إذا كان
للوعي الإنساني مستويات، فكذلك الفعل. وإذا كانت مستويات الوعي عسيرة التحقُّق، إذ
تقتضي دأبا في الدرس والفهم، وجديَّة في السعي لسبر أغوار الظواهر المختلفة؛ فإن
الترقي في مستويات الفعل يكاد يكون مُستحيلا إلا على الصادقين المصطفين، وهؤلاء
قلَّة نادِرة في تاريخ الإنسانيَّة من قديم؛ بل شديدة النُدرة في كل زمان(1). وحتى
إذا تجاوز الفعل الدوائر النخبويَّة، وصار فعلا جمعيّا جماهيريّا؛ فإن الصادقين
القادرين على الثبات إلى آخر رمق يظلوا نُخبة جد قليلة، مقارنة بجحافل الزاحفين في
الفعاليَّات الجماهيريَّة. وخُذ غزوة أُحُد بوصفها مثالا تربويّا نموذجيّا، وكل
غزواته صلى الله عليه وآله وسلم كذلك؛ فإنها صدمة كفيلة بإيقاظ الغافِل، ودرس
رباني مطرد، متجاوز للزمان والمكان؛ يكشِف لك أن الرهان يجب ألا يكون على الكثرة (مثل
غزوة حُنين)، وإنما يجب أن يقتصِر على القلَّة المؤمنة؛ بل يجب أن يتعلَّق حصرا
بالإيمان وبطاعة حضرة الموحى إليه.
وقد كانت
أول صدمة إدراكيَّة حقيقيَّة من تاريخنا الحديث، كشفت لي حقيقة ذلك؛ هي التَبِعات
التنظيميَّة لقرار حكومة إبراهيم عبد الهادي حل جمعيَّة الإخوان المسلمين، عام 1948م؛ عشية اتهام الإخوان باغتيال النقراشي. فما بين
قرار الحل واعتقال جمهرة قيادات الإخوان، وانتهاء باغتيال الأستاذ البنا رحمه
الله، في شباط/ فبراير 1949م؛ اختفى عشرات الآلاف من المترددين على دروس
البنا العلنيَّة، وعلى دار الإخوان؛ آناء الليل وأطراف النهار. وانفضَّ الدراويش
من حوله، حتى نقل عنه غير واحدٍ (من المقربين) شدَّة ندمه على تضييع وقته في
التسييس المفرِط للحركة، وزيادة حجمها بغير فائدة (كالورم!)، وعزمه، إن مُدَّ له
في أجله؛ التفرَّغ لتربية مئة شاب من المختارين.
ثم كانت
الصدمة الثانية كامنة في الثورة الإسلاميَّة في إيران. إذ رغم أن طبيعة الوعي
الجمعي وتكونه، وأثره في حفز الفعل الجماهيري؛ تختلِف في التسنُّن عن التشيُّع،
لأسباب لا مجال لبسطها ها هُنا؛ وأن تكوّن الوعي في التشيُّع أرسخ وأشد كفاءة
وفعاليَّة من التسنُّن، بما لا يُقاس، وثمرة ذلك أن الفعل الجماهيري الإيراني نجح
في إزالة نظام بهلوي الطاغوتي في ملحمة حقيقيَّة؛ فقد كانت محدوديَّة الطاقة
الروحيَّة للجماهير، وصِغَر حجم النخبة التي رباها الإمام الخميني؛ سببا مباشرا لا
في انتهاء اللحظة الثوريَّة النماذجيَّة بسرعة، حتى لم يَعُد هناك أي توازٍ حقيقي
بين طاقة الإمام الروحيَّة المتجددة، وطاقة الجماهير؛ بل امتدَّت الأزمة إلى
تفاقُم الضغوط الجماهيريَّة لإنهاء الحرب التي اضطُرت لها إيران بعد عدوان العراق
البعثي، ولو على حساب المشروع الدعوي- الثوري؛ وهو ما تزامَن مع سُرعة انتقال
إيران من الثورة إلى الدولة. أو لنكون أكثر دقَّة؛ سرعة انتكاسها بنيويّا إلى دولة
الشاه بعد صبغ الظاهر بصبغة إسلاميَّة.
