كتاب عربي 21

الجيوش العربية التي تذوب في المعارك

"جيش بشار يذوب في معركة أقل بكثير مما تعرض له جيش عبد الناصر وجيش صدام"- سانا
ليس لدي إضافة في تحليل الوضع السوري خاصة وأن المحليين الاستراتجيين أكثر من الجنود المقاتلين على الأرض، لكني وقفت عند اختفاء الجيش السوري الرسمي (حتى نميزه عن تسميات فصائلية) من ميدان المعركة كأنه لم يكن. انسحاب أو ذوبان يذكر بانسحابات سابقة لجيوش عربية أخرى كان الناس ينتظرونها في المعارك التي تطابق الدعاية الإعلامية للأنظمة، فلما حدثت المعارك لم نجد الجيوش؛ ذوبان يطرح أسئلة كثيرة عن وظائف هذه الجيوش الفعلية منذ تأسيسها ووضعها في صدارة العناوين الوطنية، ومن هذا تتولد أسئلة أخرى عن الدور الفعلي لهذه الجيوش في علاقة بالمسألة الديمقراطية في الوطن العربي

لنذكر بالبطولات

في حرب 67 والعرب حديثو عهد بالاستقلال وبناء الجيوش الوطنية؛ وضعت إذاعة صوت العرب من القاهرة كل الأمة العربية في خنادق الاحتياط وراء جيش عبد الناصر، وما هي إلا غفوة ليلة حتى تبخر هذا الجيش وحُطمت طائراته في مطاراتها وفقدت مصر سيناء وأوشك القائد على الانتحار إعلاميا. انتبه الناس إلى الفارق بين الدعاية والحقيقة وباتوا بشعور قاهر بالهزيمة/ النكبة؛ ليس من الكيان الغازي بل من الجيش الذي أوكلوا إليه أمر أمتهم فلم يقم من نومه حتى انهزم.

ماذا كانت تفعل هذه الجيوش منذ تأسيسها؟ ما عقيدتها وما نوعية الجندي فيها، خاصة إذا قفزت إلى سير الكتابة مقارنة بجنود حماس في غزو في معركة الطوفان؟ هل آمنت هذه الجيوش بمهامها الوطنية؟ وهل لها وطنية أصلا أم أنها جيوش الزعماء استعملوها لقمع شعوبهم فلم تنتصر إلا على العزّل من أبناء الشعب في مجازر متتالية منذ سبعين عاما أو يزيد؟

في حرب العراق عاود الإعلام العربي إقناع الجمهور (الأمة قاطبة) بقوة الجيش الرابع في العالم، وكان الناس ينتظرون تقطيع الأفعى التي تتمدد من البصرة إلى بغداد، وما أسرع ما وصلت الأفعى إلى بغداد وأفاق الناس على جنود العراق ينزعون بدلاتهم ويقفزون في نهر دجلة عراة، مسجلين رقما تاريخيا في سرعة تفكك الجيوش.

يمكننا تعداد حوادث مشابهة عن جيش علي عبد الله صالح الذي حكم به اليمن، وعن فيالق اللجان الشعبية الليبية؛ جيش القذافي الذي غير شكل انتظامه العسكري ولكنه لم يغير مهمته، ولن ننسى عسكر الجزائر أبطال العشرية السوداء.

وأخيرا وصلنا إلى جيش بشار، فإذا هو يذوب في معركة أقل بكثير مما تعرض له جيش عبد الناصر وجيش صدام، مما يعيدنا إلى السؤال: ماذا كانت تفعل هذه الجيوش منذ تأسيسها؟ ما عقيدتها وما نوعية الجندي فيها، خاصة إذا قفزت إلى سير الكتابة مقارنة بجنود حماس في غزو في معركة الطوفان؟ هل آمنت هذه الجيوش بمهامها الوطنية؟ وهل لها وطنية أصلا أم أنها جيوش الزعماء استعملوها لقمع شعوبهم فلم تنتصر إلا على العزّل من أبناء الشعب في مجازر متتالية منذ سبعين عاما أو يزيد؟

جيوش ضد الداخل

في خطاب الدعاية تُبنى الجيوش للدفاع عن الأوطان من كل عدوان خارجي، وعلى الأرض بنيت الجيوش العربية لمواجهة حركة الشعوب التائقة للحرية، متناسية أن الجيوش جاءت بعد الحرية أي بعد أن حررت الشعوب نفسها بقوتها الخاصة من الاستعمار المباشر، فإذا الجيوش تتشكل لتنوب عن المحتل الأجنبي وتقمع شعوبها، مرسخة سلطة الفرد أو سلطة العائلة أو سلطة الحزب. ومع الوقت تُحول أوطانها إلى سجون لشعوبها رغم أن مكونها الأساسي هو من أبناء هذه الشعوب، وغالبا من أبناء المفقرين من الشعب قبل أولاد الأغنياء والمترفين أو المتنعمين بالسلطة.

