ارتبط شهر آب/ أغسطس منذ عام 2013 في
ذاكرة قطاع عريض من
المصريين بالدم! رغم النزيف الذي سبقه في تموز/ يوليو، والذي تلاه
في أيلول/ سبتمبر، ولم يتوقف حتى كتابة هذه السطور..
ففي الرابع عشر من آب/ أغسطس عام
2013، ارتكب النظام الانقلابي في مصر مجزرتي "
رابعة" و"النهضة"،
ولهول ما جرى في "رابعة"، لم يعد الناس يذكرون "النهضة"، وبات
ذلك اليوم (الرابع عشر من آب/ أغسطس) هو يوم "رابعة"، وأضحت "رابعة"
عنوانا للتضحية في سبيل الحرية، من جانب الشعوب، وعنوانا لإجرام الأنظمة المستبدة التي
تأبى أن تفلت شعوبها من قبضتها الحديدية..
كنت
شاهد عيان على ذلك اليوم المشهود!
فقد استيقظت نحو السابعة صباحا، بعد
ساعتين من النوم المتقطع، على أصوات الاستغاثة والتكبير، الصادرة من التلفاز الذي كنت
قد نسيت أن أغلقه..
هرعت إلى التلفاز، لأجدني أمام مشهد
مروّع.. أصوات الرصاص المنهمر التي تصم الآذان.. أصوات التكبير والاستغاثات التي تنطلق
من فوق منصة "رابعة" الآيلة للسقوط.. الشهداء يتساقطون.. عشرات المعتصمين
يهرولون ذهابا وإيابا؛ لنقل الجرحى إلى المستشفى الميداني الذي احتل بناءً ملحقا بمسجد
رابعة..
رغم حالتي الصحية المتردية، في ذلك
اليوم، بسبب عدم انتظام ضربات القلب، وارتفاع ضغط الدم، وجدتني في الشارع، أبحث عن
سيارة أجرة، تقلني إلى "رابعة".. بسبب الحصار المضروب حول رابعة ومحيطها،
اضطررت إلى النزول من سيارة الأجرة، وترجلت في الشوارع الجانبية؛ تفاديا للرصاص، حتى
وصلت إلى الحديقة الداخلية لمسجد رابعة..
في الطريق إلى رابعة، استنشقت كمية
هائلة من الغاز المسيل للدموع، كادت تقضي عليّ، لكن الأجل كان فيه بقية، فوصلت في حالة
يرثى لها..
سارع نفر من المعتصمين بإسعافي، ثم
احتميت بجدار في حديقة المسجد، وانشغلت بالدعاء الذي لم أكن قادرا على فعل شيء سواه،
وبينما أنا على هذه الحال، غفوت، ونمت!
نعم نمت، في هذه الأجواء التي تنخلع
من هولها القلوب! ولا أدري كم نمت من الوقت على وجه الدة، ربما نصف ساعة، أو أقل أو
اكثر، غير أني أفقت، وقد عادت إلي بعض من عافيتي.. أفقت على صوت هاتفي، رغم أن شبكة
الهاتف كانت في أسوأ حالاتها؛ بسبب التشويش الذي قامت به القوات المسلحة التي اقتحمت
الميدان.
كان المتصل زوجتي التي كانت في دولة
الإمارات وقت ذاك..
السلام عليكم يا أبو حبيبة.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
حبيبة استشهدت..
إنا لله وإنا إليه راجعون.. الحمد لله..
قولي الحمد لله.. وتابعت.. كيف عرفت، وأين أجد حبيبة؟
اتصل بي شاب من هاتفها، وأبلغني باستشهادها، اتصل من فضلك على هاتف حبيبة، وهو سوف يدلك (الشاب) على مكانها.
اتصلت من فوري بهاتف حبيبة، فرد عليّ
الشاب، فسألته عن مكانه..
فقالي لي: أنا عند "طيبة مول"،
وحبيبة هنا..
لم يكن ممكنا الوصول إلى "طيبة
مول" من طريق النصر، حيث كان ساحة للمجزرة، فتوجهت إلى شارع خلفي موازٍ لطريق
النصر، اسمه شارع أنور المفتي، وهناك وجدتني أمشي، على فوارغ طلقات أعيرة نارية، من
مختلف الأحجام، وقد غطت أرض الشارع تماما!
صرخ عليّ بعض المحتمين بجدران المباني:
خذ لك ساتر! غير أني لم أكترث بهذه التحذيرات، ومشيت في هدوء عجيب! وبينما أسير على
هذا الحال، سمعت صوت استغاثة من أحدهم، فتوجهت لمساعدته، وكان قد حُبِس خلف باب حديدي،
أصاب قفلَه عيارٌ ناري طائش، فاستحال فتحه.. حاولت مساعدة الرجل لنحو عشر دقائق تقريبا،
ولما لم أفلح، اعتذرت منه، ومضيت إلى حيث جثمان حبيبة..
