قضايا وآراء

كيف عادت فلسطين أم القضايا؟

الغرب يجد نفسه اليوم متورطا في منطق أمريكي قديم لبوش الابن نشأ مع حادثة 11 سبتمبر 2001 أي الخلط المبرمج بين حركات التحرر الوطني والإرهاب.. الأناضول
تتعاقب الدول الأوروبية على الاعتراف بدولة فلسطين الواحدة تلو الأخرى على خلفية مشاهد إبادة شعب من الأطفال والنساء وعلى خلفية حوالي 37 ألف شهيد منذ السابع من أكتوبر 2023 إلى اليوم من بينهم 15 ألف طفل من زهور فلسطين مع قوافل الشهداء من الحرائر والشيوخ والمعاقين! هي حرب إبادة جماعية انتقامية يشنها عنصري نازي من أجل إنقاذ نفسه من السجن والإدانة والأذى الذي ألحقه بشعبه قبل الشعوب الأخرى.

لكن في قلب هذه المحنة الدموية تكمن منحة ربانية بعد أن كادت تطمس قضية الاحتلال الغاشم لفلسطين منذ 1947 ويطبع العالم مع واقع مدلس فرضته عليه ماكينة إعلامية وسياسية ضخمة غسلت العقول وأجبرتها على القبول بالمظلمة التاريخية كقدر محتوم انصاعت له بعض الأنظمة الرسمية العربية صاغرة لولا بعض الرجال من ذوي الجرأة في الحق تصدوا للمحتل وكشفوه ووقفوا مع المقاوم وساندوه.. ولله رجال منهم قيادة قطر بما سخرته لخدمة قضيتنا المركزية من أموال وقنوات إعلامية ووساطات سياسية وجهود لإعادة إعمار ما دكته نيران النازية الجديدة!

ويتوج هذا المسار بحكم محكمة العدل الدولية بإصدار بطاقات إيقاف ضد ناتنياهو ووزير الحرب رغم أن المحكمة لم تفعل ذلك إلا بالمس من حماس!

وفي دوامة تفاقم الأزمات العربية وتحولها تدريجيا إلى حروب انجرفت إليها قوات أجنبية متنوعة الأصول مختلفة الأهداف متناقضة الغايات نكاد أن ننسى نحن العرب أن قضيتنا الأولى هي فلسطين التي تقهقرت وتراجع اهتمامنا بها إلى درجة أننا انصرفنا عنها إلى قضايا أخرى (معهد جالوب لسبر الآراء) توصل إلى أن المجتمعات العربية كانت تضع القضية في طليعة اهتماماتها السياسية منذ خمسة أعوام وتراجع الاهتمام عام 2022 إلى تصنيفها بعد ظاهرة الإرهاب وبعد تدهور القدرة الشرائية وبعد بطالة الشباب والهجرة الناتجة عنها وجاءت وزيرة الخارجية السويدية لتذكرنا بأن يأس الشعوب العربية من حل عادل هو الذي يدفع بشبابنا للتطرف والعنف.

ويأتي عالم مؤرخ فرنسي ليذكرنا بدوره وبأسلوب أكاديمي رفيع أن فلسطين هي حجر الزاوية لمعضلاتنا منذ أن بلغ انسداد حلها الخمسة والسبعين عاما ولا تزال. إنه الزميل الكبير الأستاذ الدكتور (هنري لورنس) الذي يعتبر في باريس وأوروبا والغرب من أكبر أساتذة الجامعة الفرنسية تخصصا وتعمقا في أسرار وألغاز الشرق الأوسط وهو الذي كرمته الدولة الفرنسية بتحميله مسؤولية كرسي الحضارة العربية في معهد (الكوليج دو فرانس) منذ عقد من الزمن وهو مؤلف أوسع الكتب التاريخية الأكاديمية انتشارا عن القضية الفلسطينية تم نقلها إلى اللغات الحية المعروفة وتعد مراجع أساسية في معرفة التاريخ العربي الحديث ومنعرجاته المعقدة منذ حملة نابليون بونابارت على مصر التي خصص لها الأستاذ لورنس أول أعماله حين كنا زملاء في قسم الحضارة العربية الإسلامية بجامعة السوربون الرابعة يشرف على رسائلنا لدكتوراه الدولة المستشرق الفاضل طيب الذكر (دومينيك شوفالييه).

وللأستاذ هنري لورانس كتب عديدة حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي منها ثلاثة في شكل أجزاء متكاملة، هي: اكتشاف الأرض المقدسة 1799 ـ 1922 والرسالة المقدسة للحضارة 1922 ـ 1947 والجزء الثالث الذي صدر منذ أيام بعنوان: استكمال الرسالات النبوية 1947 ـ 1967.

