كتاب عربي 21

في ذكرى الاحتلال الفرنسي: طبقة الملاكين المماليك!

1300x600

مر يوم 12 أيار/ مايو الجاري، ذكرى الاحتلال الفرنسي لتونس سنة 1881. لحظة كاشفة لمسألة جوهرية في مجتمعات عاشت الاستبداد السياسي ومسار الهيمنة الاقتصادية وحالة الاستعباد بين دولة الملاكين ومجتمع المجبى، حيث يكون الطرف المهيمن مستعدا لقبول هيمنة خارجية مباشرة وتسليم البلاد دون مقاومة جدية، رغم سياسة البطش التي درج على ممارستها بلا رحمة لضمان استمرارية هيمنته على الداخل. في السياق التونسي، في القرن التاسع عشر كان أغلبهم من المماليك، وكانوا يملكون مساحات شاسعة من الأراضي، لكن كانوا الأقل استعدادا لمواجهة هيمنة عسكرية أجنبية.

إثر احتلال مدينة بنزرت (بدون إطلاق رصاصة واحدة صبيحة يوم 1 أيار/ مايو) وإنزال ستة آلاف جندي فرنسي في مينائها، توجه رتل قوات الاحتلال بقيادة الجنرال Bréart بدءا من يوم 8 أيار/ مايو بتؤدة إلى مدينة تونس، أقام معسكرا في الجديدة ثم دخل صباح يوم 12 أيار/ مايو إلى منوبة (حيث توجد بعض قصور الباي)، استقبله (حسب المصادر الفرنسية) كثير من الفضوليين وسط عزف قوات الاحتلال موسيقى أغنية عسكرية تعود للثورة الفرنسية (Chant du départ)، كانت أمطار غزيرة تهطل في تلك الأيام.

في كل هذه الأثناء، اكتفى ملك البلاد محمد الصادق باي برد فعل واحد هو احتجاجه لدى السفير الفرنسي "لوجود القوات الفرنسية قرب مقر إقامته"، ثم أرسل في قبول الجنرال Bréart قائد القوات الغازية في قصره في باردو.. كأنه ضيف قادم في زيارة مجاملة.

في اليوم ذاته، الساعة الرابعة ظهرا، امتطى الجنرال الفرنسي مع مساعديه خيولهم تحت الأمطار الغزيرة متجهين إلى باردو، حيث استضافهم الصادق باي برفقة وزيره الأكبر (من المماليك وغلامه سابقا حسب بعض المصادر) مصطفى بن إسماعيل. سبقت الجنرال الفرنسي برقية أوصلها سفير باريس عرضت تفاصيل اتفاقية "الحماية". طلب الصادق باي أن يجتمع بمستشاريه، ولم يقض سوى ساعتين ليخرج بعدها مستعدا للإمضاء أمام الجنرال الفرنسي على "اتفاقية" الاحتلال.

هكذا سقطت مدينة تونس، أيضا دون إطلاق رصاصة واحدة. واعترف ملك البلاد بالسلطة الفرنسية على كامل أراضيه.

قبل الاحتلال بفترة وجيزة، كانت نخبة السلطة تمارس أقصى درجات الاستغلال و"استخراج" الثروات، حتى انتشرت "جعالة" أو رشوة خاصة تتمثل في تلقي الوزير الأكبر الرشوة مقابل شراء الوظائف، خاصة وظيفة الوالي (العمال والقادة)، حيث كانت رواتبهم هي نسبة من المجبى (حوالي 10 في المئة). وهكذا كانت مصلحتهم في إثقال الأهالي بالجباية حتى تزيد حصتهم.

 

قبل الاحتلال بفترة وجيزة كانت نخبة السلطة تمارس أقصى درجات الاستغلال و"استخراج" الثروات، حتى انتشرت "جعالة" أو رشوة خاصة تتمثل في تلقي الوزير الأكبر الرشوة مقابل شراء الوظائف

في عهد مصطفى بن إسماعيل (1879)، "حصلت في أثناء هاته المدة الرشوة التي كادت تتناسى سيما في توظيف العمال. كما ولى الوزير مصطفى بن إسماعيل على المنستير رجلا نائبا عن العامل بجُعل ينيف عن المئة ألف (ريال)، وكان ذلك الرجل مدينا للأجانب واشترى الوظيف لخلاص ما اشتراه به ولخلاص دينه وتكسبه، وامتدت يده إلى الأهالي وإلى النواب الذين تحت نظره، وتفاقم الأمر مع شدة الضعف المالي في الساحل، واشتكى رعايا الأجانب إلى قناصلهم هناك، لأن أهل الساحل لم يزالوا في رق دينهم" (محمد بيرم الخامس، صفوة الاعتبار، الجزء الثاني، ص 590).

