انتهت
الانتخابات الإسرائيلية بعدم وجود أغلبية واضحة لأي الفريقين. فحزب الليكود برئاسة نتنياهو وأحزاب
اليمين القومي والديني حصلوا على 58 مقعدا من أصل 120 مقعدا، منها 36 لليكود، فيما حصل حزب المتدينين الشرقيين "شاس" على تسعة مقاعد، وحصل المتدينون الغربيون "يهدوت هتوراة" على سبعة مقاعد، إضافة لحزب "يمينة" القومي الديني الاستيطاني الذي حصل على ستة. وفي المقابل، حصل بيني غانتس وحزبه "كحول لافان" على 33 مقعدا، وسبعة مقاعد لتحالف حزب العمل- ميرتس وجيشر، وحصل حزب "يسرائيل بيتنو" هو الآخر على سبعة مقاعد. أما القائمة المشتركة التي تشمل
الأحزاب العربية المشاركة في انتخابات الكنيست، فقد حصلت على 15 مقعدا في أكبر إنجاز لها.
يحاول المحللون السياسيون وضع معارضي تحالف نتنياهو في سلة واحدة، مع اختلافهم الأيديولوجي وتصوراتهم السياسية، على قاعدة "لا لنتنياهو"، فحزب كحول لافان (ذو توجه يميني) إضافة لتحالف حزب العمل- ميرتس وجيشر (ويغلب فيه
اليسار)، وحزب "يسرائيل بيتنو" بقيادة ليبرمان، وهو حزب يميني، فيما القائمة المشتركة التي تمثل جزءا معتبرا من الفلسطينيين في الداخل، الذين صوتوا في انتخابات الكنيست، فهي بطبيعتها غير صهيونية.
مع كل القراءات الممكنة لحال الخارطة السياسية الإسرائيلية بعد الانتخابات وإمكانيات تشكيل حكومة من عدمها، خصوصا مع الحديث عن إمكانية وجود حكومة أقلية بمشاركة القائمة المشتركة أو وحدة وطنية بين كحول لافان والليكود، من المهم قراءة الحالة السياسية الإسرائيلية في السنوات الأخيرة، وخصوصا مع صعود نتنياهو لسدة السلطة عام 2009، ويمكن الحديث عن عدة معالم مركزية:
1- تصاعد التيار اليميني وانقراض اليسار: تميزت السنوات الأخيرة بصعود اليمين في إسرائيل، ففيما كانت الخارطة السياسية منقسمة حول يمين ويسار، وكان حزب العمل، الذي صنّف يسارا، هو منافس الليكود لسنوات، تراجع هذا الحزب ليحصل على ثلاثة مقاعد فقط.
هذا التحول في الخارطة السياسية الإسرائيلية هو انعكاس للمزاج العام الإسرائيلي الذي بات فيه المجتمع الإسرائيلي يتجه يمينا، وذلك لعدة أسباب منها عدم وجود قيادة سياسية يسارية إسرائيلية قوية تمثّل بديلا لليمين، وقدرة اليمين وعلى رأسه نتنياهو على فرض أجندة سياسية في الشأن السياسي العام، وهذا لم ينجح به اليسار الذي كان منقسما مبدلا لقيادته بشكلٍ كبير، بالإضافة إلى النجاحات التي تُحسب لنتنياهو في بعض المجالات الاقتصادية والسياسية، التي انعكست على ثقة الناس به وبخطابه، إلى جانب خطاب التخويف الذي انتهجه نتنياهو واليمين، وذلك استنادا للواقع العربي المحيط ودور إيران، إضافة للوضع السياسي الأمني في البلاد المبني على واقع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وفي قلبه الخوف والتخويف من غزة وحماس والعمليات الفلسطينية.
2- الانقسام السياسي الإسرائيلي حول نتنياهو أو ضده: التحوّل الإضافي في المجتمع الإسرائيلي بات في شخصنة الصراع السياسي، فبات الصراع حول من مع نتنياهو ومن ضده! كل ذلك حصيلة عدم تخلّق قيادة قوية، ونجاح نتنياهو في لجم أي تقدم سياسي في صفوف حزب الليكود.
3- بهوت البرامج السياسية الحزبية: لم تعد الأحزاب الإسرائيلية الأيديولوجية وذات الرؤية السياسية واضحة، مع تراجع حزب العمل وصعود أحزاب الوسط، التي حاولت القول إنها تمثل كل الإسرائيليين كبديل لليسار الإسرائيلي، وخصوصا مع انزياح المجتمع الإسرائيلي لليمين. هذه الأحزاب لا تملك بنية حزبية أيديولوجية صلبة، ولا برنامجا سياسيا واضحا، وإنما أسيرة لخطاب الوسط الساعي للتصالح مع مختلف الأقطاب الإسرائيلية لكسب مقاعد برلمانية في الانتخابات مع انزياح لليمين لطبيعة المجتمع.
