تثور نقاشات على وسائل التواصل الاجتماعي، وغيرها من الوسائل الحديثة، حول قضايا تتعلق بعلاقة المرأة والرجل، وخاصة العلاقة الزوجية، وما بينهما من حقوق وواجبات، ويزداد الخلاف حول هذه الحقوق، ويتمسك كل صاحب رأي برأيه، والمشكلة حينما يدخل بعض المشايخ والدعاة على خط النقاش، فيتم السؤال ـ مثلا ـ عن حق الرجل في جماع الزوجة وقتما يشاء، وإذا امتنعت فهي تبات تلعنها الملائكة، أو الحديث عن خدمة الزوجة للزوج، أو لأهل الزوج، وقضايا أخرى كثيرة تتعلق بمساحة الحقوق والواجبات بين الزوجين، أو بين الرجل والمرأة بوجه عام.
فتجد من يتحدث عن لعن المرأة الرافضة لحق الزوج الجنسي، وأنه لماذا لا يراعى ظروفها النفسية؟ وهو كلام يراعيه التشريع الإسلامي بالفعل، والذي يسقط عن المرأة الحائض والنفساء العبادة، ويحرم فيهما الجماع، وذلك مراعاة لحالة المرأة الصحية آنذاك.
أو النقاش حول خدمة المرأة للزوج أو لأهل الزوج، فينبري من يجعله غير ملزم، مستدلا بأن الفقهاء قالوا كذا، وينبري آخر للرد عليه بأن العرف هو الحكم، بدليل أن السيدة فاطمة رضي الله عنها شكت لرسول الله صلى الله عليه وسلم من خدمة زوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فدلها على استغفار يعينها، ولم يلزمه بجلب خادم، وهكذا يستدل كل فريق برأيه الفقهي بمن قال من الفقهاء.
وهذا النقاش وبخاصة من بعض المشايخ والدعاة ينطوي على مغالطة وخطأ يقعون فيه، فمثل هذه القضايا التي لها شقان: شق قانوني حقوقي، وشق قيمي أخلاقي، وهو ما ينطبق على كل ما يتعلق بالعلاقة بين الزوجين، ومن الخطأ اللجوء لكلام الفقهاء المعبر عن فهمهم للنصوص، بينما الأصل في مثل هذه القضايا أن نرجع أولا لكلام الشريعة: القرآن والسنة، ثم بعد ذلك ننظر في كلام الفقهاء الموجود في كتب الفقه.
فكتب الفقه التي يلجأ إليها من يستدل لقضايا الحقوق بين الجنسين، هي كتب أشبه بكتب القانون، فهي تهتم بالجانب القانوني، بجانب الصحة والفساد، فكتب الفقه تهتم بالصلاة من حيث صحتها، من حيث فرائضها ومبطلاتها، لكنها لا تهتم وتناقش الخشوع في الصلاة، وهو روح الصلاة، ذلك أن الفقه تحول لمصطلح له فهم وتعريف محدد، غير مصطلح الفقه في القرآن والسنة، ولذا نحا إلى مناقشة الجانب القانوني الإجرائي، أكثر من الجانب القيمي، بعد أن انقسمت العلوم لفقه، وتزكية، وحديث، وهكذا، وحاول الإمام الغزالي معالجة ذلك بكتابه (إحياء علوم الدين).
كتب الفقه تنظر للزواج على أنه عقد، لأن كتب الفقه كانت المرجع للقاضي عندما يختصم الزوجان، فهي أشبه بمدونة قانونية، يحتكم كل قاض فيها حسب مذهبه بمراجع المذهب، لكن الحياة العامة وخلافات الأزواج لا يذهبون للقاضي في بادئ الأمر، بل يذهبون للعالم في المسجد ليحل لهم المشكلة، تارة بالفقه، وتارة بالوعظ والدعوة، وتارة بالإصلاح الاجتماعي، وكله من معين الشريعة.
