نتحدث عن الفرج القريب وعن عودة الحياة إلى سالف زخمها، ونستعد للاحتفال بالعيد داخل أسرنا ونحمد الله. مؤشرات انقشاع الوباء تترادف. قد تكون الخسائر المادية أقل من المتوقع. خسر أولادنا عاما دراسيا، وسيكون في تكوينهم فراغ كبير، ولكن قد يمكن التعويض بشيء من الجهد في مقبل السنوات. غير أن حديث التفاؤل هذا لا يتسع ليشمل توقعات السياسة
التونسية بعد كورونا. مؤشرات أخرى كثيرة تترادف لتكشف أن النخبة السياسية لا تزال ترابط في مواقعها ما قبل الوباء، وأنها تشحذ سكاكينها لتعود بعد الهدنة إلى سالف حربها المنحطة.
تحقير المنجز الصحي
أول مؤشرات الحرب المنحطة هي تحقير المنجز الصحي الذي قاده
وزير الصحة عبد اللطيف المكي. لقد حققت السياسة المتبعة مكسبا مهما هو الذي يعطينا الآن مؤشرات التفاؤل المذكورة، لكن قيادة هذا النجاح خاضت من أجله حربين؛ حربا ضد الفيروس بوسائل العلم وحربا ضد فيروسات السياسة التي لم تدخر جهدها في تحطيم المنجز لتحطيم قائده.
لقد حُقر المنجز في قلب المعركة، وروج كثيرون ومنهم خاصة أطباء وعلماء؛ إشاعات كثيرة كانت تنتهي كلها بالحط من سمعتهم العلمية. فالمنجز يقوده فريق من الأساتذة الكبار في اختصاصهم، لا وزير فرد. لقد كان التخذيل موجها لشخص الوزير لأسباب سياسية بحتة، فهو وزير إسلامي ويوشك أن يتحول نجاحه إلى زعامة سياسية تؤهله لأداور أكبر في المستقبل. تجاوز الوزير مثبطيه، لكن المعركة أعطتنا علامة على ما سيكون بعد الوباء.
التخذيل يصدر من نفس الجهات وبخلفيات الصراع القديم الذي لم يهذبه الوباء أو يخفف منه. حرب الإقصاء السياسي الموجهة ضد الإسلاميين قد انفجرت حلقة أخرى منها قبل نهاية الحجر الصحي، بالإعلان عن تعيين وزيرين مستشارين لرئيس الحكومة، فعادت اتهامات استيلاء
حزب النهضة على السلطة. ورغم أنه تبين أن التعيين يأتي ضمن سياق كامل تم فيه تعيين وزراء مستشارين سابقين (أكثر من عشرة من خارج
النهضة)، وأن وزيري النهضة هما آخر الواصلين، وأن كل ذلك كان ضمن اتفاق مكتوب زمن تشكيل الحكومة قبل الوباء، إلا أن حرب الدعاية ضد حزب النهضة لم تخفت وأقيمت لها البلاتوهات الإعلامية، فعدنا كأن لم يمر بنا وباء ماحق للبشر إلى نفس الحرب وإلى نفس الجبهات من أجل نفس الأهداف: إقصاء الإسلاميين من الحكم. غير أننا هذه المرة نتوقع معنى أبعد من مجرد إقصاء طرف سياسي، فنرى مشروعا أوسع يتجاوز حرب اليسار (عصا المنظومة البائدة) ضد الإسلاميين، لنتوقع اتجاهات السياسة في تونس بعد
كورونا.
حكومة الإصلاحات قد تبدأ عملها
نقول قد تبدأ إصلاحاتها لأننا لا نفلح في توقع مقدار التعطيل التي قد تضعه المنظومة التي ستخسر كلما تقدم الإصلاح. نتذكرها قد زرعت الإرهاب في الطريق منذ الثورة، وقادت المسيرات وخربت بكل الوسائل، وتسربت إلى
البرلمان وعطلت أعماله. لذلك نميل إلى الاعتقاد بأن الحرب ضد حزب النهضة هذه المرة ليس لأنه إسلامي، بل لأن دوره الحقيقي ومشروعه قد تبين لهم بوضوح ولم يعد قابلا للتمويه. إنه العامود المركزي الذي يسند هذه الحكومة ويقيم صلبها ويدفعها إلى الإصلاح، ويجر معه
الأحزاب التي كانت جزءا من المنظومة فيورطها في الإصلاح، فيجتنب أذاها ويحولها إلى صفه دون أن ينشغل بتلك المصالحات الأخوية غير المجدية، والتي لم تعد ذات جدوى ولن تكون إذا تورط خصوم الحزب في إدارة الدولة معه، وهو ما يجري الآن وتقرأه المنظومة تهديدا فعالا (يوجد هنا موقف يرى كل إسلامي فاسد بالقوة، وهو موقف لا آخذه بعين الاعتبار عند التحليل لأنه موقف يتلقى أوامره من السفير الفرنسي مباشرة).
