بلا شك.. لا أحد يدعي العصمة والكمال، فكل ابن آدم خطاء لكن خير الخطائين التوابون، ولقد حث الإسلام أبناءه على أن يتحلوا بحسن الحنكة والحس القيادي، خاصة لمن يتصدرون قيادة الناس.
مواقف لم يستثمرها الإخوان
اختلف منهج البنا عمن سبقه من المصلحين باعتماده المنهج التربوي ومتابعة أنصاره، ووضع هدفه بإيجاد الفرد المسلم والأسرة المسلمة حتى وحدة الأمم الإسلامية في كيان واحد.
وتطورت الجماعة مع مرور الزمن وأصبح لها أداة قوة وثقل في المجتمع المصري، وأصبحت منافسا لأقوى الأحزاب الموجودة آنذاك.. غير أنها لم تحسن استثمار بعض الفرص التي كان من الممكن أن تغير شكل الواقع السياسي في البلاد.
ومنها مثلا موقف عرض القضية المصرية على مجلس الأمن عام 1947م، حيث دعم الإخوان والشعب وزارة النقراشي في هذا الأمر، إلا أنه لم يحقق أي نجاح في هذا الملف وعاد بخفي حنين، بعدما استطاعت بريطانيا بدهائها خداعه بالاتفاق مع الدول الكبرى في عدم البت في قضية مصر وإعادتها إلى طاولة المفاوضات، حتى أن جريدة فيلادلفيا تربيبون في 25 أيار/ مايو 1947م وصفت الموقف كاملا(1).
بعدما عاد النقراشي عبر الزعماء والقادة عن مدى الإحباط الذي أصاب الجميع من موقف النقراشي، فيقول وهيب دوس بك عضو مجلس الشيوخ في جلسته المنعقدة يوم 13 كانون الثاني/ يناير 1948م: أما وقد ذهب وفد مصر إلى مجلس الأمن وعاد، فقد كان مفروضا أن الحكومة قد أعدت عدتها لمواجهة حالتي النجاح والفشل، وبقاء القضية معلقة في المجلس ليس هو النجاح الذي ذهب وفد مصر إلى ذلك المجلس من أجله(2).
كان بمقدرة الإخوان أن يشحذوا الناس لمطالبة النقراشي بعمل قوي يصحح الوضع ويلزم الوزارة بالتخلي عن تبلدها، وأن يقودوا البلاد إلى مقاومة المستعمر، أو يدفعوا الملك إلى إقالة الوزارة وتشكيل وزارة قوية أو قومية تقود الشعب للتحرر من المستعمر.
غير أن قرار تقسيم فلسطين عام 1947م شتت الإخوان، ونجحت بريطانيا بتشتيت جهدهم وجهد الشعب المصري عن قضية تحرير مصر.
ثورة يوليو وتوابعها
وموقف آخر أشد خطورة، حيث امتلك الإخوان فيه القوة والشارع والقوى الحزبية وفصائل من الجيش، لكن ضيعوا هذه الفرصة بحسن نواياهم وطيبة قلوبهم.
فقد استيقظ الشعب المصري يوم 23 تموز/ يوليو فوجد بيانا عسكريا بصوت السادات، يعلن فيه أن الجيش قام بعملية السيطرة من أجل التخلص من الفساد.
كان تضافر الجيش وبعض القوى المدنية - وعلى رأسهم الإخوان كما ورد في مذكرات الضباط الأحرار - سببا في تقبل الشعب لما حدث، آملين في التغيير للأفضل.
منذ ذلك اليوم، دخل الإخوان في صراع نفسي بين بعضهم بعضا - خاصة قيادة الجماعة - وصلت للتحزب وخروج قرارات وتصرفات لم يتفق عليها الجميع، سواء بمكتب الإرشاد أو الهيئة التأسيسية، حتى إن كثيرا منهم كان يظن بالعسكر خيرا، حتى تفاجأ الجميع في كانون الثاني/ يناير 1954م بقرار حل الجماعة، تبعه اعتقال المرشد العام المستشار حسن الهضيبي وكثير من قيادات الجماعة.
وزاد الأمر تخبطا حينما أصدر مجلس قيادة الثورة قرارا بإعفاء محمد نجيب من كل مهامه، حتى حدثت أزمة آذار/ مارس 1954 بين ناصر ونجيب(3).
فيذكر عبد اللطيف البغدادي وخالد محيي الدين في مذكرتهما: خلال الشهور التالية نجح عبد الناصر بالاشتراك مع عبدالحكيم عامر في تكوين مجموعات من الأعوان والموالين لهم في مختلف أسلحة الجيش، وقد قامت هذه المجموعات بأخطر الأدوار في أزمة آذار/ مارس 5419، إذ قاومت كل قرار يهدف إلى حل مجلس الثورة، أو إعادة الدستور والحريات والحياة النيابية إلي البلاد(4).
بداية الأزمة
شعر نجيب بمحاولة بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة ومنهم عبد الناصر تهميشه، بالإضافة لما ذكره في مذكراته من استغلال النفوذ وسحب أموال الدولة وبعثرتها كمصاريف سرية وصرفها دون حساب، فاستقال يوم 23 شباط/ فبراير من كل مناصبه، ليضع مجلس قيادة الثورة والبلاد في أزمة.
قبل مجلس الثورة عدة استقالته يوم 25 شباط/ فبراير وتعيين عبد الناصر رئيسا لمجلس الوزراء ورئيسا لمجلس قيادة الثورة، غير أن ضباط سلاح الفرسان لم يقبلوا بهذا الوضع، واجتمعوا بعبد الناصر الذي بدوره اجتمع بمجلس قيادة الثورة، واتخذوا قرار عودة محمد نجيب مرة أخرى لمنصبه واستقالة مجلس قيادة الثورة وعودة الجيش لثكناته.
