كتاب عربي 21

اللعبة

1300x600

(1)

منذ 40 عاما طالب رولان بارت بموت الكاتب، لكن اغلبية القراء في بلادنا لم تستجب لذلك، لقد فضلوا الإبقاء على حياة الكاتب، المحظوظ يمجدونه، والمغضوب عليه يعذبونه، كان بارت يسعى لتحرير الكتاب المغضوب عليهم (لأسباب شخصية) من الأحكام المسبقة التي يصدرها النقاد أو القراء، فصاح: اقتلوا المؤلف، لا تشغلوا أنفسكم باسمه ولا حياته الشخصية، ركزوا مع النص، مع الكلمات، مع الرسالة المكتوبة وليس مع كاتبها..

بمعنى دارج يناسب اهتمام البيوت بامتحانات الثانوية العامة، كان بارت يطالب بإسقاط أسماء الكتاب وتصحيح أوراقهم بالنظر للإجابات التي يعلوها أرقام الجلوس وليس الأسماء، لضمان أكبر قدر من الحياد والنزاهة والتركيز مع الموضوع.

وبما أن صيحة بارت ذهبت في الهباء العربي، فقد استبدلتها منذ سنوات بصيحة "موت القارئ"، صرت أكتب لقارئ لا أعرف اسمه، لزمن قد لا يكون زمني المعاش، بمعنى أن الكتابة التي أنشدها هي الكتابة التي تستطيع أن تعيش لابعد من اللحظة الآنية ومزاج الشلة الداعمة وقياسات تصفيق المديح أو صفير الاستهجان من الحاضرين في القاعة المحدودة، وقد وصلت بي هذه الحالة إلى حد التفكير في "موت الكتابة" نفسها، خاصة وان الشفاهية عادت لتنتصر على الكتابية، وباتت الكلمة المطبوعة أقل شانا وجاذبية من الكلمة المسموعة ومن الكلمة المرئية، فلماذا لا أجرب إذن "قتل الكتابة"؟، لماذا لا نلعب معاً لعبة أخرى غير الكاتب والقارئ؟  

(2)

أنسوا أنني كاتب، تعاملوا معي باعتباري بائع الخضار الذي جاء إليكم بما تحتاجونه لتطبخوا طبختكم أنتم، وبالتالي لا تحاسبوني على ذائقة الطعام الذي ستصنعونه بأنفسكم..

هذه هي اللعبة التي سنلعبها اليوم.. سأحضر لكم الخامات وعليكم أن تتصنعوا منها المقولة والرأي الخاص بكم، اعتبروها لعبة "بازل" تضم مجموعة من قصاصات الصور، لكم حرية ترتيبها بالطريقة التي تعجبكم، مع العلم بأن القصاصات يمكن أن تنتج عدد لا نهائي من الصور، بحسب شخصية كل واحد وثقافته ورؤيته للأمور، ولا تنسوا أن الاتفاق الوحيد المحسوم بيننا جميعا (برغم الاختلاف في النتائج وفي الآراء وفي تكوين الصورة) هو الاتفاق على أن ما يحدث هو "اللعبة"... فنحن نختلف في اللعبة، ولا نختلف على كونها لعبة!

حلو التعبير ده، حتى أنه يصلح كمدخل فلسفي يساعد في تنظيم العلاقات والصراعات بين اللاعبين في أي مجال من كرة القدم إلى السياسة 

(3)

كلمة اللعبة كلمة عظيمة، لدرجة أن هناك من يقول إن الحياة نفسها لعبة، ألم تسمعوا تعبير "لعبة الحياة" أو "لعبة السياسة" أو "لعبة الزمن".. إلخ؟، بل أننا نستخدم الكلمة في كل مجالات حياتنا: فلان يلعب موسيقى، الممثل يلعب الدور، ولا شك انكم تستخدمون كلمة "بلاي" بالانجليزية لتشغيل كل الأجهزة، وهذا يعني أن كلمة "اللعبة" ليست كلمة سيئة أو دليل تفاهة.

