لا تزال تداعيات
الإعدامات التي شهدتها مصر مؤخرا مستمرة، وأصداؤها لم تتوقف منذ الإعلان عن تنفيذ الحكم في جميع المتهمين بالقضية المعروفة إعلاميا باقتحام قسم شرطة كرداسة، لتتوالى مشاهد الصدمة بالتزامن مع الصور التي تنقلها كاميرات الهواتف المحمولة لجنائز ضحايا تلك المجزرة، والتي تصل عادة مع السحور أو عند الفجر، حيث يحلو للأمن
الإفراج عن جثامينهم، من أجل مواراتهم الثرى في جنح الليل أو مع الساعات الأولى من الصباح.
إعدام 17 مواطنا من كرداسة - إحدى أكبر قرى محافظة الجيزة - لم يكن بالأمر الهين، فقد مثل الحدث اختبارا صعبا لصبر الأهالي، واستفزازا سافرا لمشاعر المواطنين، بعدما أصرت السلطات على تنفيذ الحكم خلال شهر رمضان، بالمخالفة لقانون الإجراءات الجنائية، الذي لا يجيز تنفيذ عقوبة الإعدام فى أيام الأعياد الرسمية أو الأعياد الخاصة بديانة المحكوم عليهم. ومعلوم للقاصي والداني ما يمثله رمضان لعموم المسلمين، ولا سيما
المصريين الذين يولون الشهر الفضيل أهمية بالغة تليق بما يحمله من خير وبركة.
لم تفلح آلة النظام الإعلامية الجبارة في الحصول على تأييد شعبي كبير لهذه الأحكام، فكانت وسائل التواصل الاجتماعي أقوى تأثيرا، نظرا للبعد الإنساني الذي صاحب هذه
الإعدامات، التي جرت لعدد من المشهود لهم بالصلاح وخدمة المجتمع، والإصرار على تنفيذ الحكم في حالات تخطت حاجز
السبعين والثمانين من العمر، لتزداد حالة
السخط الشعبي وينحسر دور الإعلام الموالي للنظام، ويقل تأثير الدراما الفاشية التي عملت على التسويق لهذا الفعل الإجرامي ومهدت لتنفيذه.
قد يصاب البعض بالحيرة عند محاولة تحليل دوافع السلطات المصرية وراء هذا الفعل المشين، لكن الرسالة التي أراد النظام إرسالها من خلال الإعدامات الأخيرة أنه ماض في طريقه دون الالتفات إلى مساعي التهدئة المزعومة، ليؤكد استمراره في سياسة الاستئصال، وعدم استعداده للتفاوض من أجل فك الاشتباك الحالي الذي جمد الحياة السياسية بمصر، رغم وجود شيء من التفاؤل الحذر الذي ظهرت بوادره خلال الفترة الماضية بعد التقارب التركي المصري، وكان يعول عليه البعض في الوصول إلى مواءمات قد تسمح بخروج بعض المعتقلين، أو على الأقل إعادة النظر في أحكام الإعدامات التي طالت طيفا واسعا من معارضي النظام منذ انقلاب يوليو 2013.
لا شك أن هذه الإعدامات، وغيرها من الأحكام الجائرة تفقد المصريين الثقة في النظام القضائي بأكمله، نظرا لما شاب إجراءات التقاضي من عوار قانوني بالغ، بعد منع المتهمين من مقابلة محاميهم، وإرغامهم على الإدلاء باعترافات تحت وطأة التعذيب، والاعتماد على تحريات الأمن في إصدار مثل هذه الأحكام بالغة القسوة رغم عدم وجود شهود إثبات، بالمخالفة لمواد قانون الإجراءات الجنائية، وما نص عليه القانون الدولي، الذي شدد على أن تُراعي الإجراءات القانونية في قضايا الإعدام معايير المحاكمة العادلة بدقة بالغة. ومع تكرار هذه الأحكام يصل المواطن في النهاية إلى قناعة راسخة بأن القضاء بات أداة في يد السلطة التنفيذية لمعاقبة المعارضين، أو من يرى فيهم شبهة المعارضة، ليتساوى الجالس أعلى المنصة ومن ورائه ميزان العدل مع المحقق الذي ينتزع الاعترافات بالتعذيب، وفرد النيابة الذي يصدر بيانات تجديد الحبس بالأمر المباشر.
المفارقة العجيبة أن هذه القسوة الشديدة التي يتعامل بها النظام المصري مع المعارضيين السياسيين، والتي تصل إلى حد سفك الدماء في رمضان، يقابلها تسامح مفرط مع البلطجية ومروجي المخدرات، والخارجين على القانون من أبناء جيل تربي على مسلسلات العنف والخلاعة وغسل الأدمغة، ليستفيق المجتمع من فترة لأخرى على جريمة تهز أركانه، وكان آخرها اغتصاب جماعي لفتاة معاقة ذهنيا في نهار رمضان، كنتاج طبيعي لهذا النبت الشيطاني، الذي ينمو ويترعرع برعاية صناع الدراما المدعومة من الأجهزة السيادية.
ألتمس العذر لكثير من أبناء الجيل الحالي، الذي عاصر عددا من الأحداث تنوء بحملها الجبال، فقد مثلت سياسة الصدمة التي اتبعها النظام المصري في رابعة وأخواتها لحظة فارقة جعلت ما دونها أهون، ويمكن تقبله أو التعايش معه على أقل تقدير، سوهي ذات السياسة التي انتهجتها الدولة العبرية في فلسطين، بعد كثرة الاعتداءات المصورة وتكرارها، وما تلا ذلك من مصائب في عدد من الأقطار العربية كسوريا، واليمن، وليبيا، حتى أصبحت مشاهد الدمار والدماء وأشلاء الضحايا أمرا عاديا، قد يصاحبه تعبير غاضب أو منشور تضامني على منصات التواصل الاجتماعي، وسرعان ما يتلاشى تأثيره بزوال الخبر من الشاشة، أو عند التحول إلى مصيبة أخرى أشد إيلاما وأقوى أثرا.