى المئة وعشر صفحات من القطع الصغير، لكنه مثير للمناقشة، اتفاقًا، واختلافًا، حول عبد الناصر؛ الذي أحبه بعضنا لمواقفه الراديكالية ضد الاستعمار، ولانحيازه إلى الطبقات الشعبية في مصر، بينما أخذ عليه بعض آخر، نفوره من الديمقراطية؛ ما أهدر إنجازاته، وأورثنا السادات، بالنكبات التي ألحقها بالوطن والأمة.
هنا نحن أمام مجموعة تعلي استقلال الوطن على حرية المواطن، والعكس. ولا يزال الحوار مستمرًا.