منذ انتهاء الحرب العالمية
الأولى والشعبُ الفلسطيني كان يرنو إلى تحقيقِ حلمهِ بإعلانِ "فلسطين"
دولة حرة مستقلة من النهر إلى البحر، ولكن نكبة 1948 كانت كالصدمة القاتلة لتئدَ
هذا الحلم وتُمزّق جسدَه إلى نصفين، متجرعا المرارة من هوانِ الأنظمة العربية
وتآمر معظمها عليه حتى يومنا هذا.
مسلسل طويل من المقاومة والحروب والتهجير
والمعاناة، نشأت على أثرها فصائل فلسطينية تتولد من رحم بعضها البعض، حتى وصلت في
عصرنا الحالي إلى أكثر من 15 فصيلا، كل منها يُنافس الآخر بالخطابات الرنانة التي
ينادي بتحرير الأرض والعودة والاستقلال، فيعود شعبنا ببارقة أمل يُهلل فيها بولادة
فصيل جديد لعله ينجح في ما فشل غيره، ولكن سرعان ما يتوسع الصراع الداخلي
الفلسطيني بتزايد الفصائل وتراشق الاتهامات لبعضها البعض، فتذوب الطموحات والآمال
بنصر وعودة ودولة ما زلنا نحلم بها منذ الحرب العالمية الأولى، حتى آل حالنا إلى
ما هو عليه الآن من تفرق وتشرذم.
وتحول حلم شعبنا وجُلّ طموحاته إلى إنهاء حالة
الانقسام بين الفصائل التي يدفع الشعب وحده ثمنها غاليا من الحصار والتجويع والأسر
والشتات، على أمل أن تعود الفصائل لتتوحد تحت مشروع وطني متفق عليه ضمن قيادة
وطنية فلسطينية جامعة للشعب، تمثل تطلعاته وتستعيد حقوقه وتحقق آماله ولا تخضع لأي
جهة كانت، تسير نحو تحقيق مشروعه الذي بدأته منذ ثوراته الأولى في العشرينيات
وأطّرته ضمن ميثاقيها القومي والوطني، وشُكّلت على أثرها منظمة التحرير الفلسطينية
لتكون أول هيئة رسمية جامعة للكل الفلسطيني، ترفع شعار الكفاح المسلح والمقاومة
المشروعة لتحرير الأرض من النهر إلى البحر.
ثم جاء من أدخل التعديلات تلو التعديلات على
الميثاقين وشوههما تشويها بشعا، لا سيما عبر سراديب أوسلو الكارثية، وحسب رؤيته
ورؤية فصيله دون استفتاء الشعب أو حتى موافقة الفصائل كلها عليه، وأدخل منظمة
التحرير الفلسطينية في غياهب الجب، لا نعرف منها إلا اسمها المعلق على جدران
زجاجية هشة، وفيها مكاتب شبه خاوية ينتظر من يجلس خلفها رواتبهم الشهرية دون أي
عمل وطني ولو بالبيانات. هذا حالها وحالُ حالِنا، فمن المسؤول عن تقزيم القضية
الفلسطينية وجعلها رهينة لفصيل وقائده أو حتى بضع فصائل منقسمة على أكفها؟
سنوات عجاف يتوسعُ فيها الاستيطان، ويتسارع
فيها تهويد مدينة القدس والتهجير القسري وهدم المنازل وحصار غزة وبقاء الأسرى في
سجون الاحتلال ضمن معاناة قاسية. وما زالت الفصائل تدور في حلبة الصراع مع بعضها
البعض، تتشدق دوما بأهمية الوحدة الوطنية وتحقيق المصالحة ومقاومة المحتل، وكل ما
يقدمونه لشعبهم بضع صور رقمية ملونة؛ الكل فيها سعيد ومبتسم، والشعب يملؤه الحزن
والأسى ما بين مصدق مضطر حالم بصبره، ومكذب يعلم زيف أقوالهم وفساد قلوبهم.
ونتيجة لكل هذا وغوص الجميع في مستنقع ممتد لا
أفق له، وشعب على وشك أن يثور في وجه الجميع، سارعت الفصائل وعلى رأسها حركة فتح
لتعلن توجهها لتحقيق المصالحة وتفاهمها مع بقية الفصائل وفي مقدمتهم حركة حماس،
وليعلن رئيس اللجنة التنفيذية "بصفته" السيد محمود عباس عقد انتخابات
فلسطينية تتضمن التشريعية في 22 أيار/ مايو، والرئاسية في 31 تموز/ يوليو،
واستكمال تشكيل المجلس الوطني في 31 آب/ أغسطس.. استكمال وليس انتخاب المجلس
الوطني من جديد، أي تركيب الطبخة من جديد بما يوافق كبرى الفصائل وعلى رأسها السيد
محمود عباس، وليس لتشكيل مجلس وطني منتخب من الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج
بطرق حرة بعيدا عن المحاصصة والتعيينات كما كان يحدث سابقا.
