رغم مرارة عمليات الطرد التي طالت غالبية الشعب الفلسطيني عام 1948 بقوة المجازر الصهيونية، لم يتوان اللاجئون الفلسطينيون عن تحصيلهم العلمي والولوج إلى مراتب أكاديمية وعلمية عالية، ومن بين هؤلاء الدكتور الراحل أنطوان زحلان الذي يعتبره كثيرون من أهم العلماء في الوطن العربي خلال القرن العشرين.
واللافت أن زحلان اعتبر القضية الفلسطينية ومعاناة شعبها نتيجة الاحتلال الصهيوني لفلسطين جذر القضايا العربية؛ وكعالم فلسطيني كان واعياً بأهداف الكيان الصهيوني وقدراته المختلفة المستمدة من الغرب الاستعماري، ولهذا خصصّ العديد من بحوثه لتوصيف قدرات إسرائيل العلمية والمعرفية بغرض مقاومتها والانتصار عليها في نهاية المطاف.
فلسطين والصراع مع العدو
ولد العالم الراحل الدكتور أنطوان زحلان في الخامس عشر من أيار/ مايو 1928 في مدينة حيفا عروس الساحل الفلسطيني. وإثر احتلالها من قبل القوات الصهيونية في شهر نيسان / أبريل 1948، اضطر زحلان إلى اللجوء مع عائلته إلى لبنان، حيث استأجروا بيتاً في مدينة عالية.
تلقى زحلان تعليمه الابتدائي في مدرسة الفرير في حيفا، ثم تابعه في القسم الداخلي لمدرسة "تراسنطة" في القدس، حيث بقي نحو خمس سنوات.
وفي بيروت حصل على منحة تعليمية مكّنته من الالتحاق بكلية العلوم التابعة للجامعة الأمريكية في بيروت، التي تخرّج فيها سنة 1951 بدرجة البكالوريوس في الفيزياء، ثم حاز، في سنة 1952، على درجة الماجستير في التخصص نفسه. وقد سافر زحلان إلى الولايات المتحدة الأمريكية لمتابعة دراسته العليا، والتحق بجامعة سيراكوز في نيويورك، حيث حاز على درجة الدكتوراه في الفيزياء سنة 1956، وبعد عودته إلى بيروت، عمل زحلان، خلال الفترة 1956 ـ 1969، أستاذاً ورئيساً لدائرة الفيزياء في كلية العلوم التابعة للجامعة الأمريكية.
إضافة إلى الهم الفلسطيني، ركز العالم زحلان على ضرورة الارتقاء بالوطن العربي إلى مصاف الدول المتطورة؛ فكانت له نتاجات بحثية غزيرة حول ذلك؛ ومنها صناعة الإنشاءات العربية، العلم والسياسة العلمية في الوطن العربي، وإعادة إعمار فلسطين، والعرب والعلم والثقافة.
أصدر الدكتور الراحل العالم أنطوان زحلان العديد من الدراسات والكتب والبحوث، كان من أهمها "العلم والتكنولوجيا في الصراع العربي الإسرائيلي" وكذلك "العلم والتعليم العالي في إسرائيل" الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، الذي يعتبر من أهم البحوث حول تطور العلم في إسرائيل كنتيجة مباشرة لاستثمار الطاقات البشرية بين المهاجرين اليهود وتخصيص إسرائيل لموازنات كبيرة للبحث والتطوير بدعم غربي في الدرجة الأولى، وكان هدفه من وراء ذلك إبراز أهمية العلم والمعرفة في الصراع مع الكيان الصهيوني لهزيمته. وقد تناول زحلان خلال فصول البحث، السياسة التي اتبعتها إسرائيل وفقاً للنموذج الألماني منذ الأيام الأولى للحركة الصهيونية، وكيف أدت إلى إنشاء الكثير من المعاهد العلمية المتخصصة، ودعم الأبحاث العلمية والدراسات العليا في الجامعات، وعكست إدراكاً مبكراً لأهمية العلم، واهتماماً خاصاً بالعلوم البحتة والتطبيقية؛ كما تطرق إلى الطاقة البشرية العلمية العالية المستوى، ونمو التعليم العالي ودور الجيش الصهيوني في توجيه الأبحاث العلمية، وعلاقة الطاقة البشرية العلمية بالقدرة الصناعية والعسكرية؛ فضلاً عن ذلك أشار إلى المعاهد العلمية الإسرائيلية وتاريخ إنشائها وتطورها وعددها وحجمها وتعداد طلابها وتخصصاتها وميزانيتها والدعم الحكومي والخارجي الذي تتلقاه.