إلا أن الضباط الموالين لناصر وعامر رفضوا هذا الأمر، وأصروا على استكمال مجلس قيادة الثورة مهمته ورفض قرارات شباط/ فبراير 1954م.
عمت المظاهرات شوارع القاهرة اعتراضا على تنحية نجيب، كما عمت المظاهرات شوارع الخرطوم وبعض المدن السودانية، وتأزم الوضع في الجيش مرة أخرى، خاصة بعد اعتقال عدد من ضباط الفرسان من داخل مقر القيادة العامة، وأوشكت البلاد على حرب أهلية، مما دفع عبد الناصر ورفاقه بالتراجع عن قرارتهم وإعادة نجيب لمنصبه، إلا أن نجيب أضاع الفرصة مرة ثانية، كما أضاع أنصاره من ضباط الفرسان(5).
مظاهرات مارس والإخوان
يصف المشهد الأستاذ صالح أبو رقيق بقوله: في أواخر عام 1953 اشتد الخلاف بين الإخوان وعبد الناصر. كان الإخوان يطالبون بعودة الحياة الديمقراطية للبلاد وتحديد موعد لإعلان الدستور. حاول عبد الناصر أن يستقطب بعض أعضاء مكتب الإرشاد للوقوف ضد المرشد حسن الهضيبي، وعندما فشل أصدر مجلس الثورة قرارا في 12 كانون الثاني/ يناير 1954 بحل جماعة الإخوان المسلمين. كما عمد إلى إثارة الفرقة بين صفوف الإخوان خاصة قادتها، ونجح في تصدير الأزمات لهم، فكان هجوم بعض أفراد النظام الخاص على منزل المرشد العام، واحتلال البعض المركز العام، ثم فصل عدد من قادة الإخوان كصالح عشماوي ومحمد الغزالي وغيرهم، في صورة توضح الأزمة.
ومع ذلك ،سنحت الفرصة للإخوان والقوى المدنية من الضغط على العسكر بالعودة إلى ثكناتهم مرة أخرى، وترك الأمر للشعب يختار من يقوده، وذلك في أثناء مظاهرات آذار/ مارس 1954م التي امتلأت بهم بعض الميادين، خاصة ميدان عابدين.
إلا أن الإخوان سقطوا في الفخ، وتعاملوا بحسن النية، وبطريقة لا تنم عن فهم اللعبة السياسية والواقع، وهي أيضا الطريقة نفسها التي وقع فيها محمد نجيب مما دل على عدم حنكته بالسياسة.
فما إن تجمع المتظاهرون في الميادين، حتى ارتبكت حسابات عبد الناصر وأثر التأخر خطوة حتى تهدأ العاصفة، وهي الطريقة التي خدعت الإخوان ونجيب، والتي كانت لديهم المقدرة لتغيير الواقع ودفع الشعب للتمسك بمطالب الديمقراطية، وانتهى الأمر بإشارة من الشهيد عبد القادر عودة للناس بالانصراف، التي دفع ثمنها بعد ذلك حياته، كما دفعت الجماعة الكثير الكثير من حياة أفرادها ووجودها.
كانت هذه المظاهرات كفيلة بإعادة نجيب والجيش لثكناته، بل والقضاء على تطلعات عبد الناصر للسيطرة على الحكم والبلاد، لكنها الفرصة التي لم يحسن أحد استثمارها إلا عبد الناصر، الذي ما إن سنحت له الفرصة حتى وجه ضربته القوية للإخوان ونجيب معا بعد حادثة المنشية في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 1954م، وزج بهم وأنصارهم في أتون المحنة والتعذيب، ودخل الشعب في أتون آخر لا يجرؤ أحد منهم على رفع صوته.. وضاعت الفرصة.
ما بعد ثورة يناير
ومثلما أهدروا فرصة عام 1954م، أهدر الإخوان والثوار والشعب الفرصة بعد نجاح ثورة 25 يناير وتنحية رأس النظام، إلا أن الجميع خدعوا بتنحيته وظن أن الواقع الوردي ينتظر البلاد، فسارع الجميع بمغادرة الميدان وتركوا الساحة للمجلس العسكري يعبث بالجميع ويزرع الشقاق والخلاف بين رفقاء الميدان، حتى عاد بدولته القديمة وأشد ضراوة من ذي قبل ليقضي على حلم الميدان، وتعود الدولة العسكرية بديكتاتوريتها واستبدادها، التي بعثت برسائل الرعب في محمد محمود وماسبيرو، استكملتها بمذبحة رابعة والنهضة عام 2013م، وضاعت الفرصة والحلم معا هنا أيضا.
__________
الهوامش:
(1) Address: 520 S. 16th Street Philadelphia 19146 United States :The Philadelphia Tribune 1947.
(2) محمود عبد الحليم، الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ، دار الدعوة، 1992م، 185.
(3) إبراهيم قاعود: الإخوان المسلمون في دائرة الحقيقة الغائبة، المختار الإسلامي للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1983.
(4) مذكرات عبد اللطيف البغدادي: الجزء الأول، المكتب المصري الحديث، 1974م.
(5) انظر: مذكرات عبد اللطيف بغدادي، المكتب المصري الحديث، جـ 1، الآن أتكلم، خالد محيي الدين، مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1992م، محمد نجيب: كلمتي للتاريخ، دار الكتاب الجامعي، 1980م، محمد نجيب: كنت رئيسا لمصر، المكتب المصري الحديث، 1984.
* صحفي مصري
معالم في الطريق.. معركة التعليم والتثقيف
السينما والمسرح في معركة الثورة