نسجل هذه الأيام جدلا اجتماعيا مفيدا في عدة مجتمعات عربية و مسلمة حول ضرورة تطوير قوانين الأسرة من أجل حماية المرأة وهي نصف المجتمع من مظاهر العنف والزواج القسري والحرمان من التعليم، وظاهرة الطموحات المشروعة لحماية المرأة من وطأة التقاليد البالية المغلوطة ظاهرة صحية ما لم تتجاوز حدود التوازن الحميد بين احترام الشريعة ومقتضيات العصر، لأن الأسرة هي اللبنة الأولى لبناء المجتمع.
أردوغان والأسرة المسلمة
وقد أثار في نفسي حديث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن الأسرة المسلمة أفكارا وقناعات تشغلني منذ عقود، فالرئيس التركي هو حاكم أول دولة مسلمة أنجز فيها مصطفى كمال أتاتورك منذ العشرينيات عملية التلاعب بجينات شعب كامل وتزييف تاريخه ومسخ هويته وتغيير كتابة لغته وتعويض لباسه التقليدي بالبدلة الإفرنجية والبرنيطة ومقاومة حجاب نسائه إلى درجة أن أكبر مناصر لأتاتورك وهو الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة (رحمهما الله) ندد في برلمان أنقرة بالغلو الأتاتوركي قائلا في آذار (مارس) 1965: "إن طمس هوية الشعب التركي موقف متطرف وخطأ يجب إعادة النظر فيه".
واليوم حين نسمع أردوغان نتأكد من أن الشعب التركي الذي انتخبه بصدد مراجعة التدليس التاريخي بجرأة ولكن بالتدريج ليعيد للمجتمع التركي أصوله المسلوبة وينتصر لهويته المنكوبة. وها هو الرجل عند وعده يبدأ بالقضية الأم، أي منزلة المرأة في المجتمع المسلم ورسالتها التي شرفها بها الله تعالى في الإنجاب والأمومة واحترام الزوج وقبول قوامته وحفظ كرامته وحماية الأسرة، لا التمرد على الفضائل والقيم باسم بهتان التشبه بالتجارب الغربية المتطرفة، أي أوهام المساواة الكاملة حتى ضد طبيعة المرأة والرجل التي خلقها الله تعالى فطرة لها حكمة. والخروج عن الفطرة مثلته بعض المتمردات على الإسلام نفسه وهو مثلا ما رددته السيدة نوال السعداوي للواتي يدعونها للمحاضرة في بعض الدول بعد أن شعر حتى وطنها مصر بأن أفكارها شاذة متطرفة!
حين نسمع أردوغان نتأكد من أن الشعب التركي الذي انتخبه بصدد مراجعة التدليس التاريخي بجرأة ولكن بالتدريج ليعيد للمجتمع التركي أصوله المسلوبة وينتصر لهويته المنكوبة.
فهذه الدعوة للمساواة الوهمية هي في الحقيقة دعوة راديكالية للإخلال بالتوازن العائلي أي إلى إيجاد مناخ حرب أسرية داخلية في كل بيت! وهو ما تخلت عنه النساء الغربيات أنفسهن لأنهن أدركن أنها دعوة باطلة واكتشفن أن الحقيقة هي في الإقرار بالعدالة الفطرية الأخلاقية الربانية بين الرجل والمرأة لا إقامة مجتمع تتشبه الأنثى فيه بالذكر أو العكس.
كما أثار أردوغان (وقبله وزير الصحة التونسي د.محمد صالح بن عمار) مأساة الإجهاض بلا ضوابط قائلين كل على حدة أنه إذا مورس بوحشية فهو جريمة قتل بترخيص (ومع الأسف في بعض المجتمعات العربية والإفريقية لم تقع مراجعة قانونية لهذه الانحرافات المستوردة التي ترتكب بكل حرية بل بكل تهور فحاشا الحرية).