وقد كانت
الجماهير التي خرجت لإزاحة الشاه هي نفسها الجماهير المتعطِّشة للرفاه والراحة
والرخاء، التي لا طاقة لها بتحمُّل شظف طويل الأمد شديد القسوة كشظف شِعْب أبي
طالب. وهي أزمة الضعف الإنساني عموما، وضعف الإنسان الحديث خصوصا، ومأساة
تطلُّعاته الماديَّة؛ وشبقه إلى الترف والإخلاد إلى الأرض.
كانت القيادة أسبَق كثيرا، على كل المستويات؛ من الجماهير. وكان هذا السبق الهائل عبئا على الطرفين. وفي الحالتين، كانت طاقة القيادة تفوق طاقة القواعِد بكثير، وكان حجم "القلة المؤمنة" أصغر وأضأل كثيرا من أن يحمل عبء الحركة كاملة
وفي
الحالتين، كانت القيادة أسبَق كثيرا، على كل المستويات؛ من الجماهير. وكان هذا
السبق الهائل عبئا على الطرفين. وفي الحالتين، كانت طاقة القيادة تفوق طاقة
القواعِد بكثير، وكان حجم "القلة المؤمنة" أصغر وأضأل كثيرا من أن يحمل
عبء الحركة كاملة.
إذ من
البدهي أن الحركة الإسلاميَّة، والمجتمع المسلم؛ لا يكون أفرادهما جميعا على نفس
المستوى
الإيماني، ولا على ذات الدرجة من الوعي. لهذا، فلكل مجتمع نسبة ملائمة
لعدده، من أهل الوعي والإيمان؛ تستطيع حمله، والمضي به إلى غايته الإلهيَّة؛ كما
يُستفاد من التجربة النبويَّة الشريفة، على حضرة صاحبها وآله أفضل الصلوات وأتم
التسليمات، إذ حوى مجتمعه من القاعدين والمخلَّفين والضعفاء والمنافقين، ومن
يريدون الدنيا؛ ما حوى(2).
لكنَّ
الحداثة قد جعلت جاذبيَّة الحركة الجماهيريَّة وضخامتها تطغى على المركزيَّة
النبويَّة للفعل التربوي طويل الأجل، بل وتكاد تُهمِّشه؛ فلا تُفيق قيادة الحركة
الإسلاميَّة (في عصرنا هذا) إلى هذه الإشكاليَّة البنيويَّة إلا في اللحظات
الحرِجة. وقد كان هذا الوهم الحداثي من المزالق التي تساوى فيها وقوع الفقيه
التقليدي (الإمام الخميني) مع الداعية الحداثي (الأستاذ البنا) فوقعا في ذات
الإشكال، ولم يُدركا حجم الأزمة إلا بعد فوات الأوان.
الحداثة قد جعلت جاذبيَّة الحركة الجماهيريَّة وضخامتها تطغى على المركزيَّة النبويَّة للفعل التربوي طويل الأجل، بل وتكاد تُهمِّشه؛ فلا تُفيق قيادة الحركة الإسلاميَّة (في عصرنا هذا) إلى هذه الإشكاليَّة البنيويَّة إلا في اللحظات الحرِجة
وذلك رغم
أنه إدراكٌ قد تغلغل واضحا في مسلك أبي الحداثة الإسلاميَّة، السيد جمال الدين
الأفغاني؛ وآرائه. بل وكان حاضرا في مثلي الإمام علي وابنه الحسين، حضورا جليّا؛
فقد قيل عن الأول في حياته: "صلاتي خلف علي أقوم، وطعامي عند معاوية أدسم"،
وقيل للثاني: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك"؛ أي أن الصراع الجواني بين الحق
والباطل والخير والشر قد برز لشدته إلى المجال البراني، حتى كان قتلة الحسين
يُصلون خلفه إذا حانت الصلاة؛ ثم ينسلوا بعدها عائدين إلى جيش ابن زياد!
ثم شاء
الله أن نعيش أحداث 2011م، واندلاع ما سُمي بـ"الربيع العربي"؛
الذي لم يُثمِر قيادات حقيقيَّة في مصر، ولا في غيرها؛ كما لم يكُن ثمرة تبلور
لوعي أو نُخب حقيقيَّة، وإنما مُجرَّد هبَّات تلقائيَّة على سوء الأوضاع، تطورت
بسُرعة؛ ولم تُفِد منها المجتمعات شيئا حاشا انكشاف عوراتها.
