مع بزوغ فجر يوم الأربعاء، الرابع عشر من آب/ أغسطس 2013م، لم يكن المعتصمون في ميدان رابعة العدوية بالقاهرة وميدان النهضة بالجيزة يعلمون أنهم على موعد مع
أبشع جريمة سياسية حدثت في القرن الحادي والعشرين.
كان المعتصمون في الميدان على مدار 45 يوما يطالبون بمعرفة مصير الرئيس الشرعي المختطف (من قبل قيادة الجيش) الدكتور محمد
مرسي، الأستاذ الجامعي، والسياسي والبرلماني الذي وصل للحكم بطريقة ديمقراطية نزيهة بعد ثورة يناير؛ التي طالبت بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، كما كانوا يطالبون بعودته للحكم وإسقاط الانقلاب العسكري الغادر.
كان الاعتصام سلميا، عكس ما روجت ضده سلطة الانقلاب. فلم تسجل أي جريمة من أي نوع من قبل المعتصمين طوال أيام وليالي الاعتصام، ولم تسل نقطة دم واحدة سوى ما اقترفته سلطة الانقلاب من مذبحة للمصلين وهم في صلاة الفجر أمام مبنى دار الحرس الجمهوري، يوم 8 تموز/ يوليو 2013م، أي بعد حوالي عشرة أيام من بداية الاعتصام، وقد راح ضحيتها في ذلك اليوم (وفق تقرير مصلحة الطب الشرعي) 61 قتيلا وأكثر من 435 جريحا، ثم أمام المنصة (أو النصب التذكاري للجندي المجهول) فجر يوم 27 تموز/ يوليو2013م، أي بعد حوالي شهر من بداية الاعتصام، والتي راح ضحيتها (حسبما ذكرت هيئة الطب الشرعي آنذاك) 80 قتيلا وحوالي 4000 إصابة؛ ما بين كدمات وخرطوش واختناقات وجروح قطعية وعميقة ورصاص حي وكسور. وقد وثق المستشفى الميداني في تلك الليلة استقبال 50 حالة قنص في الرأس و150 حالة إصابة مميتة ونزيف حاد.
رغم كل تلك الضحايا من القتلى والمصابين استمر الاعتصام سلميا بعد ذلك لأكثر من أسبوعين، إذ لو كانت هناك نية للعنف أو كان المعتصمون مسلحين بالأسلحة الثقيلة (كما يقولون) لما استمر الاعتصام بعدها سلميا ساعة واحدة، ولقتلت وأصيبت أعداد كبيرة من القوات المهاجمة للاعتصام، ولتحولت القاهرة إلى بحر من الدماء.
رغم كل ذلك اتخذت قوة الانقلاب العسكري قرارها المشؤوم بفض الاعتصام بالقوة، وكذبت بطغواها فانبعث أشقاها، فحرك قوات الجيش والشرطة لفض الاعتصام في الميدانين في نفس التوقيت تقريبا، وارتكبت أكبر مجزرة في تاريخ مصر الحديث بل والعالم، إذ وصفت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقريرها الصادر في 12 آب/ أغسطس 2014، أي بعد عام كامل من التقصي والتحقق، ما جرى في تلك الأحداث بأنه "أخطر حوادث القتل الجماعي غير المشروع لمتظاهرين سلميين في يوم واحد في تاريخ العالم الحديث"، وأنه "على الأرجح
جرائم ضد الإنسانية".
وعلى الرغم من اختلاف التقديرات حول عدد القتلى والمصابين والذي قدره المعتصمون بالآلاف، فإن التقرير الرسمي لوزارة الصحة المصرية ذكر أن عدد القتلى 670 قتيلا وعدد المصابين 4400 مصابا.
وحتى لو كانت البيانات الرسمية صحيحة (وهو أمر غير مقبول عقلا لأنها بيانات صدرت عن الجهة المتهمة)، فإن هذا العدد المعلن رسميا من القتلى والمصابين ليس بالهيّن.
إن الله تبارك وتعالى وصف "مَن قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعا"، فإذا كان هذا فيمن قتل نفسا واحدة، فكيف بمن قتل كل تلك النفوس؟!
