في واحد من المشاهد المفتاحيَّة لفيلم "الكيف"(1)، أحد أهم
الأفلام في تاريخ السينما المصريَّة على الإطلاق؛ يُحاول الكيميائي صلاح أبو العزم (يحيي الفخراني) إقناع تاجر
المخدرات سليم البهظ (جميل راتِب) بخطورة المركَّب الكيميائي المخدِّر الذي يُضيفونه لـ"توليفة العطارة" التي ابتكرها قدرا ليُعين شقيقه جمال (محمود عبد العزيز) على الإقلاع عن تدخين الحشيش. وهو المشهد الذي تنكشِف من خلاله بنية منطق تاجر المخدرات؛ موضوع هذا المقال.
كان جمال، المتمرِّس بتدخين الحشيش؛ قد خُدِعَ في الحشيش "المزيَّف"، الذي يخلو من المخدّرات؛ إذ دخَّنه مع صحبه، ليُفاجأ في اليوم التالي بشقيقه الكيميائي يُصارِحه بأنها تركيبة أعشاب طبيعيَّة ابتكرها له خصيصا، وأنها خالية من أي أثر للمخدِّر، وأن استمتاعه وصحبه بها سببه عوامل نفسيَّة.
وتتوالى الأحداث، بعد أن يُقنع جمال شقيقه صلاح بصُنع قطعة أكبر، ثم واحدة أخرى، فأخرى، بحُجج مختلفة؛ ليصب ذلك كله عند تاجر المخدرات سليم البهظ، الذي يُعجَب بجودة "طبخة" الحشيش "الزائف"، ويخلطه بتركيبة مُخدرة؛ ثم يُعيد طرحه في الأسواق، ليكتشف الدكتور صلاح ذلك قدرا، إذ يُدخن بعضها مع صهره، مما يُفضي به للهلوسة؛ فيُحلل ما تبقى منها حين يُفيق، ويكتشف أن "خلطته" يُعاد تدويرها بعقاقير مُخدرة حقيقيَّة.
وبعد أن يعجز رجال تاجر المخدرات عن سبك نفس "الطبخة" الكيماويَّة، ويسيل لُعابه على الإنتاج الكبير، نظرا لما تُحققه "السلعة الجديدة" من رواج واسع بين الجمهور؛ يستجلِب الدكتور صلاح إلى مقره، ويدور بينهما الحوار الذي يكشف عن منطق البهظ، إذ يُحاول إقناع الكيميائي بما يُريد؛ لتصدمنا عبثيَّة الحوار من الوهلة الأولى. إذ تتجلى فيه "سذاجة" الكيميائي النبيل، صاحب الخبرات الحياتيَّة المحدودة؛ فكأنهما يتحدثان بلغتين مُختلفتين عن عالمين مُختلفين. فالدكتور صلاح يُحاجج تاجر المخدرات حجاجا أخلاقيّا مُستعملا النتائج العلميَّة التي تُعزز منطقه، ليرد عليه البهظ بوصف هذه النتائج بالإشاعات التي يُروجها "القائم بترشيد الواقع" لصرف الناس عن متاع الدنيا!
ويزداد تجلي "سذاجة" صلاح ونقائه، كلما أوغل في الحوار؛ فيُحاول مثلا نفي وصف "الإشاعات" عن عمليَّة البحث العلمي التجريبي، ليُباغته البهظ بأن ما "نستورده" من "علم" الأجانب لا يتماشى مع البيئة المصريَّة، كاشفا عن جوهر منطقه تدريجيّا؛ إذ يقول: "صحة هنا غير صحة هناك"، وما ذلك إلا لأن المصريين (من وجهة نظر البهظ) "فراعنة" تفرَّدوا بقوَّة وصحَّة مكَّنتهم لا من بناء أهرامات ثلاثة فحسب، بل جعلتهم مؤهلين (عنده) لتجرع مياه حافلة بالملوثات المميتة وأكل دواجن لا تصلح للاستهلاك الآدمي؛ بغير أن تتأثَّر صحتهم، كما يشي الظاهر بذلك. أما إن ابتلي الأجنبي، الذي "يُصدر" لنا علومه، ببعض هذا الزاد؛ فسيلقى حتفه كما يُقرر البهظ.
وطيلة عرض البهظ لحُجته ينعقِد لسان الدكتور صلاح تقريبا؛ فلا يَرُد إلا بتمتماتِ مشدوهٍ. وكأن هذه السذاجة الجارِفة هي السبيل الوحيد لتعرية منطق تاجر المخدرات كاملا، فإذا ما استعاد الكيميائي بعض توازُنه، وحاول محاولته الأخيرة، بأن يُنبه البهظ إلى أن تدخين المصريين للخلطة المعاد تدويرها سيودي بهم؛ لطمه البهظ بقولة حق يُراد بها باطل، إذ هدفها إسكات ضمير الكيميائي المشدوه فحسب؛ قائلا: "محدش بيموت ناقص عُمر.. خليك مؤمن"! وإذ لم تنطلِ الحيلة على صلاح، وتجلَّى الكفر عنده في الإضرار بالخلق؛ أجابه تاجر المخدرات بأنه يُسعِدُ الخلق ولا يضرهم.
