تحول الرئيس
التونسي إلى مقرر دراسي عسير الفهم، يصعب على كل ممتحن الحصول فيه على درجات تضمن النجاح. ويبدو أنه كان على زمن ممارسته لمهنة التدريس أستاذا مغرما برفع نسب الرسوب في قسمه، لذلك يمعن في تعقيد السؤال على الممتحنين، ويتمتع بقائمة الناجحين القصيرة، وهي حالة سادية تتلبس كثيرا من رجال التعليم السكولستكيين الذين يطيب لهم أن يرد لهم الطلبة دروسهم كما تلقوها.
الرئيس يخطب ضد الحكومة وينقد البؤس السياسي الناتج عن انتخابات 2019 وهو جزء منه، يُظهر احترامه للدستور لكن يراه سببا للبؤس السياسي، يتغيب طويلا ثم يظهر حيث لا يتوقعه أحد فيقول خطابا واحدا كمقرر دراسي من زمن الحملة الانتخابية. والسؤال الشعبي الآن:
ماذا يريد الرئيس بالضبط؟
الرئيس لا يجمع التونسيين
في غياب خطاب واضح يحمل الناس إلى مستقبل سياسي مفهوم وقابل للعيش، ننظر في نتائج خطاب الرئيس، خاصة في
ظهوره الرمضاني. فنجد الناس أشتاتا حول الخطاب.. قسم منهم خائف من تغيير سياسي في وضع اقتصادي هش وزادته كورونا هشاشة. هؤلاء يسعون إلى الحفاظ على الحد الأدنى السياسي الذي يدفع إلى الخروج إلى وضع أقل هشاشة، بالإبقاء على المؤسسات القائمة والتركيز على الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية بالوسائل والإمكانيات المتاحة. هذه الفئة وهي الأوسع وفيها، بعض مكونات
الحكومة القائمة والبرلمان، ترى كل تغيير في الدستور أو في مسالك العملية السياسية أجندة غير مبررة داخليا، لذلك ترمي الرئيس بالتآمر على المرحلة لغاية غير تونسية. وفي أفضل الحالات هو ضحية متآمرين يحيطون به، ويدفعون البلد عكس مسار الانتقال الديمقراطي الجاري منذ 2014. خطاب الرئيس يعطي هؤلاء الحجة بعد الحجة لتأكيد شعورهم بالخوف واتهاماتهم بالتآمر، ويقولون علنا: الرئيس لم يعد مصدرا للطمأنينة.
رد على هؤلاء فريق آخر يرى ضرورة تعديل دستور 2014 والقانون الانتخابي الحالي، بما يعيد تشكيل نظام سياسي جديد يضمن للرئيس سلطات رئيس مشابهة أو مطابقة لنظام ابن علي/ بورقيبة، ويتم تقليص دور البرلمان، والحكومة تصير حكومة الرئيس وليست حكومة مستقلة عنه ومسؤولة أمام البرلمان أولا.
الفريق الأول يعرف ويملك أن يصل إلى البرلمان دوما عبر الصندوق، بينما الفريق الثاني عجز ويعجز. ومن الواضع أنه أحسن حساب قدراته وعرف أن
الصندوق ليس وسيلته، لذلك يستعيد الرئيس.
بين الفريقين لم نجد الرئيس لا ليصالح بينهما أو ليكتشف طريقا ثالثة تسمح باستقرار النظام السياسي حول صيغة ما، ثم التقدم على طريق الإصلاح الاقتصادي المنتظر، وهو الأولوية الشعبية قبل الحكومية. لذلك يتحول مع كل خطاب إلى وسيلة فرقة بين الصفين ويعمق الأخدود الموجود قبله، دون أن يعرف الناس أين موقعه من الفريقين.
الرئيس يتهم الجميع بالفساد
عندما تكلم الرئيس عن
الفساد المالي والسياسي لم يحدد الجهات المتهمة، بل ساق الاتهام على الجميع. واتهام الجميع لاقى هوى في نفوس كسولة تحب اتهام الجميع، لكنه لم يقدم حلولا لأحد فلم نعرف من يقصد، وهو ما ميّع الجهود المدنية والشعبية التي يقودها فاعلون أفراد ومنظمات مستقلة ضد الفساد. إذ جعل منها جهودا انتقائية وشكك في نواياها.