وقد طوت
هذه الأحداث المثال الثالث الصادم (لافتقاد أدنى قدر من الوعي بزيف المقدرة
الجماهيرية) وهو تنظيم الأخ والصديق الصادق حسام أبو البخاري لتظاهُرة (ضمَّت
عدَّة آلاف) إلى مقر جهاز أمن الدولة في حي مدينة نصر بالقاهرة. ثم انقضى الأمر،
ووقع الانقلاب؛ وبقي حسام من أكثر أبناء جيلنا شعبيَّة وجماهيريَّة. فلما حان وقت
فض اعتصام رابعة العدويَّة، وكان الرجل مُعتصما مع المعتصمين، من الإسلاميين
المستقلين؛ أطلِقت عليه النار وحُمِل مُثخنا إلى المعتقل مذ ذاك، ولا بواكي له. أين
ذهبت الجماهير الكثيفة التي كانت تشاهد برامجه وتتابع منشوراته وكتاباته بحماسة؟! بل
أين ذهبت اﻵﻻف التي خرجت وراءه في التظاهرات؟! تبخروا... فهذا هو مبلغ الجماهير من
العزم والفعل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هل تُريد
مثالا أفجع عزيزي القارئ؟!
إليك ما
تطويه قصَّة الشيخ عبدالحميد كشك، مع البَيْض؛ فهي جد كاشِفة عن حجم المعاناة
الإنسانيَّة. إذ بعد الإفراج عن الشيخ رحمه الله عام 1982م، وكان قد اعتُقِل في أيلول/ سبتمبر 1981م، في ما سماه السادات بقرارات التحفُّظ؛ تجمع عدد
كبير من المريدين بعد صلاة الجمعة، أمام المسجد الذي اعتاد أن يلقي فيه خطبه
الناريَّة (مسجد عين الحياة بحي دير الملاك) مُطالبين بعودته للخطابة. وبعد قليل،
توقَّفت شاحنة ضخمة مُحمَّلة بأطباق البيض الكرتونيَّة بجوار المتظاهرين، ونادى
مناد بأن البيض بنصف سعره في الجمعيَّات الاستهلاكيَّة. فأخذ المتظاهرون يسترِقون
النظر لبعضهم بعضا، قبل أن يشرعوا بالتسلل واحدا فواحدا إلى بائع البيض، اهتبالا
للفرصة. وبعد دقائق، كانت المظاهرة قد انتقلت إلى الالتفاف حول شاحنة البيض؛ الذي
نفد في أقل من نصف ساعة.
ثم أخذ
المتظاهِرون ينظرون إلى بعضهم بعضا: أنُكمِلُ التظاهُر بهذا البيض أم ننصرف،
ونواصِل التظاهر في فرصة أخرى؟!
وجاءت
الإجابة في صورة عربات قوات الأمن، التي وصلت لتوها؛ وراح الجنود يتدفقون من
داخلها لملء الساحة، التي كانت متخمة قبل قليل بالمتظاهرين. ولم تستغرِق الجماهير
وقتا في المفاضلة، وتفضيل الحفاظ على سلامة البيض الذي حصلوا عليه بنصف الثمن، على
تعريضه للكسر؛ والانصراف مُكتفين بهذه الغنيمة الدنيويَّة. فقد كان البيض عندهم
فرصة لا تعوض، لكن إعادة الشيخ للخطابة يُمكن اختلاق فرص أخرى لها. لكنَّ الشيخ لم
يعُد للخطابة بعد ذلك أبدا، ولا تظاهر لأجل إعادته أحد بعد هذه الواقعة.
وقد
اعتُقِل أخي أيمن عبد الرحيم قبل عامين تقريبا، وله آلاف التلاميذ الذين استمعوا
لمحاضراته، وأفادوا من دروسه الماتعة؛ بل وزادت محنة اعتقاله من القبول الذي كتبه
الله لهذه الدروس، وحظي الرجل بمحبَّة إضافيَّة من قطاعات عريضة من الجماهير،
عشرات إن لم يكن مئات اﻵﻻف حول العالم. لكنَّها جماهير مُدجنة كجماهير الشيخ كشك
من قبل، لا تُحسِنُ حتى الدعاء ولا تصدُق فيه، ناهيك عن الحركة الغائيَّة؛ التي قد
تستنقِذ من لم يتوقفوا لحظة عن تقريظه ومدح علمه وفضله عليهم.