عموماً.. لقد بدأت اللعبة، فلا تجادل في ما هيتها، افتح عينيك.. فكر.. ركز.. إلعب

ريدي.. استيدي.. جووووو


(4)

الأمير الطامح الجامح، نسر المملكة، قاهر فرسان "باتل باس" اثبت جدارته في "اللعبة"، حتى انه أنفق 70 الف دولار في حروبه الاليكترونية..

خبر قديم تم نشره على سبيل التشهير بالأمير المكتسح، لكن الخبر نفسه تم نشره منذ فترة أبعد على سبيل المديح والعصرنة والاقتراب الحميمي من الحالة الشبابية وتجسيد الرغبة في "تحديث المملكة حسب كتالوج الأمركة"، حيث تفاخرت المصادر المقربة من الأمير أنه مغرم بلعبة "نداء الواجب" Call Of Duty ويبلي فيها بلاء حسناً، ولمزيد من الانسجام مع اللعبة لا يجب أن يلبي "الأمير الحداثي"  نداء الواجب وهو يأكل "الكبسة"، لذلك قال المصدر القريب إن "سلمان جونيور" يفضل شطائر "الهوت دوج" ويتجرع كميات كبيرة من "كوكاكولا دايت"، وخلال السنوات التي تولى فيها الأمير ولاية العهد رسمياً (يكمل 3 سنوات بعد أيام قليلة) لم يتخل سموه عن "نداء الواجب"، بل سعى لنقل مهاراته الحربية من ميادين "دوتا" و"باتل باس"  إلى ساحات القتال الواقعي في اليمن وغيرها من الميادين الذي يشارك فيها بالقتال، فاللعبة يجب أن تكبر وتتوغل وتنتشر وتستمر!!

لكن للأسف، فبرغم أن الأمير ينفق الكثير على معاركه إلا أن مستواه في "اللعبة" لا يدعو إلى التباهي، فقد حقق 51% فقط من النجاح في المعارك التي خاضها برغم الإنفاق المالي المثير للجدل وللقلق!

(5)

لا أقصد بالإنفاق المثير للجدل مبلغ الـ70 ألف دولار، لأن "اللعبة" التي يلعبها الأمير تكلف المليارات، وبرغم عدم وجود تسريبات مؤكدة عن حجم الإنفاق في "لعبة نيوم"، إلا أنها تبدو تكلفة باهظة، ليس في المال فقط، لأن الأمير ينفق فيها الدم أيضا، ويبدو مصمما على الاستمرار في لعبته بالمال والدم، لذلك ليس من المناسب أن نحاسب الأمير "حوت الألعاب" على إنفاق مبلغ 70 ألف دولار في لعبة، فهذا مبلغ تافه قد ينفقه الأمير في الأوراق التي تغلف شطائر الموت دوج المخصوصة التي يأكلها وهو يخوض معاركه.

 

إذا كان تصرف الأزهر مقبولا من حيث المبدأ، ومن حيث حرصه على "أخلاق اللعبة" أكثر من حرصه على "أخلاق الواقع"، الا يجب إذن أن نحاسب محمد بن سلمان مثلا على جرائم القتل التي ارتكبها في باتل باس ونداء الواجب، إذا لم يكن باستطاعة الأزهر محاسبته على القتل الواقعي؟!

 



وإذا نظرنا إلى حجم الأموال التي دفعها أحد صبيان الأمير للنادي الأهلي المصري، والتي يقدرها البعض بمئات الملايين (بين 350 و500 مليون حسب تسريبات المقربين)، فإن السؤال يصبح: إذا كان تركي آل شيخ مسؤول الترفيه "بوللي زمانه" يدفع هذا المبلغ في جهة واحدة، وعندما يعلن النادي الأهلي عن عزمه رد التبرعات لا يقبلها المسؤول الترفيهي بل يعلن من جانبه التبرع بها لصندوق "ترفيهي" آخر يلعب به "السيسي المصري" تحت شعار "تحيا مصر"، فكم من الأموال يلعب فيها هؤلاء "الملاعيب الملاعين"؟!