وصلت إلى المكان الذي وصفه لي الشاب،
وسألته: أين حبيبة؟
فأشار إلى "حصيرة" ملفوفة،
وقال لي: في هذه الحصيرة! وتابع: قمنا بلف حبيبة فيها، كي لا يظهر منها شيء. وكانت
حبيبة هي الفتاة الوحيدة التي استشهدت في هذا المكان، حتى تلك الساعة التي كانت
تشير إلى العاشرة والنصف صباحا تقريبا..
جثوت على ركبتيّ، وكشفت عن وجه حبيبة
الذي كانت عليه بعض الدماء التي لم تجف بعد، وانحنيت عليها، وقبّلتها، وأعدت الحصيرة
عليها مرة أخرى..
بعد انتظار نحو ست ساعات لسيارة الإسعاف
التي لم تأت، رغم أن ضباط القوات الخاصة الذين كانوا في المكان قالوا لي: لقد طلبنا
سيارة الإسعاف مرارا..
اضطررت إلى نقل جثمان حبيبة، بمساعدة
بعض الشباب، في عربة خشبية ذات عجلتين، من تلك التي يستعملها الباعة الجائلون، إلى
ناصية شارع عباس العقاد، وهناك (بعد ساعتين تقريبا) لمحني جارٌ لي في البناية التي
أسكن فيها، فأقبل علي يسألني عن الموقف في رابعة، فأخبرته، ثم طلبت منه المساعدة في
نقل جثمان حبيبة إلى أقرب مستشفى، ففوجئ! وغادر من فوره، ليعود بسيارته، لننقل حبيبة
إلى مستشفى هليوبليس..
بعد أن أودعت حبيبة المستشفى، توجهت
إلى أقرب قسم شرطة، لأحرر بلاغا بواقعة الاغتيال، وهناك أصررت على ذكر المتهمين باغتيال
حبيبة بالاسم وهم:
- عدلي منصور الذي جاء به الانقلابيون
رئيسا مؤقتا لمصر، بعد الانقلاب على الرئيس المنتخب الدكتور محمد مرسي.
- حازم الببلاوي، رئيس حكومة الانقلاب.
- عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع المنقلب
على الرئيس المنتخب.
- محمد ابراهيم، وزير الداخلية..
ولو كنت أعرف (في حينه) أسماءً غير
هذه الأسماء لأضفتها إلى البلاغ..
عُدت إلى مستشفى هليوبليس؛ لأنقل حبيبة
وشهداء آخرين، في سيارة لنقل الموتى إلى مشرحة زينهم؛ لتشريح الجثمان، والحصول على
تقرير الطب الشرعي الذي جاء في خانة "سبب الوفاة" منه: "رصاصة في القلب، هشمت
عظام القفص الصدري، وخرجت من أسفل الظهر"..
بتنا ليلتنا مع مئات جثامين الشهداء
وذويهم، في محيط مشرحة زينهم، ولم يتوقف بعض الأهالي عن وضع ألواح الثلج على جثامين
الشهداء؛ لحمايتها من حرارة آب/ أغسطس.. وبعد تشريح الجثة في اليوم التالي، خرجنا من
باحة المشرحة محدودة المساحة بعد أكثر من ساعتين، مكثناهما وقوفا، حاملين جثمان
حبيبة، فقد كنا عاجزين عن الحركة تماما..
توجهت مع حبيبة في سيارة نقل الموتى
إلى المسجد القريب من سكني، وهناك قامت إحدى صديقات حبيبة بتغسيلها وتكفينها، ثم غادرنا
إلى قرية كفر حمام، إحدى قرى مركز تلا، بمحافظة المنوفية، الكائنة وسط دلتا مصر..
استقبلت والدة حبيبة جثمان حبيبة بالزغاريد،
تنفيذا لوصية حبيبة، وسط ذهول أهل القرية، وعند الكشف عن وجه حبيبة؛ كي يلقي الأهل
نظرة الوداع عليها، كانت دماء حبيبة لا تزال تنزف من أنفها، وكان جسدها لا يزال غضّا،
وكأنها لم تفارق الحياة..
وفي منتصف آب/ أغسطس هذا العام، وبالتزامن
مع الذكرى السابعة لمجزرة رابعة، ودّعنا شخصية فذة، من ألمع الشخصيات المصرية، في الخمسين
سنة الأخيرة، هو النائب البرلماني البارز الدكتور عصام العريان الذي يستحق شخصه العظيم،
وظروف استشهاده في محبسه، وموقف نقابة الأطباء منه؛ مقالا خاصا..
تقبل الله عصام العريان في الشهداء،
وعوّض مصر والمسلمين عنه خيرا..
twitter.com/AAAzizMisr