في القرن السادس قبل الميلاد، أرجع الفيلسوف الصيني" كونفوشيوس" فساد الحكم إلى غياب المواطنة الصالحة، بسبب عجز
الأسرة عن تلقين قيم الفضيلة والحب المتبادل والمصلحة العامة، لهذا دعا جهاز الدولة إلى تحمل مهمة تعليم الناشئة ابتغاء خُلق اجتماعي سليم يتأتى معه قيام حكم صالح. وذهب أفلاطون في كتابه "الجمهورية" إلى اعتبار التعليم واحداً من أهم الأعمدة التي تقوم عليها الدولة الفاضلة.
ومما يؤسف له أن معظم مجتمعاتنا العربية والإسلامية قد ابتليت على مدى عقود مضت بتسلط واستبداد الأنظمة الحاكمة التي تبث الخوف قي نفوس الناشئة من الحديث في
السياسة، أو الاقتراب منها، وبتحريف تاريخ الأمة عبر تزييف الحقائق وتجاهل أو تشويه رموزها وأبطالها الحقيقيين، فأسفر ذلك ضعفاً في الانتماء، وانكفاءً على الذات، وتراجعاً في التفاعل الإيجابي مع هموم الوطن والأمة، وانتهاجاً لوسائل بديلة للتعبير عن عدم الرضا بما هو قائم، بالسخرية والسلبية أحياناً، والعنف والانتقام في أحيان أخرى، دون التفاعل الإيجابي لتغيير الأوضاع إلى الأفضل عبر الطرق والوسائل المشروعة المتعارف عليها في المجتمعات المستقرة سياسياً.
والتربية السياسية (كما في معجم مصطلحات
التربية لفظاً واصطلاحاً) هي "الجهود التي يبذلها المجتمع بمؤسساته الرسمية وغير الرسمية لإعداد المواطن سياسياً، بإكسابه الثقافة السياسية لمجتمعه، وتكوين وتنمية الوعي السياسي بما يتضمنه من فهم وإدراك للقيم والقضايا المحلية والقومية والعالمية المعاصرة، وتكوين وتنمية مهارات المشاركة السياسية بحيث تسهم بفاعلية في تطوير مجتمعه إلى ما هو أفضل".
لذا؛ فالتربية السياسية هي عملية اجتماعية ثنائية، تتأثر بالمجتمع وقيمه السائدة وتؤثر فيه، بما يضمن تطوره نحو الأفضل. فعن طريقها يمكن إعداد المواطنين لممارسة الشؤون العامة في ميدان الحياة من خلال نقل الثقافة السياسية من جيل إلى جيل، بما تشمله تلك الثقافة من معارف وتجارب تاريخية، والنظر بعين ناقدة في تلك المعارف والتجارب، والاستفادة من نتائجها السابقة في تبني النظريات الصالحة منها، مما يؤدي إلى تغيير وتطوير بعض الأفكار السابقة، وتكوين ثقافة جديدة تكون أكثر جدوى وملائمة لطبيعة المجتمع والمرحلة.
ولذلك، نبه الدكتور محمود حسن إسماعيل في مقدمة كتابه "
التنشئة السياسية" على أهميتها في حياة الأبناء منذ الصغر بقوله: "لقد أصبحت التربية السياسية للأطفال في عصرنا الحالي أمراً بالغ الأهمية بالنسبة لمسار الأمم وتقدمها. وتتطلب سرعة الأحداث الجارية هنا وهناك أن يصاحبها مشاركة فعلية من الشباب في تشكيل وصنع المستقبل، وتوجيه مسار الأحداث بدلاً من الوقوف عند مرحلة التأثر بها، لذا فإن عملية التنشئة السياسية لأطفالنا يجب أن تبدأ في السنوات المبكرة من حياتهم".
ولا شك في أن التربية السياسية كلما أخذت حظها من العناية والرعاية زاد الوعي لدى أفراد المجتمع بالشأن العام، وكلما زاد الوعي ازدادت المشاركة السياسية. وإذا ازدادت المشاركة السياسية انضبط النظام السياسي، وأدرك مدى تأثير الرأي العام في وجوده واستمراره، وحرص على إرضاء الجماهير، وسعى لتحقيق مطالبهم ومراعاة حقوقهم.
وتتعدد الوسائط التي تسهم في عملية التربية السياسية وتؤثر فيها، وتتنوع هذه الوسائط بين المؤسسات الرسمية وغير الرسمية. فالأسرة والمدرسة والمسجد والأحزاب السياسية ووسائل الإعلام كلها تمارس أدواراً متباينة أحياناً، ومتكاملة أحياناً أخرى، وتعمل جميعها على بناء الوعي السياسي وإنضاج الذات السياسية، كي يكون الفرد عنصراً مشاركاً وإيجابياً في مجتمعه حاكماً كان أو محكوماً.
ولنبدأ بالأسرة، فالأسرة هي المحضن الأول للتربية، والأبوان هما اللذان يربيان ويتعهدان ابنهما صغيراً. قال تعالى: "وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرا" (سورة الإسراء: 24).
ففي الأسرة يُنَشَّأُ الطفل على القيم التي يسمعها بأذنيه، ويراها بعينيه، ويعايشها في سلوك المحيطين به، فيتشرب تلك القيم ويطبقها تقليداً ومحاكاة، وتصبح مع الوقت والممارسة جزءاً من مخزونه الثقافي وعاداته السلوكية.
وفي الأسرة يرى الطفل (وسط والديه وإخوته) أول مؤسسة كوحدة من وحدات المجتمع، وهي بيته، وأول سلطة، وهي سلطة والديه، وأول دستور وهو المبادئ والتعاليم السائدة في أسرته، ويرى فيها أيضا قيم الحرية، والشورى، والتعاون، والمحاسبة التي تشمل الثوب والعقاب، ويرى في أسرته الحوار والنظام واحترام المواعيد، يرى كل ذلك بالطبع في صورته الإيجابية عندما ينشأ في أسرة سوية مستقرة. وقد لا يرى تلك القيم والمعاني متوفرة في أسرته، أو يراها مشوهة إذا نشأ في أسرة فيها والدان لا يراعيان تلك القيم، أو يغلبان الاستبداد والقهر والترويع عليها.
والأسرة هي أول نمط للسلطة يعايشه الطفل، فتؤثر طريقة ممارسة تلك السلطة على قيمه واتجاهاته، فإذا كان الأب سلطوياً في علاقته بأفراد الأسرة، بات من المحتمل أن تتأكد لدى الأبناء قيم الإكراه والسلبية والفردية، والعكس إذا تميز الأب بالديمقراطية، فإن قيم الحرية، والاهتمام، والجماعية، يمكن أن تجد طريقها إلى نفوس الأبناء.
وقد أشارت الدراسات التربوية إلى أنه كلما زادت مشاركة الأطفال في صنع القرار داخل الأسرة زادت مشاركتهم وهم بالغون في الحياة السياسية.
وإذا كان الأمر كذلك فإن البيئة الأسرية هي المحضن الأول والأهم في عملية التربية السياسية، حيث يمكن أن يُربَّى فيها قائد المستقبل، ويمكن أن ينبت فيها فرعون صغير. ويستلزم ذلك ضرورة تثقيف الآباء، وتوعيتهم بخطورة وأهمية دورهم التربوي في غرس القيم السياسية الإيجابية.
وفي المقال القادم نتناول بمشيئة الله دور كل من المدرسة والجامعة في عملية التربية والتنشئة السياسية.