4- تجذّر الانقسامات الداخلية: المجتمع الإسرائيلي هو مجتمع منقسم على عدة أصعدة، فهناك الانقسام السياسي، وهناك الانقسام على أساس ديني (متدينين- علمانيين)، وهناك الانقسام الطائفي (شرقيين وغربيين). هذه الانقسامات تعمقت مجتمعيا، والأحزاب السياسية، وخصوصا اليمينية، حاولت احتواءها لصالح فوزها الانتخابي.
هذه الانقسامات كانت معالمها بمظاهرات اليهود الإثيوبيين وشعورهم بالظلم، والخطاب المناهض لدور الدين والمتدينين في الحياة العامة، الذي تحدث به ليبرمان وأشار له غانتس في الانتخابات قبل الأخيرة، فيما ظهرت زيادة تموضع الأحزاب الدينية في اليمين، لكون نتنياهو يلبي مطالبها في ما يخص شؤون الدين والدولة وإعطاء مزايا لمصوتيها من اليهود المتدينين. كذلك يمكن رؤية حدة الخطاب تجاه الفلسطينيين في الداخل بشكل صارخ، حد التحريض عليهم وجعلهم أعداء، لدرجة يمكن أن تقود لإيذاء الفلسطينيين في الداخل أو سياسييهم. كل هذا التجذّر في الانقسامات كان حصيلة التشظي في المجتمع الإسرائيلي والاختلاف، وعدم تعمق الهوية الجامعة (إلّا عندما يكون عدو واحد وواضح).
5- تصاعد الخطاب الديني الاستيطاني: مع أن كل حكومات إسرائيل المتعاقبة كانت مشجعة للاستيطان، لكن كان ذلك بدرجات متفاوتة، وما يميّز السنوات الأخيرة هو قوة المستوطنين وممثليهم في الكنيست الإسرائيلي، وتأثيرهم على الأجندة السياسية وعلى الرؤية السياسية للقيادة الإسرائيلية. كل ذلك ترافق مع تصاعد للتيار الديني الصهيوني والاستيطاني، وانسجام خطاب نتنياهو مع أطروحات هذا التيار الدينية والقومية. ويمكن رؤية ذلك في قضية المسجد الأقصى المبارك وحتى في قضية الاستيطان.
هذا الخطاب أصبح جزءا من الخطاب المركزي في إسرائيل، أو قل من الخطاب اليمين الطبيعي، ولم يعد مقتصرا على اليمين الديني الاستيطاني.
6- تراجع الحيّز "الديمقراطي" مقابل يهودية الدولة: مع كل تناقض فكرة يهودية الدولة مع ديمقراطيتها، إلّا أن إسرائيل حاولت إعطاء الحيز الديمقراطي ومساحة الحريات (على المستوى الفردي) هامشا معينا. في السنوات الأخيرة، وخصوصا في عهد نتنياهو، أصبح كما لو أن الديمقراطية مهدِدِة ليهودية الدولة، وباتت هناك حاجة لتعزيز خطاب يهودية الدولة قولاً وفعلاً (ولربما استخدم ذلك كأداة لحفظ اليمين وخلق صراع حول الهوية يفوز به اليمين).
كل ذلك ترافق مع تشديد الخطاب تجاه الفلسطينيين في الداخل ومؤسساتهم، والقوانين العنصرية التي أصبحت بالعشرات، ومنها قانون القومية. المشكلة مع ذلك، هو أن هذا التوجه انعكس على الجو العام (أو العكس) بشكل أصبح يلامس حتى المحاكم وغيرها (التي بالمناسبة يتهمها نتنياهو بملاحقته)، مما جعل عددا من المؤسسات تولي يهودية الدولة الاعتبار المركزي، مهملة اعتبار الحريات.
ما أوردته سابقا، هو بعض معالم التغيير السياسي الذي حدث في المؤسسة الإسرائيلية بالسنوات الأخيرة، التي تُظهر جانبا من التحولات السياسية، التي كان جانب منها قائما قبل سنوات، ولكنه ازداد حدة وحضورا في السنوات الأخيرة. مع محاولة إسقاط نتنياهو، التي ليس مؤكدا نجاحها، يمكن أن يتغيّر بعض هذا النهج ولكن ليس هناك ضامن لذلك، خصوصا مع تشبع المجتمع الإسرائيلي بالتوجهات اليمينية ويمينة البدائل القائمة. وفي الوقت نفسه، الحقيقة أن اليمين واليسار بمجمله سيئ للفلسطينيين والعرب، وإن كان الأول يتصرف بعدائية علنية، فالأخير يتصرف بعدائية مبطنة ودبلوماسية، وأبدا لا يتراجع أي تيار منهما عن مصلحة إسرائيل اليهودية الصهيونية، ولكن وفقا لوجهة نظره.