نتخيل حساب كلفة
التباعد الاجتماعي فنأخذ الأمر على محمل الهزل بالنظر إلى أنه خيال مفزع، لكن الحقيقة أشد فزعا. ماذا لو منعنا الوباء من تقبيل أولادنا؟ ماذا لو صارت القبلة العاشقة سببا لقتل الحبيب؟ كيف سنعيد كتابة قصائد الغزل كيف سنفتتح آهات الأغاني بغير أمنية التلاقي والترائي والتعانق ووضع الأنف على الأنف والتنفس اللاهب في وجه الحبيب؟
سأهرب من هذا إلى الحديث
الاقتصادي، فالعالم دون حضن الحبيب والولد لا يستحق أن نراه. للتباعد الاجتماعي كلفة نتخيلها حتى الآن من بعيد ولا نملك تقدير حجمها الحقيقي، ولكنها لا تقل عن كلفة إعادة ترتيب العالم على أسس جديدة. لقد استقر العالم على التقارب والتلاصق، وبرر بكل اللغات أن في القرب حياة وعليه الآن أن يعيد بناء اللغة نفسها، البقاء للأبعد.
المدن المباءات
لماذا بنى الإنسان مدنا كبيرة حتى تلاصقت من فرط حجمها فسماها "ميغالوبوليس"، وهو سعيد بعسر التنقل داخلها وصعوبة إيجاد مسكن فيها كأنه مكلف بتعقيد حياته اليومية من أجل غاية التكدس فقط؟ وباء
الكورونا يقول للإنسان المديني: المدن هي بؤر العدوى الكبيرة فالتقارب صار وبالا عليك. انظر إلى الريف أيها المديني المتكالب على المدينة، لقد أنقذ التباعد الناس هناك من الوباء فهم بخير، فلماذا لا تعود إلى قريتك؟
الوباء يعيدنا إلى سؤال البدايات: لماذا المدن إذا كان يمكن العيش خارجها؟ سنعود إلى التاريخ وإلى الثورة الصناعية وتكدس مواقع العمل في تجمعات صارت مدنا بلا ضفاف، والآن والعمل ممكن عن بعد والتنقل والنقل ممكن بوسائل حديثة ومرفهة، فلماذا تواصل المدن التهام الأرياف وتكديس البشر فتتحول إلى مباءات كارثية على سكانها؟
كورونا يدعو إلى التباعد في العمل والسكن والاحتكاك (البقاء للأبعد)، والريف أو القرى الكبيرة أو المدن الصغيرة تصبح أفق حياة صحية ومهنية دائمة. سيغير ذلك على سبيل المثال لا الحصر وجه الإنفاق العمومي. لقد مدتنا دروس علم اجتماع المدن والتنمية بصورة المدينة التي تلتهم كل الإنفاق العمومي لتيسير حياة جزء صغير من السكان، في حين يقبع الجزء الأكبر خارجها ولا يحصل على شيء معادل لحجمه من الإنفاق العمومي. ها نحن نجني ثمنا قاسيا لمثل هذا الإنفاق غير المتوازن (مدينة
تونس مثال مدرسي، حيث يلتهم ثلاثة ملايين ساكن أكثر مما يوجه للتسعة الباقين خارجها في ما يتعلق بتحسين البنية التحتية).
إن إحدى وسائل نقل العدوى (التي اضطرت حكومة تونس إلى فرض الحجر) هي وسائل النقل العام التي يتكدس فيها الناس طيلة اليوم، فينقلون بين بعضهم كل الأمراض المحتملة. ولا يمكن حتى لو توفرت الأموال (وهي ضنينة) تحسين وضعية النقل الحضري، فمضاعفة عدد حافلات النقل على سبيل المثال سيحرم كل سيارة خاصة من إيجاد مكان على الطريق.
ستكون إحدى وسائل التباعد الاجتماعي الصحي تفكيك المناطق الصناعية المحيطة بالمدن وإعادة نشرها في المدن الصغرى، حيث تزول مشكلة التنقل الحضري المكثف فيزول التلاصق ويصبح للدراجة مثلا دور أكبر في حياة الأفراد. تفكيك مراكز العمل المكثفة (وهو أمر قلدنا فيه صناعيي القرن 19 دون خيال) سيؤدي إلى تفكيك المدن ويخفض الطلب على أراضي البناء، ويعيد تثمين الأرض الزراعية وينقل الثقل الاقتصادي تدريجيا إلى الريف، أو المدن الصغرى المحتملة.