ومثل هذا
الزيف "العلمي"، والإخلاد إلى الأرض؛ ينطبِقُ كذلك على جمهرة قراء الكتب
والصحف والدوريات ووسائل التواصُل الاجتماعي، الذين يُتابعون هذا أو ذاك،
ويتشيَّعون لهذا أو ذاك. فإنهم جميعا قد التصقوا بالأرض ومتاعها، بافتراض حسن
النوايا؛ ولن يحركوا ساكنا لنُصرة حق أو إبطال باطل.
هذا الزيف "العلمي"، والإخلاد إلى الأرض؛ ينطبِقُ كذلك على جمهرة قراء الكتب والصحف والدوريات ووسائل التواصُل الاجتماعي، الذين يُتابعون هذا أو ذاك، ويتشيَّعون لهذا أو ذاك
لهذا،
فإن "كثرة التبع" لا تدل على أي شيء من حقيقة المتبوع، لا دينه ولا
أمانته ولا صدقه ولا إخلاصه، ولا حتى قدرته "الحركيَّة". لا شيء تقريبا
حاشا تلبيته غالبا لما يريد القافة سماعه، أو تعبيره عنهم وعن أشواقهم، بصورة أو
بأخرى؛ إن صدق في ما يُلقيه بغير مداهنة للمتلقين. لكنَّ كثرة التبع والقافة
والحواشي من القراء والمتابعين أمر دال، من جهة أخرى، على أن أكثر البشر
مُقلِّدين، وعلى أن الدوران مع كل ناعِقٍ لا يُكلف شيئا. ولو علم المفتون بكثرة
التبع كم ذم القرآن عقليَّة القطيع، وكيف قبَّح (في كل موطن) الأكثريَّة التي لن
يخلُص إيمانها غالبا ولن تؤمن إلا بلسانها... لو علم هذا المفتون أن الأكثريَّة
تنفَضُّ دوما حين يتهدَّد الإيمان مصالحها الدنيوية الصغيرة، وأن "الدين
لَعْقٌ بأطراف ألسنتهم ما دُرَّت به معائشهم؛ فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديانون"،
كما قال مولانا الحسين بن علي، عليهما السلام؛ لو علم الخلق ذلك لما اغتروا بشيء
من كثرة التبع، ولا كتموا ما يعتقدون أنه حق مخافة إغضاب القافة والحواشي
والدراويش.
فقد انفض
الناس عمن هو خير من كل أهل زماننا: الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام؛ تفضيلا
للدنيا وإيثارا لفتات متاعها، وهذه سنة نفسية واجتماعيَّة لم ولن تتغير. وإن
المحاولة العبثيَّة للتحايُل على هذه السنة الإلهيَّة، بمراءاة الناس وإسماعهم ما
يريحهم؛ لن تُثمر صدقا في المتبوعين، ولا إخلاصا في الاتباع؛ وإنما ستُثمر فسادا
في الرسالة التي يُرسلها الداعي/ الكاتب، وصدّا طويل الأجل عن سبيل الله.
كان هذا
موجزا لقصة خُذلان الجماهير، ومن اعتمدوا عليها. إنها قصة أكثريَّة بني آدم في
المفاضلة بين العزيمة والترخُّص، والحركة والسكون، وبين الجهاد والقعود، والدنيا
واﻵخرة. إنها القصة الأزليَّة لإخلاد الإنسانيَّة الدائم إلى الأرض، في تواتُرها
وتكرارها المزعِج؛ التي يعجز بعض الأفاضل عن سبر غورها وإدراك دلالاتها الكاشِفة.
__________
الهوامش:
1- راجع على سبيل المثال، لا الحصر؛ قصة طالوت
وجنوده في أواخر سورة البقرة.
2- للمزيد حول هذه المسألة تراجع سلسلة
مقالاتنا في 2015م، وما بعدها؛ عن الحركة الإسلاميَّة، وهي متوفرة على الإنترنت.