الزواج عقد له شقان قانوني وأخلاقي قيمي، والقرآن الكريم في حديثه عن الزواج وغيره من العلاقات راعى كل هذه الجوانب معا، ففي الزواج قال في مجال الحقوق والواجبات بنص واضح يعد معيارا في العلاقة بين الزوجين
وعندما تصل الأمور إلى باب مسدود، يلجأ الزوجان للتحكيم العرفي، وهنا يتدخل هؤلاء بالتحكيم بعيدا عن الحكم القانوني، فإذا فشلوا، ينتهي الأمر باللجوء للقضاء، والقضاء لا ينظر في المبادئ والقيم، بل ينظر في العقد وما اشتمل عليه من حقوق وواجبات، لأن القاضي يريد شيئا يستطيع قياسه ومعرفته، ولذا قال الفقهاء في المرأة التي تزوجها رجل ولم يحدد لها مهرا، قالوا: تأخذ مهر المثل، أي مثلها في حالتها الاجتماعية عندما تتزوج كم تأخذ مهرا؟ لأنها حالة قانونية تتعلق بحق وواجب، ولا بد من أداة لقياس هذا الحق والواجب.
وهذه مهمة كتب الفقه في الغالب، ولذا من الخطأ الكبير استدعاء أقوال الفقهاء وكتب الفقه في نقاش يتعلق بشقين: القانوني والأخلاقي معا، لأنه سيكون اجتزاء لموقف الشريعة، وسيظن من يستدل أنه يحامي ويدافع عن الشرع، بينما في الحقيقة هو يدافع عن رأي فقهي قاله أحد الفقهاء فهما منه لنص، أو بناه على عرف، أو على حسب البناء الفقهي الذي اعتمده في الرأي الفقهي، والأولى في مثل هذه القضايا العودة إلى الأصول المعبرة عن الشريعة، لأننا لسنا في ساحة قضاء كي نستدعي أقوال الفقهاء، بل نحن في ساحة نقاش حول الإسلام والشريعة، وليس حول الجانب القانوني من الإسلام، والذي يعبر عنه كتب الفقهاء، وهي كتب عظيمة وجهد كبير، لكن الخطأ في استدعاء مواد للاستدلال ليست في مكانها المناسب في النقاش.
فالزواج عقد له شقان قانوني وأخلاقي قيمي، والقرآن الكريم في حديثه عن الزواج وغيره من العلاقات راعى كل هذه الجوانب معا، ففي الزواج قال في مجال الحقوق والواجبات بنص واضح يعد معيارا في العلاقة بين الزوجين فقال: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة) البقرة: 228، وقال: (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) البقرة: 187، فقد عبر الله عز وجل عن هذه العلاقة بعبارة (اللباس)، والذي وظيفته للإنسان: الستر، والدفء، والحماية، والجمال، واللصوق بالبدن، بما تعنيه كل هذه المفردات ماديا ومعنويا، والنظر إلى العلاقة في الجانب المادي فقط، هو إهمال للشرع ولأحكام الله سبحانه وتعالى، ويعد نظرا بعين عوراء للشريعة.
ولذلك كان المرحوم الفقيه الدكتور محمد كمال إمام يسمي كتب الفقه المعروفة التي تكتب الفقه بجميع أبوابه سواء على مذهب معين أم مقارنا، بأنه الفقه الساكن، ويسمي كتب الفتاوى: الفقه المتحرك، لأن الفتاوى حية متحركة ومتجددة تعبر عن فكر كل جيل، وعن احتياجاته واجتهاداته، ومثله في المجال القضائي والقانوني: كتب القانون، وكتب أحكام المحاكم المختلفة، فتجد كتابا يشرح القانون المدني، هذا هو القانون الساكن، أما المتحرك منه، فهو كتب القضايا التي صدرت عن محكمة ما، فهذا هو القانون المتحرك، والذي ينطلق منه القاضي، لينقسم القضاة إلى قاض حرفي، وقاض يعمل روح القانون.
ينسى بعض المشايخ والدعاة الذين يستشهدون بكلام بعض الفقهاء في مثل هذه النقاشات، والتي تتحدث فقط عن الجانب القانوني الحقوقي، مهملين الجانب القيمي والأخلاقي في العلاقة بين الجنسين، وبين كل الخلق، أنهم بهذا الاستشهاد يقدمون الإسلام كدين علماني، فهم يفصلون بين القانون والقيم والمبادئ التي لا تنفك عنه في الإسلام.
والفقيه الحقيقي هو من يجمع بحكمة وعلم وحنكة بين نصوص الشرع، وأقوال الفقهاء في ما لا يتعارض مع النصوص، ويختار منها ما يعبر عن الشريعة تعبيرا دقيقا لا يجعل الناس في فتنة من دينها، لتتضح الشريعة للناس وهي محكمة، واضحة بينة، لا تحابي طرفا على طرف، بل في تشريعها السكينة والطمأنينة، ووضع ميزان العدل بين الجميع.
Essamt74@hotmail.com