تفكيك المدن الكبرى سيجعل عدد التلاميذ في الفصل الواحد قليل. وهذه نتيجة بسيطة يسهل الوصول إليها بلا كلفة إضافية. تكدس المتعلمين في الفصل هو نتيجة لتكدس السكان في المدن، حيث لم يمكن توفير مبان كافية (الإنفاق على التعليم معضلة بلدان مثل تونس)، بينما يسهل التصرف في الأمر خارج المدن. (في بداية الاستقلال وحتى الآن يمنح بعض مالكي الأراضي الريفية أراضي مجانية للدولة لإقامة منشآت عمومية). إذا تم تخفيض الاحتكاك في النقل الحضري وفي المدارس فإن نقل العدوى بالاحتكاك أو بالتقارب سيقل أو ينعدم.
لنتخيل تغيير نمط الحياة جملة وتفصيلا يكفي أن ننطلق من التفكير المبسط والذي سيرسخ كحقيقة لا مراء فيها؛ أن فيروس كورونا سيعيش معنا (أو سنعيش معه لأنه صار المالك الحقيقي لكل فضائنا) كما عاش فيروس الإيدز وغيّر من عادتنا..
الكلفة العاطفية
كم ستكلفنا إعادة ترتيب حياتنا خارج المدن بعد كورونا؟ سيكون ثمنا رهيبا ويتوزع على أجيال وأجيال. ستهرب الحكومات من ذلك لفقد الموارد، ولكن الوباء سيذكرها بضرورة التخطيط لمستقبل شعوبها ضمن التباعد لا التقارب. وما أدرانا أن كورونا سيكون الوباء الأخير الذي يفرض التباعد الاجتماعي؟
لكن الكلفة الاقتصادية قابلة للتخيل والحساب ولو على أجيال متتابعة، أما الكلفة العاطفية التي تهربنا من الحديث عنها في أول الورقة فهي سبب حقيقي لتغير العالم. سنذهب إلى العمل ويذهب أطفالنا الصغار منهم والكبار إلى المدارس ثم يعودون ونعود، ولا يمكننا أن نتعانق خوفا منهم/ منا وخوفا عليهم/ علينا. ستصير القبلة على الخد سببا محتملا لموت طفلتك الجميلة وهي تعود بدفترها المدرسي ناجحة. أليس هذا كابوسا يزلزل الكون بل يعيد صناعة الإنسان أصلا؟ من نحن بدون تلك الموجات العاطفية الدافقة نحو مَنْ نحب، ولدا أو صديقا أو حبيبا؟ (الكابوس يجعلني أتخيل عريسين لا يتبادلان قبلة الحب الأولى إلا إذا أجريا اختبار كورونا سلبيا مثلما صار لزاما أن يجريا اختبارا طبيا ضد الأمراض المنقولة جنسيا).
نعيد رسم حدود الأبوة والبنوة العاطفية.. نعيد رسم شكل العلاقات الأسرية. هل ستمر حياتنا الزوجية باختبارات كورونا أولا؟ هل سنتقارب لنتناسل فقط كالمعز وبطريقته؟
ذهب التحليل وراء خيال مرعوب من فقد العمق العاطفي لحياة الإنسان؟ آه كم كنا غافلين عن هذا العمق كنا نعيشه دون تقدير قيمته الحقيقة. إننا نفقد تقاربنا ونمجد تباعدنا.. كيف نعيد تخطيط تعابيرنا العاطفية تحت شرط التباعد؟ سنحمل مناديل بيضاء لنلوح من بعيد، أما وضع اليد في اليد فتاريخ قديم. سنبقى على فعل صفح ولكن ما جدوى المزيد صافح وتصافح؟
يبدو أننا سنكتب الأطلال مرة أخرى، لكن أطلال ذلك العناق الشجي حين يسمع العاشق أضلاع محبوبة تطقطق بين ذراعيه.
اللعنة.. لقد حولنا الفيروس إلى ذئاب منفردة. لندفن رؤوسنا في التراب أياما أخرى فقط. قد يقرر الفيروس أن ينتحر ويعفينا من ألم الشوق إلى أولادنا.