وعاد شعبنا مرة أخرى مضطرا داعيا الله في علاه
أن تتكلل هذه المحاولات بالنجاح لتحقيق وحدة فلسطينية منشودة منذ أمد بعيد، ولكنه
يُضمر في قلبه خوفا من أن تعود نفس القيادات التي جاوز بعضها الثمانين من العمر،
وعلى رأسهم الرئيس محمود عباس (86 عاما).
وتستمر كارثة أوسلو في تثخين جراح شعبنا
وضياع أرضنا وبقية حقوقنا، وهذا ما بشرنا به رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية في
حواره مع التلفزيون العربي بقوله "إن الرئيس محمود عباس هو مرشح حركة التحرير
الوطني الفلسطيني "فتح" في انتخابات الرئاسة".. يا ليتك سكت ولم
تبشرنا بما هو موجع وقاتل لآمالنا.
كل هذا يسير ضمن اتفاقيات أوسلو وتحت سقفها
وسقف الاحتلال الإسرائيلي، وفي خضم ذلك لا تفتأ الفصائل الفلسطينية تسرع الخطى نحو
نيل بعض المقاعد في المجلس التشريعي الأوسلوي وهي تنادي بسقوط أوسلو، فأي تناقض
يستوعبه عقلنا في ذلك، وأي حل يرتجى منهم؟
وكان الأولى بالفصائل الثورية العودة إلى
الثوابت الفلسطينية التي يتشدقون بها دوما في خطاباتهم، ومن أهمها المجلس الوطني
الفلسطيني الذي كان سببا في إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، الوسيلة الشرعية
الجامعة للعمل الوطني والممثل العام للفصائل والشعب الفلسطيني.
والمطالبة الصريحة
أن بداية العمل والتعاون المشترك يتم عبر إحياء المجلس الوطني بأعضاء جدد، وقد مضى
أكثر من نصف أعضائه إلى بارئهم أو أعجزهم مرض الشيخوخة عن أداء أعمالهم، وفق
انتخابات حرة شاملة تتم في الداخل والخارج بعيدا عن الأعذار الواهية بصعوبة
ذلك ونحن نعيش ذروة العالم الرقمي وتشعب وسائله.
ولعلي أشير في ختام مقالي هذا إلى فئة وطنية،
أحترم تاريخها وأقدر إنجازاتها وثبات مواقفها، تجلس في زاوية المشهد أعلاه، وهي من
يطلق عليهم المستقلون، الذين كانوا لا يترددون دوما في المشاركة مع الفصائل
الفلسطينية في المشاريع والمؤتمرات الوطنية، وكتابة المقالات دون الانخراط
التنظيمي معهم، ويخاطبون الجماهير بلغة ثورية عالية بعيدا عن أي حسابات حزبية،
يصفق لهم الجميع بحرارة ويشيدون بجهودهم، لكنهم للأسف لا وزن لهم في المعادلة
السياسية، وتضعهم الفصائل عادة في قائمة الانتظار (Waiting List)؛ متى شاءت دعتهم وسلطت
الضوء عليهم وأجلستهم على مقاعد الصفوف الأولى، ومتى شاءت أعادتهم كما كانوا.
هذه
الفئة التي تمثل أكثر من 95 في المئة من الشعب الفلسطيني المستقل عليها ألاّ تبقى
في صالة الانتظار أو ضمن قائمة المتفرجين، تُعلّق على المشاهد فقط كلما شد
انتباهها حدث ما، فهل هي بانتظار نهاية الفيلم التي قد تكون أشد إيلاما مما سبق؟
لا أعتقد أن الوقت قد فاتهم لتحرك مشترك، يجمع
الشخصيات والجمعيات والمؤسسات الفلسطينية المستقلة وحتى روابط العائلات لإنشاء
هيكلية سياسية وطنية جامعة، حتى ولو بصيغة حزب سياسي.. تنادي بكل الثوابت
الفلسطينية وترفض كل ما يؤدي بنا إلى أوسلو جديدة ستكون أشد وطأة علينا لتنهي
القضية الفلسطينية.
إن الشعب الفلسطيني بأشد الحاجة لمبادرة جامعة ضمن هيكلية جديدة تعيد الأمل لشعبنا الفلسطيني عبر مشروع وطني يكون كما بدأ أول مرة، يُسقط كل الاتفاقيات الكارثية السابقة، ويرفع راية المقاومة المشروعة بكافة أشكالها، لا تنزل أبدا حتى يرفع علم دولة فلسطين، على أرض فلسطين كاملة.
أبو عاصف (البرغوثي): المناوب الوطني الأول
في ذكرى يوم الأرض: المرابطون على جبهة الوعي.. المقاومة الصميمة
سيدي عمر... والدرس العمري الأخير..