عند هذا الحد، تبدو دائرة الحوار وكأنها قد انغلقت؛ وأن أي شيء يُقال بعدها سيكون تكرارا لما قيل، عندها يكشِف البهظ عما كان يُحاول ستره قبل ذلك بعبارات مُنمَّقة؛ إذ هو لا يُبالي بالمرَّة بمن يموت جراء تعاطي المخدر، لأنه يرى أن الناس قد تكاثرت حتى صارت أكثر من النمل والبعوض، ولا أهميَّة لفناء بعضهم، بل قد يكون لموت بعضهم أثر "إيجابي" من وجهة نظره؛ وهو أن "يَقِلَّ الزحام"! عندها لا يتمالك صلاح نفسه؛ فيصفه غاضبا بالسيكوباتية وموت الضمير وانعدام الإنسانيَّة، وكأنه يكتشف ذلك للتو؛ غافلا عن أن هذه الصفات هي التي جعلت من البهظ تاجرا للمخدرات ابتداء.
ولعلَّ اتخاذ اسم البَهْظ لتاجر المخدرات، من مصدر الفعل الثُلاثي المتعدي: "بَهَظَ"؛ من الإشارات التي قصدها المؤلف، كما قصد اتخاذ لقب "أبو العزم" للشقيقين. فإن البَهْظ إثقال ومشقَّة وإرهاق وإجهاد شيء لشيء سواه؛ كأن يَبهَظ الحِمْلُ رجلا أو راحِلة، ومنه اسم الفاعل "باهِظ" الذي يوصَف به العبء المالي المجاوِز للحد.
ويبدو منطق البهظ للوهلة الأولى منطقا عقلانيّا ماديّا باردا، لكنَّ الكيميائي يُدرِك بفطرته ألَّا برودة ولا حياد في مثل هذا المنطِق، ولا عقلانيَّة بطبيعة الحال؛ إنما هو منطق مُبغِض شرير بالكُليَّة. هذا الشر شبه العقلاني، الناضِح بتألُّه "القائم بترشيد الواقع"؛ يكشِف فورا عن لا عقلانيَّته الماديَّة، التي تتجلى في عدائه الصريح للحياة الإنسانيَّة، التي يُفيد منها اقتصاديّا؛ واحتقاره الشديد للطرف الآخر من المعادلة الاقتصاديَّة، التي تسمح لدورة هذا الشر بالاستمرار والازدهار، ليبدو "الحياد" واللامبالاة، اللذين تتلفَّع بهما حجج البهظ؛ مُجرَّد قناع يستُر هذه البغضاء الكامنة التي تتكشَّف تدريجيّا.
وإذا كانت بقايا العقلانيَّة الشيطانيَّة تلوح في موقف تاجر المخدرات، بوصفه القائم بترشيد الواقع، أو الشرير المهمين على الواقع؛ فإن المنطق نفسه يصير عبثيّا بالكامِل إذ استبطنته الضحيَّة بغير وعي، إذ تحسب "بل وتُفاخر!) بأنها اكتسبت مناعة، وصارت بمنأى عن المرض والشر؛ لأنها تستهلِكُ ما لا يُمكن لآدمي استهلاكه، بل ما قد يُحطِّم صحَّة أي آدمي وينهش بأسه.
ألم تكُن هذه هي حُجَّة الذين سفَّهوا أمر وباء
كورونا في مصر، حتى استبطن الدهماء حُجتهم بالكامل ودافعوا عنها بفخرٍ أبله، كأنهم صدَّقوا أننا جنسٌ مُصفَّح منيع؟!
لكنَّ انعدام إدراك الضحيَّة لكونها تتبنى تصور الجلاد معدوم الضمير، الذي يُبغضها ويُخادعها عن حقيقة ما أصابها، وأنه ارتكاس وتدهور وموت بطيء، لا منعة ومناعة؛ ليس مجرَّد ترديد ببغائي أبله لحُجج الجلاد، بل هو ثمرة إفساد منهجي ممتد لفطرتها؛ كما تجلَّى في أحد المشاهد الأخيرة من الفيلم. إذ يحكي البهظ للدكتور صلاح مسيرته كتاجر "مُكيِّفات"، بدءا من الشاي والقهوة والتبغ، مرورا بالخمر والملاهي الليلية؛ وانتهاء بالمخدرات. فكأنها حلقة جهنميَّة واحدة.