(6)

الأرقام الاقتصادية المنشورة عن آخر ميزانية للمملكة تكشف عن أرقام ضخمة مخصصة للعبة الأمير (برغم عجز الموازنة)، وبشكل مباشر نشرت تصريحات رسمية عن تخصيص 64 مليار دولار لدعم  قطاع الترفيه بالمملكة في خطة عشرية تنتهي في 2030، وتذكروا جيدا أن هذا المبلغ (6.4 مليار دولار سنويا) لا يشمل عملية "التحديث السلماني" كلها، بل يختص فقط بلعبة الترفيه، التي يروج لها إعلام الأمير كخطة عصرية لجذب الاستثمارات وعبور الاقتصاد السعودي إلى مرحلة ما بعد النفظ، على الرغم من استمرار الاعتماد على "البراميل" في المرحلتين..!
 
لا تؤاخذوني على بعض التعبيرات أو على النظرة الناقدة الحاقدة لطريقة إنفاق الأغنياء، فكما اتفقنا نحن نلعب، وبالتالي لا يجب تطبيق قواعد العراك الواقعي، فإذا أطلقنا الرصاص على أحدهم، فإنه لن يموت، وبالتالي لا مكان للشرطة والقضاء بين المتنافسين في "لعبة"، إلا إذا كان الأمير يعتمد على "رشوة الحكم" ويغش في اللعب!

(6)

لا أعرف إن كنت مذنباً أم لا؟... أعرف أنني كنت أعمى، وأنا الآن أرى..

هكذا قال رجل الأعمال لصديقه عندما سأله عن "سر اللعبة"، والقول مأخوذ من الآية 25 في الاصحاح التاسع من انجيل يوحنا، أو كما يسميه الأمريكيون انجيل القديس جون، وهو صاحب الكنيسة التي وقف أمامها دونالد ترامب قبل أيام حاملا الإنجيل كمسوغ للقتل، فاللعبة التي أراد ترامب تصويرها لم تركز على تقديم صورة المسيح الذي يصفعه المتظاهرون على خده الأيمن فيدير لهم الأيسر ويتحول إلى "فداء"، بل اللعبة هي "مورتال كومبات"، أو حسب الآيات الترامبية المنقولة: إذا تجاوز المتظاهرون السور سيجدون الكلاب الشرسة في انتظارهم، وكذلك: عندما تظهر الفوضى يبدأ إطلاق الرصاص..

والحقيقة أن رجل الأعمال الذي ذكر لصديقه هذه الآية من الانجيل لا علاقة له بترامب، بل ظهر في فيلم "اللعبة" للمخرج المتميز ديفيد فينشر، والذي يناقش فيه فكرة الموت كسبيل للحياة، وكسبيل للرؤية، وسوف أخصص مقالا لهذا الفيلم بالتفصيل لنتعلم الكثير عن اللعبة ونتدرب علىيها حتى لا نخيب خيبة اللاعبين الذين ينفقون الكثير ولا يحصلون على أكثر من 51%.

(7)

في فيلم "اللعبة" أراد فينشر أن يهدم الواقع المزيف في حياة بطله، فخلق متاهة كابوسية انهارت فيها كل الحواجز بين الحقائق والأوهام، لكن الصدمة النهائية كشفت لنا أن البطل كان يعيش حياة محنطة زائفة، وكشفت له ولنا أنه كان أعمى، وبعد ان خاض كل تلك الأهوال صار يرى، لكن هناك من لا يجيد اللعب، فإذا قلت له نكتة، يرد: وبعدين؟، او يسألك أسئلة واقعية تفسد النكتة، وهناك من يحكم على اللعبة بقانون من خارجها، حتى لو كان "قانون واقعي" أو "قواعد عقائدية"، ولعلنا نتذكر النكتة الذي كان أحدهم يلعب فيها الشطرنج فقال له المنافس: قتلت حصانك، فاستأذن لدقائق وعاد ليقول لمنافسه وانا سممت لك حظيرة المواشي..!