نفاق شائع
وهل أنا في حاجة إلى كشف النفاق الشائع والمعضلات المسكوت عنها في حين تعج محاكم هذه المجتمعات يوميا بمئات الآلاف من قضايا الطلاق والحضانة والنفقة المطروحة بالسنوات أحيانا أمام السادة القضاة، الذين رغم جهودهم الجبارة يستحيل عليهم أن يبتوا فيها في إبانها نظرا لكونها تتجاوز طاقة المحاكم.
وتفضلوا بحضور جلسات الأحوال الشخصية في أي محكمة فهي علنية لتكتشفوا آلاف الضحايا من النساء والأطفال والأزواج وما برامج المشاكل الأسرية التلفزيونية سوى عرض عينات صغيرة من الفضائح اليومية وكل ذلك يجري في مجتمعاتنا المحافظة باسم ما يسمى زورا بتحرير المرأة (تحريرها ممن؟)
ثم ما رأي النخبة الحداثية في المناظرة التي أجرتها الشركة الأمريكية الفرنسية (هوت شوت) في أحد فنادق بلاد عربية لانتداب شباب عربي عاطل من ذكور وإناث…. للتمثيل في الأفلام الخليعة فهل يدخل هذا في إطار حرية المرأة؟
نقل قوانين دول مسيحية لديها عادات وأعراف خاصة بها إلى مجتمعات العالم الإسلامي هو عملية إلغاء أفضل وأعرق وأقدس ما لدى شريعتنا من قيم خالدة.
والعجيب أن أحزابا تحمل شعار الإسلام تصدر بيانات تؤيد فيها علنا مظاهر التفسخ من أجل إعجاب الناخبين الشباب المغرورين، ولم يصدر واحد من هذه الأحزاب بيانا (على حد علمي) يندد فيه بـ (كاستينغ) الأفلام الإباحية وانتداب حفيدات شهيرات الشهيدات المسلمات ورائدات الإصلاح الاجتماعي المسلم…. لتمثيل أدوار الدعارة في شركة أمريكية فرنسية… صرح مديرها المحلي أن شركته لبت دعوة السلطات وجاءت تستثمر في دول عربية وتساهم في تشغيل شبابها!!!
يا للهول كما كان يقول فقيد المسرح العربي يوسف وهبي رحمة الله عليه. منذ أن وعيت بمشاكل المجتمع الذي ولدت ونشأت فيه أدركت أن هناك تناقضات صارخة تؤكد لي.. ولكل راصد أمين للتحولات الاجتماعية أن بعض المجتمعات العربية تشكو من خلل جوهري أو أساسي (مقارنة بالمجتمعات المسلمة الأخرى التي تعاني خللا عارضا أو طارئا أو قابلا للاصلاح) وذلك لسبب موضوعي وهو أن نقل قوانين دول مسيحية لديها عادات وأعراف خاصة بها إلى مجتمعات العالم الإسلامي هو عملية إلغاء أفضل وأعرق وأقدس ما لدى شريعتنا من قيم خالدة.
ثم إن إحصاءات بريطانيا لسنة 2020 أكدت أن امرأة تقتل على يد زوجها أو عشيقها كل ثلاثة أيام، وفي فرنسا أكدت وزارة العدل أن امرأة تقتل لنفس الأسباب كل يومين (صحيفة التايمز هذا الأسبوع).
وأنا لا أتنكر لمكاسب بورقيبة الحقيقية في مجال حرية المرأة وإنشاء دولة حديثة وعملت معه لكن مراجعة القوانين القديمة ومراجعة التاريخ بالحقائق وحسب تطور المجتمع عمل ضروري اليوم لعدم تكرار الأخطاء، لأن الآثار السلبية ظهرت في هذه القوانين بعد أكثر من ستين عاما على سنها.. كما أني كنت من القلائل الذين قالوا كلمة الحق في حضرته وحضرة من جاء بعده إلى سدة الحكم وتحملت الاضطهاد في عهده وعهد من حكم بعده ولم أسكت عن الباطل كالشياطين الخرس!
علم اجتماع الفتوى وحاجتنا إليه
ربع قرن على وفاة الغزالي عدو الاستبداد والمستبدين