تواجه هذا الاستفهامَ المركزي جملة من المطبّات المنهجية التي قد تربك الإجابة الموضوعية عنه فضلا عن الاستفهام عن خلفياته وتوقيته والهدف منه بشكل يغذّي الشكوك حول المراد منه. صحيح أنّ هذا الاستفهام في هذا التوقيت بالذات قد يسهّل تصنيف السائل في خانة أعداء الإسلاميين على كثرتهم من علمانيين ولبراليين ويساريين وقوميين ومن حواريي المنطق الاستبدادي العربي فكرا وممارسة.
لكنّ مسار الثورات العربية الذي لم يكتمل بعد يفرض علينا فرضا قراءة التجربة الإسلامية في السياق الجديد الذي رسمته التحولات الاجتماعية والسياسية التي عرفتها المنطقة خلال السنوات العشر المنقضية. أحدث الربيع العربي واقعا جديدا شديد الاختلاف عن الواقع الذي سبقه وأنشأ حالة سياسية وفكرية قلّ مثيلها في المنطقة إن لم نقل إنها حالة فريدة في تاريخ العرب المعاصر.
اختبرت هذه الحالة قدرة كل الفواعل سياسية منها وفكرية واجتماعية وأفرزت خلاصات صادمة في قدرة المكونات العربية على التعامل مع الواقع الجديد الذي نشأ بشكل فجائي لم يكن ينتظره أحد. لكنّ حالة الاحتراب والفوضى والتقاتل والشك التي أعقبت نجاح الشعوب في إسقاط عدد من أعتى الأنظمة الاستبدادية أثبتت للمواطن أنّ الأزمة الحقيقية في بلادنا إنما هي أزمة نخب سياسية فشلت جميعها في تحويل المنجز الشعبي العظيم إلى مكسب سياسي وحضاري بحجم التضحيات المبذولة.
منطلقات أولية
يفرض الموضوع بحساسيته الشديدة فرزَ جملة من المعطيات الأولية التي قد يُشكّل إغفالها عائقا أمام تبيّن محاوره الرئيسية والتي نعرضها كالتالي :
أول هذه المعطيات تتمثل في كون الإسلاميين وغيرهم من القوى السياسية العربية لم تكن وراء ثورات الربيع أي أنها نخب لم تنجز الثورات التي لم تكن سياسية بل كانت انتفاضات شعبية تلقائية لا لون سياسيّ لها بل كانت مطالبها اجتماعية أساسا وهو السبب الأساسي لنجاحها في إسقاط الأنظمة الاستبدادية.
أما المعطى الثاني فيُترجمه الإقرار بفشل النخب السياسية وعلى رأسهم الإسلاميون في تحصين المسار الانتقالي للثورات. هذا الإقرار بالفشل إنما يتأسس على محصّلة ثورة يناير في مصر وسوريا وليبيا وكذلك تونس بنسبة أقلّ. لم ينجح الإسلاميون وهم القوة السياسية الأكثر تنظيما وحضورا في التعامل مع المعطى الثوري الحادث ومنع الفوضى أو منع الانقلابات العسكرية.
الإسلاميون فصيل سياسي محوري في المشهد العربي لكنّه الفصيل الأولى بالنقد والقراءة والتفكيك من أجل أن تخرج الأمة من ثنائية العسكر والإسلاميين التي كلّفت الأمة ثمنا باهظا.
ثالثا يشمل مصطلح الإسلاميين طيفا واسعا من التشكيلات السياسية والفكرية والمذهبية سواء منها الجماعات التاريخية القديمة أو المجموعات المستحدثة التي بزت خلال ثورات الربيع. نركز في هذه القراءة على الجماعات الإسلامية المدنية لا تلك المنخرطة في الأعمال العسكرية ونخص منها جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها أهم هذه الجماعات وقد تسلمت السلطة في أكثر بلد.
رابع المعطيات يتمثل في ضرورة التمييز بين نجاح الإسلاميين في دول غير الدول العربية مثل تركيا أو إندونيسيا أو ماليزيا وإسقاط ذلك على الحالة العربية. الدول المذكورة دول أممٌ وهي ليست نفس الحالة في المنطقة العربية التي تعيش فيها الأمة مقسمة إلى كيانات متناحرة. الوضع في البلاد العربية مختلف عنه في تركيا وغيرها على أصعدة كثيرة منها الاجتماعي ومنها السياسي ومنها الاقتصادي ومنها الحضاري وغيرها من المستويات.
آخر المعطيات الهامة تتلخص في الإقرار الذي لا خلاف حوله بما تعرّض له الإسلاميون دون غيرهم من القوى السياسية المعارضة من مآسي ومن آلام في مختلف الدول العربية. بل يمكن القول إنّهم دفعوا ثمنا باهظا لتضحياتهم التي امتدت لعقود من الزمن لم يدفعه غيرهم.
إغفال السياق والفشل في الأداء
من السهل طبعا تبرير ما حدث في مصر أو في تونس أو في ليبيا أو في غيرها من الدول العربية بالتعلل بكثرة الأعداء وهو التبرير الأكثر حضورا عند الإسلاميين ومناصريهم. " لم يتركوهم يعملون وهم يحاربونهم في كل مكان " إنها التبريرات التي درجت عليها أدبيات الخطاب الإسلامي لتفسير الفشل في الأداء وفي ممارسة الحكم سواء في السلطة أو في المعارضة. إن قمع السلطة الاستبدادية العربية للتيارات الإسلامية المدنية أمر متوقع بل وحتمي ولا يمكن أن تنتظر هذه التيارات أن تغض السلطة القمعية الطرف عنها وهي التي تسعى إلى إسقاطها.
لكنّ تجربة الإسلاميين خلال الربيع العربي وخاصة في مصر لم تُفصح عن حكمة سياسية في التعامل مع الفواعل على الأرض سواء العسكرية منها أو المدنية. فبعد سنة في السلطة وقع الانقلاب العسكري وعاد الاستبداد أشدّ ممّا كان عليه قبلها وكانت للإسلاميين في ذلك مسؤولية كبيرة.
لم يحدد الإسلاميون علاقتهم بالممارسة السياسية بدقة بعد الثورة وهم القوّة الأكثر تنظيما وانضباطا. لم يختر الإسلاميون خوض المعركة في المجتمع عبر التربية والتعليم وترميم هيكل الشخصية القاعدية التي دمّرها الاستبداد بدل الذهاب إلى محرقة السلطة في ظرف ثوري مشتعل. لم يختاروا العودة إلى المجتمع الذي كان سببا في صلابة حركتهم وفي انتشارها الواسع خلال السبعينات والثمانينات والتسعينات خاصة ومن ثمّ التحكم في المشهد السياسي عبر تفعيل القدرة على حشد الكتل الانتخابية.
لم ينجح الإسلاميون في هذا الخيار بل تقدموا إلى السلطة ووصلوا إليها بعد أن زكتهم الجماهير ومنحتهم فرصة تاريخية لكنهم فشلوا فشلا ذريعا في إدارة المشهد وفي منع تجدد عودة الاستبداد العسكري في مصر أو السياسي في تونس. في تونس مثلا منعت حركة النهضة تفعيل قانون العزل السياسي وهو الأمر الذي أوصل رجال النظام القديم إلى البرلمان وإلى الحكومة وهاهم يعملون على الانقلاب على الثورة وعلى البرلمان. أما في مصر فقد جلب الإخوان الجنرال الانقلابي إلى قلب منظومة الحكم ولم يلبث أن انقلب عليهم ودمّر التجربة المصرية.
لم يختر الإسلاميون خوض المعركة في المجتمع عبر التربية والتعليم وترميم هيكل الشخصية القاعدية التي دمّرها الاستبداد بدل الذهاب إلى محرقة السلطة في ظرف ثوري مشتعل.
الأدهى والأخطر من كل ذلك هو غياب التقييم النقدي لأداء الحركات الإسلامية السياسية بعد الثورة فرغم الفشل ترفض الجماعة قراءة ما حدث واستخلاص العبرة من فداحة الأخطاء. بل إن الجماعة تكتفي بسرد الأدبيات نفسها وخلاصتها أنّ الاستبداد تحالف ضدّهم بدعم خارجي ولهذا سقطوا أي أنهم لم يفشلوا ولكن أفشلهم الآخرون.
الإسلاميون فصيل سياسي محوري في المشهد العربي لكنّه الفصيل الأولى بالنقد والقراءة والتفكيك من أجل أن تخرج الأمة من ثنائية العسكر والإسلاميين التي كلّفت الأمة ثمنا باهظا. يُطرح اليوم وأكثر من أي وقت مضى ضرورة النظر في أداء النخب السياسية العربية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار باعتبارها حسب كثيرين السبب الأساسي لانهيار ثورات الربيع. إنّ أولى الأوليات اليوم إنما تتمثل في تفكيك أداء النخب السياسية والفكرية التي شاركت في المسارات الانتقالية العربية. وهو الأمر الذي يستوجب تحديد المسؤوليات من أجل منع تجدد الانكسارات لأن الموجة الثورية الثانية يمكنها أن تتجدد في كل حين فشروط الانفجار لا تزال قائمة بل هي اليوم أشدّ منها بالأمس.
أزمة النخبة الليبية.. مسلسل التضليل والتزييف مستمر