إن هؤلاء المعتصمين الذي أعمل فيهم الجيش والشرطة آلة القتل والحرق، وجرفت جثثهم الجرافات ودهستهم المدرعات والمصفحات والمجنزرات لم يكونوا غزاة أتوا لمهاجمة مصر واحتلال أراضيها، ولم يكونوا من الهكسوس أو التتار أو الصليبيين أو الإسرائيليين.. إنهم مصريون خرجوا يدافعون عن شرعية رئيسهم الذي انتخبوه، خرجوا يستردون إرادتهم المغتصبة، ويستعيدون حريتهم المهدرة، ويسترجعون ثورتهم المسروقة.
لم يكونوا في ذاك الوقت الأقلية المعارضة بل كانوا الأغلبية الحاكمة، هؤلاء هم أنفسهم الذين حموا ميدان ثورة يناير واستبسلوا لصد الخيل والجمال والحمير يوم موقعة الجمل، يوم أن هاجمت الميدان فلول نظام مبارك وأقطاب الثورة المضادة، وشياطين الأجهزة الأمنية والمخابراتية الذين مردوا على الخداع، فنكثوا العهود والمواثيق.
لقد خرج أنصار الرئيس المنتخب واعتصموا بصورة شرعية دستورية حضارية، صاموا في الميدان وصلّوا، ودعوا وتضرعوا، وصاحوا وهتفوا، وغنوا وأنشدوا، وتكافلوا وتعاونوا.
كانوا يحلمون بعيش كريم في وطن فسيح يتسع للجميع، يشاركون في بنائه ويحملون شعلة نهضته.. آمنوا بالحرية، التزموا بالديمقراطية، عملوا في النور والعلن، فأسسوا أحزابا سياسية، وطرحوا برامج انتخابية.. احترموا الصندوق وحموه، لم يمارسوا التزوير أو البلطجة الانتخابية، التزموا بالآليات السلمية والحضارية.
إن ما ارتكب في رابعة وأخواتها هي جرائم سياسية فاضحة، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم ضد الحرية، وجرائم ضد الشرعية، وجرائم ضد الديمقراطية، وجرائم ضد الوطنية.
إنها جرائم فاضحة للطغمة العسكرية التي خانت عهدها وأخلفت وعودها، وحنثت في يمينها، وانحرفت عن وظيفتها ومهمتها الأساسية، فتغولت على الحياة السياسية وعسكرت الحياة المدنية، ووجهت فوهات بنادقها لأبناء شعبها.
وفاضحة لدعاة الدولة المدنية وأدعياء الليبرالية من النخبة السياسية المهترئة الذين لم يفلحوا في المنافسة السياسية، ولم يطيقوا نتائجها فانقلبوا على الديمقراطية الوليدة، وهرعوا يهرولون في استدعاء العسكر ليشفي غليلهم من خصومهم السياسيين، فاستبدلوا الدبابة والبندقية بالحياة المدنية، والعسكري المنقلب بالمدني المنتخب.
وفاضحة لقضاة كان يُنتظر منهم أن يقيموا العدل ويحكموا بالقسط، ويوقفوا الظالم عند حده؛ فإذا بهم أداة مسيسة باطشة في أيدي العسكر يصدرون الأحكام الجائرة على المئات دفعة واحدة دون دليل أو بيّنة، فيسهلون للمستبد بغيه ويشرعنون تجبره.
وفاضحة لمشايخ السلطان الذين باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، فحرضوا على القتل وأيدوا الظالمين.
وفاضحة لكنيسة طالما ادعت أنها بعيدة عن السياسة، ثم شاركت وأيدت وشمتت.
وفاضحة لأنظمة عربية دعمت الانقلاب ومولت المنقلبين.
وفاضحة وكاشفة لزيف دول غربية طالما تغنت بحقوق الإنسان ونشر الديمقراطية، فإذا بها تسكت عن تلك الجرائم البشعة إيثارا لمصالحها.
إن رابعة وأخواتها ليست مجرد ذكرى، بل هي تاريخ لن يمحى، وحق لن يضيع. وإذا كان من قتلوا في رابعة وأخواتها قد صعدت أرواحهم لرب الأرض والسماء شاهدة على إجرام المجرمين وتنتظر القصاص في الآخرة، فإن هنا أيضا في الأرض شهداء آخرين ما زالوا أحياء ولم ينسوا تلك الدماء الطاهرة، يتربصون بالظالمين لحظة القصاص في الدنيا، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، "يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ".