نهر
النيل شريان حياة
مصر وشعبها، وليس قضية أمن قومي مصري فحسب، بل إنه قضية أمن عربي بكل المقاييس.
لقد كان التحكم في نهر النيل على رأس أهداف القوى الراغبة في تطويق مصر وزعزعة أمنها والتحكم فيها، وبالتبعية التحكم في المنطقة العربية، ويأتي على رأس هذه القوى
إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة الأمريكية؛ أسيرة الأهداف الإسرائيلية.
إن قضية المياه تعد أحد المحددات الأساسية لاستراتيجية إسرائيل وسياساتها في العلاقة مع دول حوض النيل وأفريقيا وعلى الأخص إثيوبيا، حيث تنظر إسرائيل إلى التحكم في مصادر المياه العربية على أنه جزء من أمنها القومي، وإحدى أدوات تحقيق هدفها الأسمى المتمثل في بناء دولة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات.
لقد كان من ثوابت الأمن القومي المصري، وركنا ركينا في العقيدة الاستراتيجية المصرية، أن كل ما يمكن أن يعيق أو يقلص تدفق مياه النيل إلى مصر؛ فإنه يجب التعامل معه بلا أدنى تهاون، وبأعلى درجات الحساسية والخطورة، وهذا ما بدا أنه لم يكن حاضرا عند توقيع اتفاقية مبادئ
سد النهضة في 23 مارس/ آذار 2015، التي فتحت الباب لإثيوبيا للمضي حثيثا في بناء السد بمواصفات كارثية على الأمن المائي المصري، ولم تكترث بعدها بالمطالب المصرية؛ بما بات يمثل خطرا وجوديا حقيقيا على مصر وشعبها عبر تهديد الأمن المائي.
إسرائيل في أفريقيا وحوض النيل
على مدار عقود ومنذ منتصف القرن العشرين تناولت العديد من الدراسات التحذير من المشروع الصهيوني الإسرائيلي في أفريقيا ودول حوض النيل، والواقع أن إسرائيل قد عملت بجد طوال هذه الفترة لتحقيق مصالحها ومستهدفاتها، عبر السعي بكل الوسائل للتأثير في دول حوض النيل وعلى الأخص إثيوبيا.
التحرك الإسرائيلي في أفريقيا وغيرها من دول المحيط العربي ينطلق وفقا للنظرية الأمنية الإسرائيلية التي وضعها "ديفيد بن جوريون"، التي تسمى بنظرية حلف المحيط، ومؤداها تطويق الأمن القومي المصري والعربي، من خلال إقامة علاقات قوية وتحالفات وثيقة مع دول المحيط العربي، ومحاصرة مصر تحديدا، وكسر العزلة الإسرائيلية السياسية.
لقد نجحت إسرائيل في تثبيت وجودها في أفريقيا، وتحقيق أجندتها، تحت مرأى ومسمع مصر والدول العربية، عبر الأدوات الاقتصادية من مساعدات واستثمارات وتمويلات ودعم فني؛ لتصبح في موقف المتمكن في أفريقيا وفي إثيوبيا، وقد كان ذلك واضحا بتأثيرها وضغوطها على اتفاقيات دول حوض النيل، مثل "اتفاقية عنتيبي" المؤثرة على دولتي المصب، وانتهاءً بسد النهضة، الذي كانت إسرائيل وخلفها الولايات المتحدة الأمريكية الداعم والمحرك الأساسي لبنائه.
نتنياهو وجولة تاريخية في أفريقيا
في تموز/ يوليو 2016، قام رئيس وزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" بجولة وصفت بأنها تاريخية نادرة في أفريقيا (دول جنوب الصحراء)، وهي أول زيارة لرئيس وزراء إسرائيلي منذ عشرات السنين، بدأها بأوغندا وشملت كينيا ورواندا وإثيوبيا، رافقه خلالها 80 رجل أعمال يمثلون 50 شركة إسرائيلية.
وبعد أن كانت إسرائيل لسنوات على اللائحة السوداء في أفريقيا، أصبحت الآن لاعبا أساسيا ومؤثرا، خاصة في دول حوض النيل، كما باتت تحظى بدعم الدول الأفريقية داخل المؤسسات الدولية.
شارك نتنياهو وقتها في قمة إقليمية مصغرة حول "الإرهاب"، جمعت رؤساء كينيا ورواندا وإثيوبيا وجنوب السودان وزامبيا ومالاوي.
لقد كانت جولة رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي الأفريقية تتويجا وإعلانا لنجاح خطة إسرائيلية ممنهجة ومدروسة للتوغل في أفريقيا، أحد أهدافها الرئيسية ضرب الأمن المائي والقومي المصري والعربي. وقد نُفذت بأريحية مطلقة، في ظل غياب مصري عن أفريقيا، وعلاقات عربية ومصرية غير مسبوقة مع الاحتلال الإسرائيلي ضربت بالثوابت الاستراتيجية والقومية عُرض الحائط.
مخاوف معتبرة
إن سد النهضة يمثل تهديداً وجوديا حقيقياً للأمن المائي والقومي المصري؛ في ظل مواصفاته العدوانية من حيث حجمه وسعته التخزينية، والتي يترتب عليها تداعيات كارثية لا وجه لمقارنتها بالرغبة الإثيوبية في التنمية، والمنافع المظنونة من بناء السد. ولقد أكدت العديد من الدراسات حجم الأضرار الكبيرة المتوقعة من وراء بناء السد وتشغيله وفقا للنظرة الأحادية الإثيوبية.
إن إثيوبيا عندما شرعت في بناء سد النهضة بنته بمواصفات سد في دولة مصب وليس في دولة منبع أو ممر، بما يؤكد أن الأهداف من وراء السد ليست تنموية كما تروج إثيوبيا؛ ولكنها أهداف سياسية في المقام الأول، من أجل خلق حالة من الهيمنة "الهيدروبوليتيكية" تصبح بها إثيوبيا مركز الثقل السياسي في القارة الأفريقية. ويؤكد ذلك الإعلان عن بناء ثلاثة سدود قامت بتعديل مخزونها من 48 مليار متر مكعب إلى 200 مليار متر مكعب؛ وهذا يشكل تهديدا على الأمن القومي المصري. وهي في هذا المسار مدعومة بقوة من رغبة إسرائيلية تاريخية لتطويق مصر وخنقها والتحكم فيها، ويؤكد ذلك حجم التعاون والدعم الكبيرين سياسيا واقتصاديا وفنيا وتمويليا وعسكريا، بين إثيوبيا وإسرائيل.
واقع وحقائق
يؤكد الواقع في مسألة سد النهضة أن إثيوبيا لم تكن لتقدم على بناء السد لو لم تجد دعما حقيقيا من حليفين استراتيجيين أساسين، هما إسرائيل والولايات المتحدة، كما سهلت مهمتها غفلة لا مسبوقة ومستغربة لصانع القرار المصري عن الأبعاد والمخاطر الاستراتيجية لبناء سد مثل سد النهضة.
يشير مسار الأحداث في مسألة سد النهضة إلى أن مسؤولية تأزم الموقف المصري، وخلو يد المفاوض المصري من أوراق الضغط، وتصفير خيارات مصر إن كان هناك من مسؤول عنها، فإن صانع القرار الأول وحده يتحمل المسؤولية؛ لأنه لم يلتفت لتحذيرات كافة الجهات السيادية من خطوة توقيع اتفاقية المبادئ.
إن الصراع القائم حول سد النهضة الآن هو صراع بين رغبة في التنمية وحق البقاء والوجود (رغبة إثيوبية في التنمية كما يروجون؛ تخفي وراءها رغبات ومخططات تاريخية لقوى استعمارية وجدت الفرصة السانحة وتقوم إسرائيل بتحقيقها الآن، وبين حق البقاء والوجود لمصر وشعبها، التي لا بد أن تقف بكل قوة في وجه ما يهدد وجودها)، وإن رغبة طرف في التنمية لا يمكن عقلا ولا منطقا ولا عدلا أن تكون على حساب مصير وبقاء الطرف الآخر ووجوده.
ضبط البوصلة
إن بوصلة الثوابت الاستراتيجية والتهديدات الوجودية لمصر وشعبها تشير إلى الجنوب حيث يأتي نهر النيل، وإلى الشرق حيث الاحتلال في الأراضي الفلسطينية، وليس إلى الغرب، ومن يريد أن يحرف البوصلة عن الاتجاه الصحيح أو يُخطئ في قراءتها؛ فإنه يخاطر بمستقبل ووجود مصر وشعبها، حقيقة لا مبالغة.
إن الدول تسعى دوما لدعم قوتها وتحديث جيوشها للدفاع عن ثوابتها الاستراتيجية وحقوقها ومصالحها وليس مصالح غيرها، وإذا لم تدرك الدول اللحظة الفارقة وتُحسن قراءة الواقع والمآلات، وتضبط بوصلتها الاستراتيجية؛ فإن تلك القوة لا فائدة منها طالما لم تُستخدم أو يلوح بها في اللحظة الفارقة والمكان الصحيح.
الخلاصة
إن سد النهضة بمواصفاته الحالية، وتصرفات إثيوبيا الأحادية في تشغيله؛ يمثل خطوة واسعة في طريق تحقيق حلم إسرائيل الكبرى عبر فرض الأمر الواقع على مصر، ومخطئ من لا يدرك ذلك، وهذه حقيقة لها جذورها التاريخية من قبل وجود إسرائيل في الأراضي المحتلة.
مصر بمأزقها الحالي وتراجع وزنها السياسي وتأثيرها الإقليمي، وتوجه إدارتها الحالية نحو إسرائيل، وفي ظل انحراف البوصلة الاستراتيجية لدول عربية داعمة للإدارة المصرية نحو إسرائيل، يُخشى أن تكون رهينة لأهداف وطموحات هؤلاء الداعمين الذين أصبحوا طوعا أسرى للأهداف الإسرائيلية والأمريكية؛ وهذا يمثل خطرا وجوديا على مصر، خاصة أن هذه الدول أيضا من كبار الداعمين لإثيوبيا وسد النهضة، ولم يتخذوا موفقا يساند حقوق مصر التاريخية ويدعم مطالبها الوجودية.
إن مستقبل مصر وشعبها، ومستقبل الأزمة في حوض النيل وحرب المياه القائمة، يعتمد على فاعلية مجموعة القرار السيادية ومؤسسات القوة الصلبة في الدولة المصرية ووعيها بضرورة التحرك بقوة؛ ليس للتصدي للموقف الإثيوبي فحسب، ولكن للتصدي للمحاولات الإسرائيلية لتطويق مصر عبر منابع نهر النيل ومحاولة خلق حالة شلل في وظيفة مصر الإقليمية.
من الواضح أن المقاربة الدبلوماسية الهادئة التي اتبعتها الإدارة المصرية بصدد سد النهضة تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة؛ في ظل التعنت الإثيوبي المدعوم إسرائيليا ومن القوى الراغبة في تحزيم مصر وشل أطرافها وخنقها. ويبدو أن سيناريو الصراع بات الأقرب، ولئن كان العمل العسكري يروج كثيرون أنه صعب لتبعاته، غير أنه ليس مستحيلا، بل إن عملا عسكريا نوعيا قد يكون المنقذ لمستقبل مصر وشعبها والسبيل لإفشال المخطط الإسرائيلي الصهيوني في حوض النيل، واستعادة مصر لهيبتها التي ساحة معركتها الآن في الجنوب حيث نهر النيل، وليس في الغرب حيث مصالح الآخرين.
إن مطامع إسرائيل في النيل والمياه العربية تنطلق من رؤية دينية توراتية، وإن أشد ما يُخشى منه في ظل توجه الإدارة المصرية نحو إسرائيل، وكذلك التطبيع العربي معها أن نستفيق يوما على أن مصير مياه النيل القادمة إلى مصر بات محبسها في يد إسرائيل، وأن ثمن جريانها الخضوع التام، ومن ثم توصيلها إلى الأراضي المحتلة، وهذا كابوس يعني أن مصر ومعها المنطقة العربية تسير نحو المجهول، وأن إسرائيل نجحت في تطويق مصر بسد النهضة ومياه النيل، وهذا ما نرجو الله ألا يكون.