نحن العرب أدركنا منذ سبعين عاما أن أم القضايا العربية بل والإسلامية هي قضية فلسطين منها وإليها ينطلق ويعود كل مشروع عربي للنهضة والسلام مهما تكثفت السحب الدكناء اليوم عام 2024 فوق رؤوس العرب.. وإذا ما انجرفنا نحو القضايا الفرعية الهامشية وأهملنا الأصل فنحن ربما حققنا تخوفات الزعيم بورقيبة الذي قال في مارس 1965 بأن العرب سوف يفقدون فلسطين كما فقدوا الأندلس.
ولا يخفى على المتابعين للشأن الفلسطيني أن أعمال الأستاذ لورنس (المتزوج من سيدة لبنانية) لا تحظى بتعاطف الأوساط الإسرائيلية المناهضة للسلام والعدل والحق بل إن هذه الأوساط تحاول النيل من صاحبها ومن الرؤية الموضوعية التي يريد تقديمها عن مأساة شعب. وهو يواصل الكتابة عن القضية بنفس الروح العلمية العالية في شهرية (لوموند دبلوماتيك) وأسبوعية (لوفيجارو) وطبعا لم يحظ بعد وعلى مدى ثلاثين عاما من الكفاح من أجل الحق العربي ونصرة القضية الفلسطينية بأي دعوة من جامعاتنا العربية وأقسام التاريخ فيها ولا بالطبع من جامعة الدول العربية المنشغلة بما هو أهم! ولا من منظمة التعاون الإسلامي التي تحفل أجندتها بالأمور "الجدية" الأخرى.

كتب الأستاذ يقول: انقلابان أنجزهما الغرب ضد فلسطين! كان الانقلاب الأول عام 2001 مع الانتفاضة حينما شعرت إسرائيل بأن أبو عمار بدأ يدرك مخاطر اتفاقية أوسلو التي لم تنفذها إسرائيل وشرع الزعيم ينحاز لقضية شعبه بأمانة وهنا انقلب عليه الغرب المنحاز لرؤية إسرائيل ففرض عليه تعيين رئيس حكومة حتى يفرغ ياسر عرفات من كل سيطرة حقيقية على مؤسسات السلطة وهكذا أصبح أبو مازن هو رئيس الحكومة وتم بعد ذلك إبعاد أبو عمار تدريجيا إلى غاية وفاته في نوفمبر 2004.

وجاءت بعد ذلك الإساءة الغربية الثانية لفلسطين حين دعا المجتمع الدولي إلى انتخابات نزيهة في الضفة والقطاع واختار الشعب بأكثرية مريحة نوابا من الاتجاه الإسلامي للمجلس التشريعي واختار الغرب أبو مازن كخليفة لياسر عرفات لكن الانقلاب بدأ مع السلوك العقلاني للقيادة الفلسطينية عندما انصاعت حماس رغم شرعيتها إلى الحل الوفاقي حتى يرفع الغرب الحظر على لقمة عيش الفلسطينيين.

وبدأ ترجيح كفة فتح بصورة لا لبس فيها بالوسائل المعروفة وبالتنسيق مع تل أبيب وإشعال فتيل الصراع الأهلي الذي خطط لها طويلا في سلطة منهارة اقتصاديا ومحاصرة ماليا مقطوعة عنها حتى مستحقاتها من الضرائب والإعانات التي وقع عليها الغرب!

والنتيجة أن الغرب يجد نفسه اليوم مورطا في منطق أمريكي قديم لبوش الابن نشأ مع حادثة 11 سبتمبر 2001 أي الخلط المبرمج بين حركات التحرر الوطني والإرهاب.. وهذا الفخ لا تعرف الحكومات الأوروبية اليوم كيف تتحرر منه! وذلك المنطق المنحرف هو الذي يستبعد اليوم حركات المقاومة الفلسطينية من أي مشاركة في إيجاد حلول للأزمات بينما هي حركات سياسية لها شرعيتها المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة والنتيجة التي ستزيد الطين بلة في فلسطين هي أن هذا المنطق الأعوج سوف يضع المناضل النزيه محمود عباس في موقف لا يحسد عليه أشبه بمواقف المتعاونين مع القوى الأجنبية ضد طموحات شعوبهم والمقدمين لمزيد التنازلات دون مردود. وحينئذ كيف سيتصرف الغرب إزاء عزلة السلطة التي يطالبونها بتمثيل الشعب الفلسطيني؟

أفيقوا على هذه الحقائق التي يقولها بجرأة رجال غربيون نزهاء يرحمكم الله قبل فوات الأوان حين لن ينفع الندم. فنحن العرب أدركنا منذ سبعين عاما أن أم القضايا العربية بل والإسلامية هي قضية فلسطين منها وإليها ينطلق ويعود كل مشروع عربي للنهضة والسلام مهما تكثفت السحب الدكناء اليوم عام 2024 فوق رؤوس العرب.. وإذا ما انجرفنا نحو القضايا الفرعية الهامشية وأهملنا الأصل فنحن ربما حققنا تخوفات الزعيم بورقيبة الذي قال في مارس 1965 بأن العرب سوف يفقدون فلسطين كما فقدوا الأندلس.