قريبا جدا من قصر الرئيس، يطارد السيد عماد الدائمي الفساد في شركة الطيران، ويجر نقابيين فاسدين إلى المحاكم بوسائل القانون والقضاء. وعوض أن نسمع من الرئيس المعادي للفساد (في خطابه) كلمة تشجيع موجهة لهذا الجهد، وجدناه يعود إلى الحديث عن فساد المال الانتخابي الذي لم تستطع الهيئة العليا المستقلة للانتخابات أن تثبته، أو تتهم به جهة محددة وتسقط نتائجها في الصندوق.
فإذا جمعنا الرغبة في تقليص سلطات البرلمان وإخضاع الحكومة لإرادة الرئيس إلى الاتهام بالمال الانتخابي الفاسد، عرفنا الجهة المقصودة، وعرفنا وجهة معركة الرئيس إن كانت فعلا معركته الشخصية أو جُر إليها في غياب برنامجه الخاص وخطته لحكم البلد.
هنا نجد الرئيس في الفراغ البرامجي والخطة الغائبة.. يظهر الرئيس معلقا في فراغ حرب الاستئصال المعتادة. لقد دخل الرئيس القصر فلم يجد ما يفعل، فأوحيت إليه استعادة حرب قديمة فانساق لها. هذا هو الرئيس، أما مستقبل تونس فلا يختلف عنده عن حلم مكتوب في درس جميل يلقى على طلبة لا وجود لهم، فيسند لهم الأعداد العالية ويسجل نجاحهم، ويدخل عطلته الصيفية على ضفاف البحر راضيا عن نفسه.
في الأثناء يتبخر الرصيد الانتخابي
عندما تصدر مؤسسات سبر الآراء المشبوهة نسب رضا الناس العالية عن الرئيس، نعرف أن من يوجه الرئيس قد استشعر فقدان الرئيس لرصيده (أكثر من 70 في المئة من الناخبين). يعتقد الرئيس وزمرته المحيطة به (وأغلبها مجهول لدى الناس) أن هذا الرصيد حساب مغلق في البنك، لا ينقص وقد يزيد، لكنهم ينسون أن التصويت كان هروبا إلى صورة شعبية قريبة منهم وعندما تتغير الصورة ويظهر رجل بلا برنامج ولا خطة ولا حتى عربية فصيحة لذيذة، كما توهم السامعون سابقا، فإن الرصيد يتلاشى ولن تثبته استطلاعات الرأي من مؤسسات مشبوهة.
أصوات كثيرة احتمت بالرئيس في الدور الثاني كضمانة للدستور ونظافة اليد السياسية والمالية، وحرضت على التصويت مفضلة الرمضاء على النار، أو القطرة عن الميزاب، وهي الآن تأكل أصابعها ندما وتطلب الاعتذار من شعب خُدع بحسن الصورة وبحسن النية الظاهرين. الرئيس يخلق الآن حالة من الاستعداد لمواجهته ومواجهة زمرته المجهولة، والتي جرته إلى حرب الاستئصال الممجوجة، فتؤجل بها كل مشروع تقدم سياسي لتونس ولو بشروط اقتصادية عسيرة ومتعسرة
بكورونا.
يتبلور إحساس يقيني بأن الرجل يعيش خارج الزمن السياسي التونسي بعد 2019، وأنه لم يخرج في أفضل حالات حسن الظن به من المدرج الذي أفنى فيه ردحا من عمره يملي مقررات قانونية بعربية خشبية ظنها الناس عربية الشنفرى، فإذا هي عربية المجلات القانونية المدبلجة عن الفرنسية. يمكن لأي إعلامي أجنبي أن يسير في شوارع تونس ويسأل أي تونسي: هل فهمت ما يريد الرئيس؟
أصدق الإجابات ستكون هزة كتفين ولي شفتين، والأميل من الناس إلى المرح سيقول مقلدا عادل إمام: لقد وقعنا في الفخ.