في هذا المشهد المتأخر، يتباهى البهظ بقُدرته "الشيطانيَّة" على استغلال الضعف الإنساني؛ الذي يصفه صادقا (في لغةٍ نيتشويَّة مُتعالية) بالغفلة! إذ هو يُدرِك أن الشهوة هي التي تدفع الناس للإنفاق، لكنَّه يُبرر فعله بأنه لا يُغرِقهم في الشهوة، إذ هم غارقون فيها أصلا؛ وإنما ينحصر دوره في الإفادة من ذلك الغرق فحسب!
في هذا المشهد يتجلَّى البهظ كأنه شيطان حقيقي، إذ يُذكرنا بما أورده القرآن على لسان الشيطان في مواجهة ضحاياه: "وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ? فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم"؛ (2) ليُكرر البهظ منطق الشيطان (بحروفه) إذ يقول: "اللي يقف على البر ميغرقش. إحنا مضربناش حد على إيده؛ اللي بيحبنا هو اللي بيرمي روحه في حضننا"! ويختتم هذا الشيطان المشهد بروايته لقصَّة اتجاره بالشاي المغشوش بـ"نُشارة الخشب"، وإثرائه من وراء ذلك، ثم إفلاسه حين كفَّ عن غش الشاي بسبب ارتفاع ثمن "النُشارة". وهو المشهد الذي يكشف عن كون جوهر منطق البهظ انتقاميا حاقِدا، لا يختلف في ذلك عن منطق إبليس؛ الذي رجا ربَّه الإمهال رغبة منه في الانتقام ممن أُسجِدَت له الملائكة.
لكنَّ أهم ما في هذا المشهد بإطلاق هو إدراك الكيميائي أن الاستمرار في استغلال غفلة الخلق لم يكن ممكنا لولا أن أمثال البهظ قد أفسدوا ذوقهم/ فطرتهم عمدا، حتى صار الخلق عاجزين عن تمييز الغث من السمين. بل صاروا يُفاخِرون بأن الغث زادهم الذي توهَّموا بأنه يزيدهم قوَّة!
هذا الإفساد المنهجي البطيء يُعبِّرُ عنه سائق التاكسي (علي الشريف) للزبون (علي عبد الخالق)، في آخر مشاهد الفيلم؛ واصفا "تغني" جمال أبو العزم بالكيمياء، الذي ذاع كالنار في الهشيم؛ فيقول: "أول ما سمعتها ما دخلتش دماغي، لكن لما ودني خدت عليها؛ عششت في نافوخي وكيفتني". وهو تعبير عبقري عن كيفيَّة تحقُّق الإفساد. إذ أنه يُغير الذائقة/ الفطرة تدريجيّا، حين تألف الضحيَّة
الفساد بتكراره المنتظم، بعد أنفتها منه؛ ثم تنتقل من الألفة إلى الاستمتاع "المحرَّم". الاستمتاع بالغناء الزائف كما استمتعت بالمخدرات "الزائفة"، وكما "روت" عطشها بالماء الملوث وأسكتت جوعها بالطعام الفاسد.. وزادت على ذلك كله بالتباهي بما فسد منها كأن الضعف يصير قوَّة، والفساد يصير صلاحا. وهو استبطان كامل لمنطق الطاغوت القائم بترشيد الواقع.
هذا الإدراك المعبر عن بقايا الفطرة السليمة، الذي يُجسده صلاح قولا وعملا، ويعتبره البهظ مجرَّد خطابة مسرحيَّة مُثيرة للاستهزاء، في اطراد ضمني مع إنكاره للفطرة الإنسانية، التي يُسهم إسهاما فعالا في تحطيمها؛ يتجلَّى لا في حجاج صلاح
الأخلاقي "الساذج" فحسب، وإنما في رفضه كذلك الاستجابة لتاجر المخدرات ومعاونته بمحض إرادته، وذلك بعد علمه بالضرر الذي تتسبَّبُ به خلطته؛ وإنما اضطره الأخير إلى ذلك بعد أن أفقده إرادته بفعل المخدر، الذي حقن البهظ به صلاح عُنوة.
هذا الإفساد المنهجي للفطرة، الذي يكتمِلُ ببطء؛ هو خير تجلٍّ للعبثيَّة التي تؤول إليها العقلانيَّة الماديَّة. إذ يتوهَّم "القائم بترشيد الواقع" نجاته (وذويه!) من الشر الذي يغرسه، يتوهَّم أنه سيظل بمنأى عن عواقب إرادته وعمله في شيوع الفاحشة؛ في حين أن ما يفعله يُغرِقه هو الآخر في ذات الدائرة الشهوانيَّة المدمِّرة، ولو بعد حين.. ومهما توهَّم نجاته.
أما تضخُّم الشر الإنساني إلى هذا الحد، وهيمنته وبروزه؛ فأمر نُعالجه في مقالٍ تال.
__________
الهوامش:
(1) أنتج عام 1985م، وكتب قصته محمود أبو زيد، وأخرجه علي عبد الخالق.
(2) سورة إبراهيم، ا?ية رقم 22.