والأهم من ذلك لفت الانتباه إلى أهمية الدراسات والأبحاث العليا والأبحاث العلمية في الجامعات والمعاهد الإسرائيلية من حيث الكمية والنوع ومناهج البحث والإنتاج العلمي وهيئات التدريس.
وقد اعتبر زحلان أن الاحتياطي الكبير من الكوادر ذات الكفاءة الأكاديمية في إسرائيل نتيجة خزان الهجرة اليهودية إلى فلسطين؛ هو صاحب الفضل في إنجازاتها العلمية والتكنولوجية، حيث انضم عدد كبير من العلماء والمهندسين والفنيين المدرّبين القادمين من الاتحاد السوفييتي السابق للقوة البشرية العاملة. إضافة إلى ما أشار إليه العالم الراحل زحلان من تخصيص إسرائيل نحو خمسة في المائة من موازنتها السنوية للبحث العلمي وتستفيد في نفس الوقت من المساعدات الغربية السنوية وخاصة الأمريكية التي تصل إلى أكثر من ثلاثة مليارات دولار.
ولم يتوان العالم الراحل الدكتور أنطوان زحلان عن وضع أفكاره لخدمة قضايا شعبه المكلوم وقضيته العادلة؛ ففي عام 1997 حضر مؤتمرا حول إعمار فلسطين نظمه المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية في رام الله وشارك في وضع سياسات واستراتيجيات وتسجيل توصيات هامة لإعادة إعمار فلسطين وخاصة المناطق الريفية التي تضررت إلى حد كبير بفعل النشاطات الاستيطانية الإسرائيلية، وقام بتحرير كتاب حول المؤتمر؛ صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت خلال العام المذكور.
الارتقاء والإنماء العربي
إضافة إلى الهم الفلسطيني، ركز العالم زحلان على ضرورة الارتقاء بالوطن العربي إلى مصاف الدول المتطورة؛ فكانت له نتاجات بحثية غزيرة حول ذلك؛ ومنها صناعة الإنشاءات العربية، العلم والسياسة العلمية في الوطن العربي، وإعادة إعمار فلسطين، والعرب والعلم والثقافة.
وكان زحلان والدكتور وليد الخالدي والدكتور برهان الدجاني طرحوا، في أواخر ستينيات القرن الماضي، على الملك حسين في عمّان فكرة تأسيس جمعية علمية تُعنى بالفجوة الكبرى في المعرفة العلمية بين العالمين العربي والغربي التي افتضح أمرها خلال نكسة حرب حزيران 1967 الكبرى. وقد رحّب الملك بالفكرة مشترطاً أن ينضم الثلاثة إلى مجلس أمناء الجمعية، فاستقال زحلان من عمله في الجامعة الأمريكية في بيروت سنة 1969 ليتولى منصب المدير التنفيذي للجمعية التي حملت اسم الجمعية العلمية الملكية، وتشاء الرياح أن تجري بما لا تشتهي السفن وتندلع أحداث أيلول / سبتمبر 1970 المأساوية بين المقاومة الفلسطينية والسلطات الأردنية، فيقرر الزملاء الثلاثة الانسحاب من الجمعية ويعود زحلان إلى عمله في الجامعة الأمريكية في بيروت.