لقد كان حزب النهضة يسعى إلى توريط شركائه الجدد، ولذلك تنازل عن كثير حتى أوقعهم في الشراكة، وهم الآن حيث أراد لهم: شركاء في حكومة تعلن برنامجا إصلاحيا، وكل خطوة مشتركة في اتجاه الإصلاح تقطع عليهم طريق العودة إلى ممارسة الإقصاء، ولو أن خطاب بعضهم لا يزال يقدم
التحية العسكرية لحفتر وبشار، لكنه خطاب تعزية ذاتية أكثر منه موقف سياسي فعلي.
هذا الاتجاه نحو الإصلاح وإن لم يكن شاملا وسريعا وفعالا منذ البداية، إلا أنه اتجاه يكشف بدء تاريخ جديد. هنا تخسر المنظومة وتتقدم حكومة حازت رضا شعبيا في
معركة كورونا، وقد تبني عليه فعلا سياساتها في الأيام والأشهر القادمة.
خسارات جذرية.. وبدايات
الخسارة الأكبر لمنظومة الفساد والاستبداد أن أدواتها السياسية الصغيرة تفككت واستحوذ عدوها الإسلامي على جزء كبير منها، أو على الأقل حيّدها في معركة الاستئصال، فهي تجلس معه في مجلس الوزراء وتخطط معه السياسات..
الخسارة التالية والجذرية هي أنه لم يعد لهؤلاء الشركاء من خطة غير الإصلاح لأنه صار مرادفا للشرعية، فلن يحكم أحد بعد حكومة 2019 إلا إذا تقدم على طريق الإصلاح. إننا إزاء تغيير في أسس الحكم: إما أن تصلح أو أن تندثر. والإصلاح يمر حتما بمحاربة الفساد المالي وأصحابه، أي عماد المنظومة القديمة التي أسسها نظام بن علي وقوّاها واستقوى بها.
لن نحقق هنا في صدق خطابهم، ولكن نقول لقد ورط السياسيون بعضهم البعض في هذا الأمر، فقد بنوا خططهم على محاربة الفساد، وورطهم الناخب في ما أطلقوا من وعود وهم الآن بين التنفيذ، وبالتالي إصلاح حال البلد أو انكشاف كذبهم على الناخب، والتراجع ومهادنة المنظومة والموت السياسي في أول انتخابات قد تسبق موعدها. وأول المتورطين رئيس الحكومة نفسه، فهو يسعى إلى البقاء ولن يبقى بمهادنة المنظومة بل بتصفيتها.
لقد منحت معركة الوباء مهلة للجميع، والآن، الوضع يتجه للانفراج وعودة الحياة السياسية والاقتصادية، سنتابع فصولا سخيفة من معركة الاستئصال القديمة. فليس لليسار التونسي ما يفعله غير ذلك، ولكن سنتابع الاختيار الحقيقي لمن زعم مقاومة الفساد (بما في ذلك حزب النهضة الذي أقام برنامجه على شعار العدل أساس العمران)، وها هو العمران خرب ينادي العدل. يمكن للحزب أن يسجل في الطريق مكاسب خاصة بتحييد بعض خصومه القدامى، لكن المكسب الأكبر هو إسناد الحكومة في معركتها ضد الفساد.
هذه الحكومة قائمة بحزب النهضة وهي رهينة له، وإن تكبّر شركاؤها ونفخوا صدورهم في بلاتوهات التلفزة، لأنهم يعرفون وزنهم الحقيقي بدون النهضة، ويعرفون مصيرهم لو تخلوا عن هذه الشراكة (يمكنهم امتداح حفتر وبشار لكنهم لن يحكموا دون النهضة)، ولكن نجاح الحكومة يتجاوز وزن الأحزاب إلى تنفيذ البرنامج المشترك المعلن عند التشكيل.
تنفيذ هذا البرنامج بعد انقشاع الوباء سيكون بداية أخرى لتونس؛ لا يفرض عليها الفاسدون شروطهم ولا يفرض فيها الاستئصاليون معاركهم الأيديولوجية المفوتة، إذ لن يكون هناك فساد يمول اليسار ليخوض الحروب فيما هو يراكم المال الفاسد ويتحدث عن التقدمية.