في يوم الثلاثين من آب/ أغسطس عام 2006م توفي أديب
مصر والعرب العظيم نجيب محفوظ، رحمه الله تعالى، واتخذت الدولة قرار تشييع
الجنازة في اليوم نفسه من مسجد القوات المسلحة بمدينة نصر.
الراحل الكبير أوصى بأن تخرج جنازته من مسجد الحسين، حيث أهله وأحبابه وأبطال رواياته، ولكن ضربت الدولة بوصيته عرض الحائط لكي يتمكن حسني
مبارك (رئيس الجمهورية في ذلك الوقت) من حضور الجنازة. ولا شك أن إجراءات تأمين الرئيس أهم في نظر الأجهزة الأمنية من الجنازة ومن الحضور ومن الراحل نفسه!!! لذلك حرموا عم نجيب من الجنازة التي أرادها، لكي يحظى مبارك باللقطة "الرئاسية".
تَمَكَّنْتُ بالصدفة وبرغم الإجراءات الأمنية من حضور جنازة نجيب محفوظ، وراعني أن النعش قد ألقي مهانا في شمس آب/ أغسطس لأكثر من نصف ساعة، وانتظر الحضور (وهم كبار كتاب ومثقفي مصر) وصول مبارك ما يقرب من ربع ساعة في الشمس، وفي النهاية حضر، ومشى عدة خطوات، ثم سلم على أقرباء الراحل، وانصرف.. مشهد حضوره لم يستغرق دقيقة واحدة.. وقد سجلت ذلك في قصيدة شهيرة بعنوان "جنازة منضبطة" كانت مزيجا من رثاء محفوظ وهجاء الرئيس الذي بسببه ألقي بالنعش في الشمس، وحرم الرجل من جنازة الحسين.
ومما لفت نظري في
جنازة مبارك نفسه.. أن نعشه قد ألقي أيضا في انتظار رئيس آخر هو "سيسي"، وانتظر أبناء مبارك وأقاربه وصول رئيس الأمر الواقع، وكأن يد الله سبحانه أرادت أن تذيق الرجل إهانة صغيرة طالما أهانها لآخرين.. بأن ينتظر هو أيضا إذنا بالانصراف إلى الدار الآخرة من شخص يعلم الجميع من وما هو!
* * *
يبالغ البعض في البكاء على جنازة مبارك "العسكرية"، وكأنها نهاية الدنيا، ووصلت المبالغة حد اعتبار تلك الجنازة جنازة لثورة يناير!
والحقيقة أن الجنازة تحصيل حاصل، وهي رسالة شديدة الوضوح، بأن الدولة المصرية ملك للضباط، وحدود الاشتباك كما هي، لن تتغير (صحيح أنها توترت بسبب ثورة يناير ولكنها عادت لما كانت عليه). فالعسكريون بعضهم أولياء بعض، وإذا أردت أن تعلم معنى امتلاك الضباط للدولة، قارن جنازة مبارك المخلوع
بجنازة الرئيس الشهيد محمد مرسي.
هو جدير بمثل هذه الجنازة، ومن يعتبر الجنازة العسكرية تكريما فالخلل في داخله، هذا ليس تكريما من الجيش، بل هو تكريم من العصابة التي اختطفت الجيش، واختطفت مصر كلها بعد اختطاف الجيش.
لا تليق بمبارك إلا جنازة يسير فيها قادة العصابة.. هو جدير بهذه الوجوه.. وهذه الوجوه جديرة به..
* * *
البعض يترحم على المخلوع مبارك، والحقيقة أنه مسؤول عن كل ما آلت له أوضاع مصر اليوم.
إن جريمة مبارك ليست "القصور الرئاسية" أو السرقة (مهما كان حجم المنهوب)، فمبارك لم يكن "أمين مخزن" لكي نحاسبه على عهدته من الدراهم والدنانير.. هذا تسطيح وتزوير لحقيقة ما فعله.
جريمة مبارك هي الخيانة العظمى!
وهي خيانة مشهرة، واضحة، استمرت سنوات طوال..
لقد خان الشعب، بإفساد الحياة السياسية، وبمنع الأمة من اختيار حكامها، ومنع المصريين من الحفاظ على استقلالهم الوطني، ودمر الجيش بتغيير عقيدته القتالية وتحويله لمؤسسة اقتصادية عديمة الكفاءة في الاقتصاد كما هي عديمة الكفاءة في القتال، وقام بتحويل مؤسسات الدولة إلى عصابة يقودها هو شخصيا ومن حوله مجموعة من اللصوص المستفيدين، ودمّر مستقبل مصر لعشرات السنوات القادمة، بقطع علاقات مصر بمحيطها العربي والأفريقي، وبالانصياع لأمريكا وإسرائيل في كل شيء من أجل البقاء في السلطة.
لقد منح ثروات مصر لأعدائها، وما قرار تصدير الغاز لإسرائيل بسعر مدعم إلا شكل من أشكال دفع الجزية للصهاينة لكي يظل كنزا استراتيجيا يحافظون عليه أطول فترة ممكنة.
مبارك وعصره هو من أدى بنا إلى هذا الوضع المزري في مشكلة سد النهضة، ليس ذلك تقليلا من صك الخيانة الذي وُقِّعَ في آذار/ مارس 2015م، ولكن حقيقة الأمر أن التنازل بدأ في عهد مبارك، حين قطعنا علاقاتنا مع أفريقيا، وانسحبنا وجلسنا نشاهد إسرائيل تتمدد دون أن نحرك ساكنا.. كل ذلك من أجل أن يبقى هذا التافه في السلطة.
مبارك ليس "خصما" هزمناه، بلهو "عدو" للوطن.. ولولا ثلاثين عاما من حكمه لما
تمكن أمثال "سيسي" من الترقي في المناصب إلى أن أصبحوا هم النموذج المحتذى للوصول إلى قمة الهرم في الدولة.
صحيح أن موقفنا من أنصاره مختلف، فهم أبناء الوطن، ولا مجال لاستئصالهم كثروا أو قلوا، فموقفنا من أنصار مبارك والمخدوعين فيه مختلف تماما عن الموقف منه هو شخصيا، هو ورموز عهده.
* * *
بعد وفاته جاءتني عشرات الرسائل تسألني عن تعليقي، والحقيقة أن الأمر بسيط!
لقد تعاقب على حكم مصر دهاة وعظماء، ومجانين، وسفهاء!
ولا شك أننا عشنا ثلاثين سنة في عهد شخص تافه، كان تافها حين تولى الحكم، وظل تافها إلى أن غادره مهزوما مدحورا.
لقد خُلع رغم أنفه، ورغم أنف مجلسه العسكري، ورغم أنف كل حلفائه الدوليين والإقليميين.. ومن يظن غير ذلك ما هو إلا مهزوم يكتب النصر بحبر الهزيمة بأثر رجعي، ويشوه تاريخ ثورة يناير بأكثر مما يفعل أعداؤها.
لم أشعر بأي شيء حين قرأت خبر وفاته. أنا لا أكره مبارك، غاية ما في الأمر أنني أحب مصر.. لم أهجه لأنني أبغضه.. فلا شيء بيني وبينه.. لقد هجوت الظلم.. وهو عندي (حيا وميتا) أتفه من أن أعاديه لشخصه!
لم ألتقِ به في حياتي، ولا ثأر شخصيا بيننا، اللهم إلا حق البلاد وأهلها في العدل، فهذا بالنسبة لي شأن ملتبس.. مصر وطن وعشق.. أرض وأم.. وخيانة مصر في نظري شأن عام وخاص في الوقت نفسه!
* * *
أختلف مع كثير من الرفاق الذين ترحموا عليه، أو صوروه كخصم شريف أو شبه شريف، فهو لم يعرف الشرف في خصومته يوما، وكل من يدعي أنه (سمح بمساحة من الحرية) مُحرّفٌ لتاريخ المرحلة عرف أو لم يعرف، لأن جميع مساحات الحرية في عصره كانت منتزعة ببطولات ومخاطرات، بعرق ودماء.. وقد خاض هذا المخلوع معارك كثيرة وخسرها، ولعل البعض يذكر معركة القانون 93 لعام 95 المتعلق بتكميم الصحافة.
لقد زادت مساحة الاستبداد في عصره، على عكس ما يحاول البعض أن يصور، فكل ما كان بالانتخاب في عام 1981م أصبح بالتعيين في عهده، بداية من شيخ الغفر والعمدة في القرية المصرية، وصولا إلى رئيس الوزراء، مرورا بعمداء الكليات ورؤساء الأقسام، وإمام ومؤذن وفراش المسجد.. الخ.. حتى المناصب التي ظلت بالانتخاب.. كانت أجهزة أمن مبارك تتدخل فيها بكل ما أوتيت من قوة، لدرجة أنها أصبحت في أواخر عهده تتدخل حتى في انتخابات الأندية الرياضية!
لقد خاضت المعارضة المصرية معارك كبرى في عصر مبارك، وكل مساحة حرية كانت موجودة في ذلك العصر جاءت بعد نضال استمر سنوات وسنوات.. لا منة من المخلوع وعصابته.
* * *
في النهاية.. أقول لكل من يترحم عليه.. ها هو سدّ النهضة أمامكم.. فترحموا على مبارك الذي صعّر خدّه لإفريقيا كلها، وترك إسرائيل وأمريكا تعبث بأمننا القومي.. حتى خسرنا وقوف السودان نفسه في صفنا!
ترحموا عليه وهو الذي تسبب في أن تكون قيادات الدولة بمثل هذا الشكل المسخ الذي نراه اليوم!
موقع الكتروني: www.arahman.net