وفي سنة 1973، تمّ الاتفاق بين الثلاثي؛ الخالدي وزحلان والدجاني، ورجل الأعمال الفلسطيني حسيب الصبّاغ، صديق الخالدي، على القيام بمحاولة ثانية لتنفيذ الفكرة التي قامت عليها الجمعية العلمية في عمّان مع الفارق أن يكون الراعي هو الصبّاغ نفسه، وأن تكون المؤسسة الجديدة، مؤسسة المشاريع والإنماء العربي؛ مؤسسة تجارية لكن غير ربحية، بمعنى أن تعود جميع أرباحها لتنمية أعمال المؤسسة حصراً.
وتألف مجلس أمناء هذه المؤسسة من الصبّاغ والخالدي والدجاني، واستقال زحلان من عمله في الجامعة الأمريكية ليتولى منصب المدير العام للمؤسسة، التي باشرت أعمالها وكان من أهم المشاريع التي تولتها مشروع مسح الطاقة البشرية العليا في العراق. ويشاء القدر أن تنفجر الحرب الأهلية في لبنان ويتعثر عمل المؤسسة بسببها، وتضطر سنة 1976 إلى التوقف عن العمل.
وكان العالم الفلسطيني أنطوان زحلان قد أنجز في سنة 1975 وثيقة استشرافية متميزة بعنوان: "مستقبل العالم العربي سنة 2000"، كما انتُخب، في السنة نفسها، رئيساً للجمعية الفيزيائية العربية. وأسس زحلان في سنة 2010 منظمة باسم منظمة المجتمع العلمي العربي، يشرف على نشاطها مجلس أمناء مكوّن من علماء من العراق ومصر والكويت وقطر ولبنان، وتهدف إلى تقوية الروابط بين العلماء العرب، وتشجيع التعاون البحثي والتطبيقي وتبادل الخبرات على مستوى العالم العربي.
واللافت أن نشاطات العالم الفلسطيني الراحل الدكتور أنطوان زحلان مقتصرة على البحوث النظرية والسياسات العلمية، بل أيضا أتيحت له الظروف من خلال لقاءاته وحواراته ومهامه مع العديد من رموز وقيادات بارزة في الأعمال كحسيب الصباغ وعبد المجيد شومان وأنطوان صوصة وزين مياسي ووليد قطان وفاروق غندور وسميح دروزة وعصام سمارة وعديدين غيرهم للتعرف على سير الأعمال في عدد من أكثر الشركات العربية نجاحا؛ فخاض تجارب عديدة أكاديمية وبحثية في منظمات عربية ودولية، لكن الأهم من ذلك كله أنه شغل منصب مستشار للبنك الدولي لإعداد استراتيجية لنقل التكنولوجيا إلى فلسطين التي ولد وترعرع في حناياها قبل نكبة عام 48.
إرثه العلمي والمعرفي
توفي العالم الفلسطيني الدكتور أنطوان زحلان في لبنان في الأول من أيلول / سبتمبر من العام الماضي 2020، تاركاً إرثاً علمياً وازناً يعتد به في الدراسات والبحوث التنموية الاستشرافية التي تربط بين العلم والمعرفة واتجاهات تطور المجتمعات العربية؛ فضلاً عن توطين منظومة العلم والتقانة في الوطن العربي، وفي قلبه وطنه المغتصب فلسطين الذي ولد فيه، وترعرع في مدينة حيفا مدينة الجمال والظلال؛ وهو الذي أشار في أكثر من بحث إلى التطور التكنولوجي والعلمي والمعرفي في إسرائيل بغية الأخذ بعين الاعتبار تلك الحقائق لمواجهة أخطر محتل مرّ على فلسطين عبر تاريخها الطويل والانتصار عليه وطرده لتعود فلسطين لأصحاب الأرض الحقيقيين.
*كاتب فلسطيني مقيم في هولندا
في الوعي المبكر بخطر الاحتلال.. الشاعر إبراهيم الدباغ نموذجا
وزير مغربي سابق: فلسطين قضية إنسانية ونصرتها فرض عين وكفاية
"التشريعي الفلسطيني".. صرح تاريخي شامخ منذ العهد العثماني