كانت الأميرة
الهندية المسلمة
عابدة سلطان واحدة من أبرز الشخصيات التي تحدت كل القيود المجتمعية والثقافية التي فرضت على النساء في عصرها، كما أنها كانت شاهدة على التحولات العميقة التي شهدتها الهند بعد تقسيمها.
وُلدت عابدة عام 1913 في ولاية بوبال الهندية، التي كانت تحت الاحتلال البريطاني في ذلك الوقت، لأسرة من "البيغومات"، وهو لقب نسائي رفيع المستوى يُطلق على النساء المسلمات ذوات المكانة العالية. كانت هذه العائلة تتمتع بمكانة سياسية كبيرة في ولاية بوبال، وكانت الأميرة عابدة، التي تربت في وسط هذه البيئة، تستعد لتولي مسؤوليات الحكم منذ الصغر.
ولم تكن عابدة مثل أي أميرة أخرى؛ فقد تحدت العادات المجتمعية في فترة كانت فيها النساء، وخاصة المسلمات، يلتزمن بالكثير من القيود الاجتماعية. في مذكراتها التي نشرتها في عام 2004 تحت عنوان "مذكرات أميرة متمردة"، تروي تفاصيل حياتها المليئة بالصراعات مع التقاليد، والأحداث التي شكلت شخصيتها القوية والمستقلة.
منذ طفولتها، كانت عابدة تتمتع بحرية كبيرة مقارنة بنظيراتها في المجتمع الهندي. لم تكن هناك قيود على تصرفاتها كطفلة؛ كانت تستطيع ركوب الخيل، تسلق الأشجار، وممارسة الألعاب التي كانت تُعتبر حكراً على الأولاد، بحسب تقرير لـ"
بي بي سي".
ورغم التحديات التي واجهتها في طفولتها، فقد بقيت عابدة تتمتع بشخصية قوية وحازمة. كانت تربيتها على يد جدتها، السلطانة جيهان، التي كانت حاكمة ولاية بوبال، قد زودتها بالقوة الداخلية والإرادة الصلبة لتولي الحكم في المستقبل.
في الوقت الذي كانت فيه معظم الفتيات في عمرها يُجبرن على ارتداء الحجاب، اختارت عابدة أن ترفض هذا التقليد، وهو ما كان بمثابة تمرد على المعايير الاجتماعية السائدة في ذلك الوقت.
وأصبحت عابدة عندما بلغت سن الخامسة عشرة وريثة عرش بوبال، وبدأت تمارس دورها السياسي بإدارة حكومة والدها التي تركها لها بعد أن تقاعد. ورغم صغر سنها، فإنهاكانت قد بدأت في مقابلة كبار القادة السياسيين الهنود، الذين كانوا يناضلون من أجل استقلال الهند عن الاحتلال البريطاني. كما أن العنف الذي اندلع في الهند بعد تقسيمها في عام 1947 بين الهند وباكستان كان قد ترك أثرا عميقا في حياتها.
تكشف عابدة في مذكراتها عن تفاصيل حياتها الشخصية التي كانت مليئة بالتحديات، حيث تزوجت في سن الثانية عشرة من ساروار علي خان، حاكم ولاية كورواي المجاورة. لم تكن تعرف شيئا عن الزفاف إلا عندما دخلت قاعة الحفل ووجدت نفسها في مواجهة مع النساء المتجمعات في الحفل، حيث وصفت هذه اللحظة بأنها كانت محيرة، لتكتشف في النهاية أنها هي العروس.
لم يدم هذا الزواج طويلا، فقد انهار بعد سنوات بسبب العديد من الصعوبات، وكان من أبرز أسباب هذا الانهيار هو الجهل والتردد في مواجهة العلاقة الزوجية في سنواتها الأولى.
بعد انهيار زواجها، عادت عابدة إلى بوبال، حيث بدأت تخوض معركة قانونية مع زوجها السابق للحصول على حضانة ابنها الوحيد، شهريار محمد خان.
وفي واحدة من أكثر اللحظات جرأة في حياتها، قادت عابدة سيارتها ثلاث ساعات للوصول إلى منزل زوجها في كورواي، حيث دخلت إلى غرفته، وأخرجت مسدساً وهددته بقولها: "أطلق النار علي أو سأطلق النار عليك". هذه المواجهة الحاسمة أفضت إلى منحها حضانة ابنها، وبعد ذلك، كرست حياتها لتربيته ولإدارة شؤون ولاية بوبال.
وبينما كانت مشغولة بتولي إدارة شؤون الولاية، حضرت عابدة مؤتمرات المائدة المستديرة التي نظمتها الحكومة البريطانية في عام 1930، والتي كانت تهدف إلى تقرير الحكومة المستقبلية للهند. في هذه المؤتمرات، التقت بقادة كبار مثل المهاتما غاندي وجواهر لال نهرو، الذي أصبح لاحقا أول رئيس وزراء للهند.
لكن عابدة لم تقتصر على مجالات السياسة، بل كانت شاهدة على التحولات العميقة التي شهدتها الهند بعد تقسيمها، والتوترات بين الهندوس والمسلمين التي نشأت نتيجة لذلك.
وعام 1950، ومع تفاقم العنف بين الهندوس والمسلمين، قررت عابدة مغادرة الهند وانتقلت إلى
باكستان. هناك، واصلت الدفاع عن حقوق المرأة والديمقراطية من خلال مسيرتها السياسية.
وفي مذكراتها، تصف عابدة التمييز الذي بدأت تواجهه في بوبال؛ وكيف بدأت أسرتها، التي عاشت هناك بسلام لأجيال، تُعامل باعتبارها "غرباء". وفي إحدى المقابلات التي أجرتها، تحدثت عن ذكرى مزعجة بشكل خاص لديها عن العنف الذي اندلع بين الهندوس والمسلمين.
في أحد الأيام، بعد أن أبلغتها الحكومة الهندية أن قطارا يحمل لاجئين مسلمين سيصل إلى بوبال، ذهبت إلى محطة السكة الحديدية للإشراف على الوصول، وفقا لتقرير "بي بي سي".
"عندما فُتِحَت المقصورات، كان الجميع قد ماتوا"، كما قالت، وأضافت أن هذا العنف وانعدام الثقة هو ما دفعها إلى الانتقال إلى باكستان في عام 1950.
رغم مرور الزمن، إلا أن عابدة ظلت شخصية بارزة في تاريخ الهند والباكستان، واحتفظت بسمعة الأميرة التي تحدت تقاليد عصرها وعاشت حياة مليئة بالتحديات.
توفيت عابدة في كراتشي عام 2002، تاركة وراءها إرثا كبيرا في تاريخ المنطقة. ورغم مغادرتها إلى باكستان، ظل اسمها حاضرا في بوبال، حيث يذكرها الناس بلقب "بيا حضرة".
وعلى الرغم من أن السياسة الدينية في السنوات الأخيرة قد أثرت على مكانتها في الذاكرة العامة، يظل اسمها حاضراً في ذاكرة التاريخ، ولا يزال محط تقدير لدى الكثيرين.
وبحسب الصحفي شمس الرحمن علوي، الذي أعد دراسة عن حكام بوبال من النساء، فإن إرث عابدة قد تآكل قليلا نتيجة للتوجهات السياسية الدينية في السنوات الأخيرة. ومع ذلك، يرى علوي أنه من غير المرجح أن يُنسى اسمها في أي وقت قريب، خاصة في ولاية بوبال حيث لا تزال تُذكر كأيقونة للتمرد والتحدي للقيود الاجتماعية.