إذا أدركنا دور
المسجد في
التربية السياسية علمنا السر في ما يقوم به المستبدون والطغاة من عمليات تخريب
ممنهجة لا تتوقف عبر أساليب متنوعة، لإضعاف دور المسجد وحصره في جوانب محددة.
فعلى الرغم من سعيهم الدائم لعلمنة الدول
الإسلامية وترويج فكرة فصل الدين عن الدولة وشئون الحكم، بل إن شئت فقل سعيهم لفصل
الدين عن الحياة، فإنهم لا يكفون عن تدخلهم في الأمور الدينية ومؤسساتها وأهمها
المساجد، حيث يصل بهم الأمر إلى التحكم في خطابها الديني، وفصل أو تعيين العاملين
فيها وفق رؤيتهم الأمنية وبما يخدم أجندتهم السياسية.
لقد كان أول ما قام به رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - بالمدينة هو بناء المسجد، وذلك لما للمسجد من دور كبير في عملية
التربية الإسلامية وتزكية النفوس، وإرشاد المجتمع نحو ما يصلحه في الدنيا والآخرة.
فقد أنشئ المسجد ليذكر فيه اسم الله، وليكون
مدرسة يتدارس فيها المؤمنون أمر دينهم، ومعهدا يؤمه طلاب العلم من كل صوب ليتفقهوا
في الدين ويرجعوا إلى قومهم مبشرين ومنذرين.
لقد سبق الإسلام إلى تلك الوسيلة الإعلامية
الفاعلة في تبليغ الرسالة التي تتيح التواصل الحي المباشر بين الإمام والمأمومين،
أو بين القائد والجنود من ناحية، وأفراد المجتمع بعضهم ببعض من ناحية أخرى.
ففي المسجد يلتقي المسلمون خمس مرات كل يوم
لأداء الصلوات فتتزكى النفوس وتطمئن القلوب، وتذوب من كثرة اللقاء وقوة التعارف؛
الفوارق الطبقية والمجتمعية وتختفي العنصرية والقبلية.
وفي المسجد يعقد المسلمون مؤتمرهم
الأسبوعي الجامع إذ تجمعهم صلاة الجمعة بما تحويه من خطبة، تلك الخطبة التي لا
تخلو من تعاليم تشريعية ومضامين سياسية ووصايا تربوية واجتماعية. ولا يخفى ما لهذا
المؤتمر الأسبوعي من أثر في تقريب الأفهام وتوحيد الأفكار وتهذيب النفوس وتعزيز
الانتماء للعقيدة والأمة الواحدة، فتضعف نزعة الحزبية وتتوارى أو تتلاشى الأفكار
الدخيلة على ثقافة المسلمين.
إن أكبر ما يربي النفوس المسلمة على الشجاعة
والفداء وعدم الخنوع للفراعين والطواغيت هو صوت الأذان الذي ينطلق من مآذن المساجد
عاليا مدويا (الله أكبر) فيتضاءل معه كل شيطان مريد، و يتصاغر دونه كل جبار عنيد،
و يتزلزل كل مستبد غشوم، فيستعيد المقهور عافيته النفسية، ويسترد قواه المعنوية،
ويتجدد لديه الأمل بإيوائه إلى ركن شديد، وتوكله على رب عظيم، فيتحطم اليأس في
نفسه، ويتجدد الأمل في قلبه وتملأ العزة كيانه.
وعلى باب المسجد يخلع المسلم كل ألبسة
الجاهلية من تفاخر بالأنساب وتطاول بالأعراق، وينسلخ من نزعته حزبية أو نعرته
القبلية.
وفي المسجد يتربى المسلم على قيمة المساواة
عندما ينتظم في الصف خلف الإمام، تلك الصفوف التي لا تميز بين غني وفقير، أو سيد
وعبيد، أو أبيض وأسود، فالأولوية لمن سبق وإن كان عبدا حبشيا.
وفي المسجد يتربى المسلم على الاتباع في
الصواب، والاقتداء في الحق، والجندية حال الثقة والاحترام، فيأتم بالإمام ولا
يخالفه، بل يتبعه في ركوعه وسجوده، وقيامه وقعوده، ويستمع إلى تلاوته ووعظه منصتا.
وفي المسجد يتربى المسلم على قيم النصيحة
والمعارضة، فيصحح الخطأ، ويعارض المخطئ، فاتباعه للإمام لا يمنعه من رده إذا أخطأ،
وتذكيره إذا نسي، فالدين النصيحة حتى ولو كان المخطئ إماما أو حاكما، إذ لا طاعة
لمخلوق في معصية الخالق.
عندئذ يتربى المسلم على أن خطأ الإمام ورده
إلى الصواب في أمر الدين ممكن وجائز، وبالتالي فهو في أمر الدنيا وشؤون الحكم
ورعاية مصالح الخلق ضروري وواجب، فلا عصمة لغير الأنبياء، ولا تقديس لبشر طبيعتهم
الخطأ والنسيان، ولا استبداد بالرأي، فالمرجعية للشرع لا الهوى، وللنص لا الرأي.
وفي المسجد تتعزز قيم المواطنة والتعايش
السلمي وتقوى أواصر المجتمع ويتكافل الناس فيما بينهم، إذ يعرف الغني حال الفقير،
ويعلم الصحيح داء المريض، فيتعود المسلم حب الخير للغير، فيعم التكافل الاجتماعي
والتآزر المعيشي، فيقوى المجتمع ويعم فيه الأمن والأمان ويتفرغ الناس لمعاشهم
ويوجهوا طاقاتهم للعمل والإنتاج، فيثمر ذلك استقرارا اجتماعيا وسياسيا.
وفي المسجد يتربى المسلم على احترام وحدة
المسلمين والاهتمام بأمرهم، ومتابعة أخبارهم، حيث يناقش المسلمون ما يحيط بهم من
أخطار، فيتفاعلون معها ويشاركون في التخطيط لدفعها، والتضحية في سبيل ردها، فيزداد
الانتماء، وتتوحد الصفوف، وتعظم المشاركة المجتمعية الطوعية.
لقد شهد المسجد في عهد رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - والخلفاء من بعده أدوارا سياسية وعسكرية هائلة، ففيه كانت تمارس
الشورى وتبرم المعاهدات وتعلن الأخبار وتعد العدة للجهاد.
ومنه كانت ترسل المكاتبات وتعقد الألوية وتنطلق
الجيوش، وإليه كانت تأتي الوفود والقبائل لتبايع أو تفاوض أو تصالح.
لقد سجل التاريخ للمسجد كل تلك الأدوار
التربوية والسياسية والاجتماعية، ذلك لأن المسجد يستمد وظيفته ودوره من رسالة
الإسلام الشاملة التي نص عليها القرآن الكريم وترجمتها السيرة النبوية العطرة،
ورسختها أعمال وإنجازات الخلفاء الراشدين المهديين.