يمثل سقوط قاعدة الوطية الجوية في الغرب الليبي أهم حدث في المنطقة العربية بعد استيلاء قوات الحكومة الشرعية على القاعدة وهروب حفتر ومليشياته منها نحو الشرق. يستقي الحدث أهميته من كون الملف الليبي قد استحوذ خلال السنوات والأشهر الأخيرة على أنظار القوى الفاعلة والمتحركة على رقعة الشطرنج بسبب انخراط جهات دولية وإقليمية عديدة في ليبيا. بناء على ذلك فإن المعركة هناك ليست فقط معركة بين الثوار ممثلين في الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا ومقرها العاصمة طرابلس وبين المشروع الانقلابي ممثلا في المليشيات والمرتزقة على الأرض ومقرهم الشرق الليبي.
لم يبق في الغرب من حصن انقلابي سوى مدينة "ترهونة" التي سيمثل سقوطها بعد سقوط قاعدة الوطية وسقوط غرفة العمليات في غريان وتحرير الشريط الساحلي نحو الحدود التونسية ومعبر رأس جدير تطهيرا كاملا للغرب الليبي. فما هي رمزية الانتصارات الأخيرة في ليبيا محليا وإقليميا وعربيا ودوليا؟ وما هي التداعيات التي ستُحدثها عربيا على المسارات الانتقالية في المنطقة؟
نسبية الهزيمة في ليبيا
إن الإقرار بانكسار الانقلاب وهزيمة المشروع الدولي الذي لا يمثل حفتر إلا واجهته الأمامية هو قوْل سابق لأوانه لأن المعركة مع هذا المشروع لا تزال طويلة سواء على المستوى العسكري أو السياسي أو الدولي. فالبرنامج الذي وُضع ضدّ ثورة فبراير بإشراف قوى دولية ليس برنامجا ليبيًا بل هو برنامج إقليمي هدفه منع سقوط النظام الرسمي العربي ومنع تحوير اتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية التي قد تجاوزت صلاحيتَها منذ 2016.
ليبيا قطعة هامة في مشروع الثورات المضادة لأنها تقع بين منوالين مختلفين وهما المنوال التونسي في الغرب والمنوال المصري في الشرق. تُقيّمُ التجربة التونسية باعتبارها تجربة ناجحة نسبيا إذ إنها لم تسقط في الفوضى والعنف والاقتتال بل حافظت على مسارها السياسي السلمي. أمّا التجربة المصرية فقد سقطت في الانقلاب العسكري الدامي وعاد الاستبداد أبشع من ذي قبل. هدف الانقلاب على ثورة فبراير إذن هو إلحاق التجربة الليبية بالمنوال المصري وإحياء نظام القذافي ومنع كل مسار سياسي ديمقراطي قد يؤدي إلى دولة حرة ديمقراطية تعمل وفق نظام المؤسسات واحترام السلطات والقانون.
بناء على ما تقدّم فإن الهزيمة العسكرية في الغرب الليبي ورغم أهميتها الاستراتيجية والمعنوية فإنها ليست إلا خطوة في طريق طويل نحو إفشال المشروع الانقلابي. صحيح أن الوجه العسكري هو أخطر وجوه الانقلاب لكنه لا يمثل إلا رأس جبل الجليد في مشروع سياسي استراتيجي لكامل منطقة المغرب الكبير وشمال إفريقيا. لن يكون إفشال المشروع الانقلابي في وجهه العسكري كاملا إلا بتحرير كل المدن الليبية من المرتزقة ومن المليشيات ومن القوات الأجنبية التي تقاتل إلى جانب الانقلاب.
المشروع الدولي
ليست التصريحات الأخيرة للأمين العام لحلف شمال الأطلسي بأن الحلف لا ينظر إلى القوتين المتصارعتين في ليبيا على قدم المساواة إلا إقرارا ضمنيا بفشل المشروع الانقلابي. وليس التحول الذي عرفته المواقف الدولية في المدّة الأخيرة من هجوم المليشيات الانقلابية على العاصمة طرابلس إلا تأكيدا لهذا الإقرار.
هاته القوى الدولية التي صمتت مدّة عشر سنوات من عمر الثورة الليبية على الانتهاكات الخطيرة التي ارتكبها حفتر والمرتزقة الروس ومجاميع المداخلة الإرهابية وقوات الجنجاويد وغيرها من المليشيات هي نفسها اليوم التي تنادي بأهمية العملية السياسية وعلويتها. لم يكن المجتمع الدولي بمنظماته ومؤسساته الحكومية والمدنية محايدا في الأزمة الليبية ولم يكن المبعوث الأممي برناردينو ليوني ومن بعده غسان سلامة وسطاء محايدين. لقد غضت المجموعة الدولية الطرف على شحنات الأسلحة التي تصل يوميا إلى الغرب الليبي قادمة من الإمارات ومن روسيا ومن سوريا عبر خطوط خاصة أو عبر شركة أجنحة الشام السورية رغم قرار مجلس الأمن الذي يحظر توريد السلاح إلى ليبيا.
تبقى العملية السياسية أحد أهم التحديات المستقبلية التي تواجه الجميع في ليبيا بعد تصفية المشروع الانقلابي وهي المعركة الحقيقية القادرة على إنجاح مشروع ثورة فبراير والقول فعلا إنّ دم الشهداء لم يذهب هباء.
لم تكتف المنظمات الدولية بذلك بل إنها اقتصرت على إدانات خجولة لجرائم إرهابية بشعة حدثت في مدينة بنغازي مثل التصفيات الجسدية والتمثيل بالجثث وقصف المدنيين وعمليات القتل على الهوية والتهجير القسري وغيرها من الجرائم التي ارتكبتها قوات حفتر ومليشياته. ثم إن انتداب الإمارات للمبعوثين الأمميين إلى ليبيا يؤكد دون شك أنهما كانا يشتغلان لحساب طرف ضد طرف آخر هناك.
ليس من مصلحة المجموعة الدولية وعلى رأسها فرنسا وإيطاليا وروسيا وبقية الدول الغربية التي لديها أطماع في ليبيا أن يستقر الوضع هناك وذلك لأسباب عديدة. فبقطع النظر عن الأطماع الاستعمارية التقليدية تمثل الساحة الليبية اليوم حقلا خصبا للتجارب العسكرية ولتدريب القوات ولسوق السلاح الذي تجني منه الشركات العالمية أموالا طائلة. ثم إن نجاح الثورة في ليبيا سينقلها من دولة فاشلة قامت على أنقاض نظام استبدادي إلى دولة ديمقراطية قادرة بفضل ثوراتها وطاقاتها البشرية ومحيطها العربي والمغاربي على أن تكون نموذجا عربيا وإفريقيا ومغاربيا ناجحا وهو ما تخشاه القوى الاستعمارية القديمة والجديدة.
ليست الإمارات وليس النظام الانقلابي في مصر ولا بقية الدول العربية المتورطة في الصراع الليبي بما فيها الأردن إلا أدوات دولية عالمية من أجل صياغة نماذج ما بعد الربيع وهو ما يجعل من هذه المعركة معركة محورية وعلى قدر كبير من الخطورة والأهمية. تبقى العملية السياسية أحد أهم التحديات المستقبلية التي تواجه الجميع في ليبيا بعد تصفية المشروع الانقلابي، وهي المعركة الحقيقية القادرة على إنجاح مشروع ثورة فبراير والقول فعلا إنّ دم الشهداء لم يذهب هباء.
قصف العاصمة.. دوافع توحش حفتر وسبيل احتوائه
عاصفة السلام.. الفعل في الغرب والتداعيات في الشرق