تذكرت هذا اللاعب الذي "أهان اللعبة" عندما تحرك الأزهر ضد لعبة الكترونية يركع فيها الممثل أمام طوطم للتبرك والحصول على مكاسب في اللعبة، ورأيت أن اهتمام الأزهر يستحق النقاش، ليس لأنه أثبت أنه مؤسسة عصرية استفادت من دعوة "التحديث السيساوي" للخطاب الديني وصارت قريبة من شباب "الهوت دوج" ومقاتلي "باتل باس" و"ببجي"، لكن لأن الأزهر لم يهتم بالركوع لطواطم الحكام في عصره، وبمظاهر الكفر الواقعية، ولا بمشاكل الجائعين والخائفين والمرضى الذين لا يجدون العلاج، بل ولم يهتم بمن يتبرك بأسوار الأضرحة ويمارس الوثتية السياسية والدينية في تصرفات يومية كثيرة، لكنها تحرج منها في لعبة!

(8)

كنت أتمنى أن أنهي المقال في الوقت الأصلي من دون حاجة إلى "وقت إضافي"، لكن المبارة صعبة، خاصة بعد أن صارت اللعبة محكومة من خارج الملعب، وبعد ان صارت النتائج مرتبطة بمن يدفع أكثر من اعتمادها على من يجيد، لكنني أحب قبل صفارة النهاية أن أسجل هدفا في مرمى الأزهر عن طريق قصة مستقرة في ذاكرتي منذ دراستي لتاريخ الفن في الجامعة، والقصة عن أحد المستكشفين المهتمين بالدراسات الأنثربولوجية الذي عاش لفترة مع إحدى القبائل البدائية، وتعلم طريقة للتفاهم معهم وحرص على تصوير تقاليدهم، وقبل ان يتركهم ويعود أراد أن يشرح لهم أسباب سفره لنشر دراسته عنهم، وجاءت سيرة الصندوق الأسود الذي كان يحمله وينظر فيه كثيرا، فأخبرهم أنه كاميرا تسجل الصور، ولما شاهدوا صورهم أصيبوا بحالة من الذهول، وانتهى الموقف بالتحفظ على الباحث وعدم السماح له بالمغادرة إلا بعد تسليم الصندوق الأسود الذي يحبس فيه افراد القبيلة، وبالتالي يمكنه التحكم في حياتهم ومصائرهم، وهو الطقس الذي شاهدته في طفولتي في صنع العروسة الورقية التي يتم فيها تجسيد شخصية الساخرة الشريرة، ثم يتم تخريمها بالإبرة وحرقها مع ترديد كلمات: من عين فلان، ومن عين فلانة، وهو الاتجاه الذي يفسر إحدى نظريات نشوء الفن كقوة سحرية مرتبطة بالواقع، بحيث إذا مزق أحدهم صورتك فإنك تشعر بالإهانة، وإذا ارتدت صافيناز علم مصر، فإنها بذلك أهانت مصر.

لذلك فإن رواسب العقل البدائي في حياتنا لم تعد في حدود الأم الريفية الطيبة التي تؤمن بأن حرق الورقة سيحرق المرض، لكن مؤسسات الحكم والفتوى في بلادنا وفي بلاد أخرى لا زالت تعتز بالرواسب البدائية في تفكيرها، فتهمل شأن الإنسان الذي يسجد للحاكم، والحاكم الذي يركع ويحج في البيت الأبيض، وتهتم بولد يلعب!

وإذا كان تصرف الأزهر مقبولا من حيث المبدأ، ومن حيث حرصه على "أخلاق اللعبة" أكثر من حرصه على "أخلاق الواقع"، الا يجب إذن أن نحاسب محمد بن سلمان مثلا على جرائم القتل التي ارتكبها في باتل باس ونداء الواجب، إذا لم يكن باستطاعة الأزهر محاسبته على القتل الواقعي؟!

جيم أوفر

tamahi@hotmail.com

الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع