من نعمة الله على البشر أنه يسخّر أناسا لنصرة الحق وكتابة التاريخ الصحيح للأمة، ليقولوا للمحسن أحسنت وللمسيء أسأت.
بدأ الرئيس المخلوع حسني
مبارك ولايته بالحرص والتقرب للعمال، وقال إن الكفن ليس له جيوب، وإنه يلبس من ملابس غزل المحلة. وزار المصانع وتكلم مع
العمال، محاولا إعادة صورة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر تجاه العمال (بعكس ما فعل الرئيس الأسبق محمد أنور السادات).. وأغلق باب الاستيراد قليلا، وتحدث عن حق العمال ومحدودي الدخل، وحرية النقابات.. ولكن ذلك لم يستمر كثيرا، حيث أطلق الأمن على العمال، وأراد أن يقص ريش العمال حتى ضاق الحال بالعمال، وبدأ الحراك كالعادة بإضراب المحلة عام 1983، وتم حبس 111 من عمال المحلة حينها بواسطة جهاز أمن الدولة.
ثم عاد العمال بإضراب عمال شركة أسكو عام 1986، وكان إضرابا كبيرا أيضا. واستمرت إضرابات العمال اعتراضا على الأوضاع السيئة لهم في 1987 و1988، حتى كان إضراب العمال في شركة الحديد والصلب بحلوان 1989، وكان ذلك في عهد وزير الداخلية الفرعون الآخر، زكي بدر، والذي أمر قوات الأمن المركزي باقتحام المصنع بالدبابات، مما أدى إلى وفاة العامل "عبد الحي محمد" على ماكينته التي يعمل عليها، وكأنه كان يحتمي بها، ولكنه كان يودعها قبل استشهاده على يد الشرطة بقيادة وزير الداخلية الذي اجتمع الشعب
المصري كله على كراهيته (زكي بدر)، و"مبارك" الذي عيّنه. ولقد برّر الوزير فعلته باتهام الشيوعيين والإخوان، كما يحدث الآن في عصرنا الحالي، رغم أن مصر من أولى الدول التي اعترفت بحق العمال بالإضراب، وهي أكثرها انتهاكا لهذا القانون، لكي يتم إرهاب العمال.
ولكن العمال استمروا في المقاومة والمطالبة رغم الاضطهاد الأمني، حتى جاء إضراب عمال شركة كفر الدوار عام 1994، وكانت المطالب: حل مجلس إدارة النقابة بالمصنع، وتحسين الأجور، ولكن مبارك سلّط عليهم الأمن الذي اقتحم المصنع بالدبابات مما أسفر عن وفاة ثلاثة من عمال المصنع وإصابة 35 آخرين. وكانت حادثة سمع بها كل الشعب المصري وخاصة عمال مصر.
وقد بدأ "مبارك" في خصخصة شركات
القطاع العام، وتشريد كثير من العمال بعد تقليل العمالة من قبل المستثمرين لزيادة الأرباح على حساب قطع الأرزاق لعمالة مهرة ومُدربة، لتنزل إلى سوق العمل وتعمل في قطاعات خدمية وتخسر الدولة خبرتهم، كأن يعملوا كسائقي تكسي، أو في محلات البقالة أو أكشاك السجائر.. وتزداد طبقة الأغنياء ثراءً في سنوات معدودة بعد نهب أموال الشعب من خلال شراء شركات القطاع العام، ومنهم أحمد عز الذي استولى على مصنع الدخيلة للحديد والصلب، وربح 30 مليارا في خلال أربع سنوات. وتم تخفيض أجور العمال جميعا حتى ضاق بهم الحال، إلى أن انفجر عمال المحلة في كانون الأول/ ديسمبر 2006 الذي يُعد أكبر إضراب في المحلة بعد اعتصام 24 ألف عامل وإضرابهم عن العمل، وكان الداخل والخارج يساندهم في تحقيق مطالبهم المشروعة، ومن مطالبهم صرف الأرباح السنوية بحد أدنى 24 شهرا كنسبة من الأرباح سنويا
وجاء عام 2008 الذي شهد ظهور حركة 6 أبريل مع عمال غزل المحلة، والدعوة لعصيان مدني، وامتلأت المحلة بقوات الأمن المركزي والاعتداء على العمال بالغاز والهراوات، وتم إسقاط صورة مبارك على الأرض لأول مرة، ليتم بذلك فتح الطريق لثورة يناير 2011.
ولكن قبل الثورة كان هناك إضراب واعتصام لموظفي الضرائب العقارية في 2009، والذي نشأت بعده النقابات المستقلة للضرائب العقارية، واتضح للعمال أن النقابات المستقلة هي الحل بعيدا عن الاتحاد العام لعمال مصر، وبدأ العمال يهاجمون اتحاد عمال مصر ويطالبون بإسقاطه. فقد شارك العمال في ثورة يناير من البداية في ميدان التحرير، وانضم كثير من المصانع في أنحاء الجمهورية، مما عجل بسقوط مبارك وتسلم المجلس العسكري إدارة شؤون البلاد.
وفي ظل وجود فساد مُتجذر في نظام "مبارك" وصل حد "الركب"، كما قال في مجلس الشعب القيادي في الحزب الوطني المنحل، زكريا عزمي، لم يكن من الصواب تفعيل الخصخصة، ولكن تم ما أراده الفاسدون، وحدث بيع القطاع العام وتصفيته شيئا فشيئا. وكانت هناك خصخصة جزئية وأخرى كلية، وذلك لكسب العمولات على حساب الشعب الغلبان، وعلى مستقبل الأجيال القادمة، ولتشريد العمال.
وبالطبع لسنا ضد الخصخصة بالكلية، خاصة لو كانت على غرار التجربة الفرنسية، حيث البيع مع الاحتفاظ بجزء من كل شركة؛ يمنح الدولة التحكم في البيع مع الإشراف على سير العمل بكل شفافية، وبأسعار السوق الحقيقية. وكان ذلك في عهد الرئيس جاك شيراك، ولكن في مصر في عصر مبارك وضعت الشركات العامة في قضبة مجموعة من الشركات القابضة لكل مجال مع الاستمرار في الخصخصة الكلية للشركات. وما أشبه اليوم بالبارحة، فقد تم الاستيلاء على ما تبقي من شركات قطاع الأعمال.