هذا انحراف تاريخي تأسست عليه الكيانات القُطرية العربية، وتشوهت به كل تجربة بناء وطني يقدم الحرية على النظام، وبالتفصيل قدمت الأنظمة العربية متسلحة بأبناء الشعب نفسه النظام، وهو الاسم الملطف للقمع على بناء الحريات العامة التي منها تخرج الديمقراطية وتتطور. انتهى الانحراف بذوبان الجيوش وسقوط الأنظمة وعودة مهمة بناء الحرية للشعوب نفسها، لكن أثر القمع العسكري ترك عاهة في العقول وفي النفوس تذكر بعاهة العبيد المحررين عقب تحرريهم، إذ عادوا طائعين إلى السيد المستعبد.

نحن هنا نتأمل عاهة نفسية وسياسية عميقة في النفوس. الجيل العربي من النخب ومن العوام الذين ربتهم الجيوش المنحرفة عن مهماتها؛ تخلى عن الربيع العربي، مشروع الحريات الأكبر منذ نصف قرن، وأعاد تنصيب أجهزة القمع لتحكمه. والشكل الكاريكاتوري لهذه العاهة هي أن جزء من الشعب الليبي رضي بحفتر وأبنائه حكاما عليه؛ وليس في سجل حفتر إلا الهزيمة والخيانة. يطفو هنا سؤال مهم هل تحتاج الدول العربية فعلا إلى جيوش؟

لنتخيل دولا بلا جيوش
ستظل هذه الجيوش في مكانها، مهما كان حجم الدولة وشكلها القانوني. الجميع يعرف الآن أي الحروب خاضتها الجيوش العربية وأي انتصارات جلبت لدولها. لندع جانبا كلفة الإنفاق على هذه الجيوش، ولن نتتبع السؤال عن مردود هذه الكلفة لو أنفقت على التعليم والتدريب وصناعة النخب التقنية في كل ميدان

هذه صورة روائية لن تتجسد في الواقع، فالجيش مكمل لشكل الدولة، لا يمكن تخيلها دونه، لذلك فإن العرب لن يكونوا استثناء بين الدول. ستظل هذه الجيوش في مكانها، مهما كان حجم الدولة وشكلها القانوني. الجميع يعرف الآن أي الحروب خاضتها الجيوش العربية وأي انتصارات جلبت لدولها. لندع جانبا كلفة الإنفاق على هذه الجيوش، ولن نتتبع السؤال عن مردود هذه الكلفة لو أنفقت على التعليم والتدريب وصناعة النخب التقنية في كل ميدان.

الانتصار العربي الوحيد ضد عدو خارجي حققته فرقة حماس التي ليست جيشا نظاميا على الكيان الغاصب، وربما نحسب نصر الثورة السورية على جيش بشار في الانتصارات غير النظامية. بقية الانتصارات هي انقلابات دامية على حق الشعوب والإيغال في دمائها بما يعيدنا إلى السؤال: ما فائدة الجيوش؟ ماذا لو يتجاوز الثوار السوريون المنتصرون (كما نتوقع) مسألة بناء جيش وطني ويكتفون بقليل من أمن ينظم الفوضى الصغيرة، ويترك للشعوب حق حماية نفسها بيدها عند استشعار خطر خارجي؟

فكرة متخيلة عن دول بلا جيوش لا تشتري أسلحة يأكلها الصدأ ولا تشغل معامل الغرب المبدعة في ابتكار أدوات القتل (كم حجم ما أنفقت الجيوش العربية على التسليح؟ رقم فلكي بلا شك).

كل شواهد التاريخ العربي الحديث تكشف لنا أن الجيوش العربية عاهة مستديمة في جسد شعوبها، وأن الياسين 105 قتل من الصهاينة أكثر مما قتل الطيران العربي والمدافع العربية منذ سبعين عاما. الجيوش التي تعلن منذ سبعين عاما عن الرد في اليوم والوقت المناسبين نراها تنهار قبل وصول هذا اليوم العظيم.

الخيال السياسي للعقود القادمة لن يمكنه الإفلات من صورة الدولة التي لها جيش، ولذلك يمكننا أن نتخيل فصائل الثورة السورية تتحول إلى جيش نظامي لاستيعاب العناصر المقاتلة وتشغيلهم في اقتصاد منهار، فيتحولون بسرعة إلى جيش نظامي آخر يمارس نفس الأدوار.

الزمن الذي تُبنى فيه دول بلا جيوش سيظل صورة روائية. حركة حماس خاضت حربا ولم تحتج إلى دولة، وما نخالها الا تفشل لو قامت بطوفانها من داخل دولة عربية. أما ميلاد الديمقراطية من مناخ الحريات فلا نراه قريبا، فالجيوش العربية مسمّنة بعلف ممتاز.