بعد سنتين احتلت فرنسا تونس دون طلقة واحدة في أغلب المدن. استسلم الباي ووزيره الأكبر مصطفى بن إسماعيل، وأهم العائلات المخزنية، ولم يدافع عنها إلا بعض أهالي الحواضر والقبائل.

سقطت مدينة تونس ومدن أخرى على السواحل، لكن دواخل البلاد وجنوبها بقيت تقاوم حتى سنة 1884. لعب القائد القبلي علي بن خليفة النفاتي (زعيم قبيلة نفات التي كانت تتحرك في الوسط وخاصة قرب مدينة صفاقس) دورا أساسيا، حيث قاد من منفاه في ليبيا مع العديد من اللاجئين التونسيين مقاومة مستمرة أقضّت مضجع الفرنسيين ونخبة السلطة المحلية، إلى حد أن الباي وجه رسالة تهديد تاريخية للمقاومين المتمركزين في طرابلس تعكس خضوعه المخزي للطرف الفرنسي، وذلك في كانون الأول/ ديسمبر 1884.

مما جاء فيها؛ "إنكم لما جاهرتم بالعصيان ضد أوامر حكومتنا، ارتكبتم عملا يستنكره العدل والعقل وبقيت أغلبيتكم بالبلاد، وأيدت الحكومة الفرنسية الفخيمة والمجيدة التي قبلنا حمايتها الفعالة، تلك التدابير الرحيمة التي أزالت عن أبصاركم غشاوة الضلال هذا، وإن منكم من لم يثب إلى رشده، على أن الحكومة الفرنسية من حقها استعمال القوة لإكراهكم على الرجوع إلى الإيالة، وذلك وفقا للسلطات التي منحتها لها المعاهدة التي أمضيناها معها".

 

بسط الاحتلال الفرنسي سلطته عبر عائلات مخزنية سادت البلاد لعشرات السنين


إثر ذلك، بسط الاحتلال الفرنسي سلطته عبر عائلات مخزنية سادت البلاد لعشرات السنين، ينطبق ذلك على عائلات الجلولي والدنقزلي والبكوش وبن عمار؛ التي تقلدت مهام حكام الولايات والمشيخات وارتقت برعاية سلطات الاحتلال لمواقع الوزير الأكبر في الحكومات المتعاقبة، ولكنها لم تكن تملك أي صلاحيات حقيقية.

 

ومثلما يخلص التقرير التأليفي الذي أعدته سلطات الحماية والموجه للرئيس الفرنسي سنة 1890، "أقامت إدارة الحماية الفرنسية لنفسها قاعدة تتمثل في الحفاظ على كبار الملاكين ورموز العائلات المحترمة التي تعود الأهالي على قيادتهم" (انظر مؤلف فتحي العيادي "أن تكون قايدا.. ثم وزيرا" 2017). هذا التحالف الموضوعي القائم على توظيف ملاكين أجانب لملاكين محليين وسياسة الإخضاع عبرهم، مثّل حجر الزاوية في مشروع الاحتلال، ومفهوم الدولة وتسيير الشأن العام فيها لعشرات السنين.

 

الديمقراطية ليس لها معنى إن كانت فقط عملية تداول شكلي عبر تقنية الانتخابات. وإن لم تمس البقرة الاقتصادية المقدسة وتحرر القطاع الخاص من طبقة الملاكين المماليك، فلا شيء سيتغير

يتحدث المؤرخ الأمريكي قوندر فرانك في تحليله لمثال أمريكا اللاتينية عبر القرنين التاسع عشر والعشرين على "التنمية الرثة" و"البروجوازية الرثة"، حيث تمنح السلطة السياسية مجالات احتكار لطبقة ملاكين وتجار محليين، بما يسمح بتواصل الهيمنة الأجنبية. تعطل التنمية في النهاية يعود إلى هذه المعضلة، هذه العلاقة المحرمة بين المهيمن المحلي والآخر الأجنبي. وهذا النموذج النظري هو الذي دفع به منظرون آخرون نحو فكرة "الاستعمار الداخلي".

الديمقراطية ليس لها معنى إن كانت فقط عملية تداول شكلي عبر تقنية الانتخابات. وإن لم تمس البقرة الاقتصادية المقدسة وتحرر القطاع الخاص من طبقة الملاكين المماليك، فلا شيء سيتغير، وما سيحصل هو فقط تحول النخبة السياسية "المنتخبة شعبيا" إلى ملحق طفيلي آخر، يعمل لمصلحة الأطراف المحلية والأجنبية الممولة للحفاظ على منظومة التراتبية والهيمنة بتزويق ديمقراطي، وهذه الدائرة غير المجدية والعبثية لن تفعل إلا توفير كل مكونات الانقلاب على الديمقراطية؛ فالانقلابات لا تخلقها المؤامرات الطارئة أساسا، بل ظروف هيكلية عابرة للزمن كامنة في منظومات الاقتصاد والاجتماع والسياسة.

twitter.com/t_kahlaoui